كتب فيلسوف أكسفورد الكبير آر. جي. كولينغراد في كتابه “سيرة ذاتية” أن “الماضي الذي يدرسه مؤرخ ما ليس ماضيًا ميتًا، ولكنه ماضٍ مستمر بالعيش في الحاضر بمفهوم ما”، بمعنى أن “المعرفة التاريخية هي إعادة إحياء فكرة ماضية بعد تضمينها في سياق أفكار حاضرة”، وينتج عن هذا التضمين مجموعة سياقات تشكل بمجموعها اللاوعي الجمعي لأمة ما، والذي يقرر الاتجاه الذي تختاره “عندما تتفرع أمامها السُبُل”، على حد قول نيال فرغسون أستاذ التاريخ الأبرز في جامعة هارفرد.
اليوم تعيش الأمة التركية واحدة من اللحظات الهامة في تاريخها المعاصر، والتي لا محالة سيكون لها تداعيات عميقة على مسيرتها المستقبلية
واليوم تعيش الأمة التركية واحدة من اللحظات الهامة في تاريخها المعاصر، والتي لا محالة سيكون لها تداعيات عميقة على مسيرتها المستقبلية، وبما أن الماضي خزان المستقبل، سيكون من الفائدة الوقوف على بعض اللحظات التاريخية التي كان لها من الأهمية ما لهذه اللحظة الراهنة، ولا شك أن تضمين تلك اللحظات الماضية بهذه اللحظة الراهنة سيخلق سياقًا ينتج عنه مزيدًا من الوعي والإدراك لاختيار أفضل السبل التي تخدم حاضر الأمة التركية ومستقبلها.
وقعت الحادثة الأولى في 11 حزيران من العام 1826 حينما قام 200 جندي تركي بالاستعراض أمام ثكنة من ثكنات الانكشارية في مدينة إسطنبول مرتدين الزي الجديد والذي صمم على الطراز الغربي، لم يرق هذا الاستعراض للجنود الانكشارية الذي كان يمثلون النموذج القديم في العسكرية، حيث قاموا بعد ذلك بيوم واحد بالتجمع بأعداد قدرت بحوال 20 ألف للاحتجاج هاتفين: “لا نريد هذه التدريبات العسكرية التي يجريها الكفار”، وهددوا بالزحف نحو قصر السلطان محمود الثاني وخلعه، استغل السلطان هذه الحادثة وقام من خلال الاستعانة بوحدات الجيش الجديد بالهجوم بشكل على ثكنات الانكشارية، والقضاء عليهم في 17 حزيران من ذات العام.
كان ذلك إعلان ولادة الجيش العثماني الجديد الذي أصبح يتبع الطراز الأوروبي في اللباس والتنظيم والاستعراضات، حيث عرف عن السلطان محمود الثاني شغفه بالموسيقى الإيطالية، لم يكن التحديث العسكري فعلًا منعزلًا بل كان في سياق موجة من التحديث التي شملت مجالات أخرى في الدولة، حيث كانت المطبعة قد دخلت السلطنة في العام 1727، والتي مهدت بدورها لحلول حقبة التنظيمات في عهد السلطان محمود الثاني وعبد الحميد الأول والذي أحب بدوره أن يعطي السلطنة وجهًا جديدًا فقام ببناء قصر “دولما باهشة” والانتقال إليه تاركًا قصر “توب كابي” الذي يمثل العهد القديم.
كان التحديث على النمط الأوروبي هو السياسة الثابتة للسلاطين على تعاقبهم، ومع انهيار الدولة العثمانية، أخذ هذا التحديث نمطًا راديكاليًا مع مجيء مصطفى كمال أتاتورك، وهو أحد الضباط الذي تخرجوا من الكليات العسكرية التي بنيت على النمط الغربي، لم يعد التحديث سياسة عاملة للنخبة السياسية الجديدة بل أصبح أيديولوجيا تقع على من يخالفها أشد العقوبات.
قامت العقيدة التغريبية للنخب التركية الجديدة على نفي الهوية، لم يعد يكفي أن يرتدي التركي لباسًا أوروبيُا ليعد غربيًا، بل أصبح من الواجب عليه أن يتكلم، وأن يكتب، وأن يفكر بالطريقة الأوروبية، ولذلك كان لا بدَّ من ولادة جديدة للأمة التركية.
أعلن أتاتورك عن هذه الولادة في أحد مساءات شهر آب من العام 1928 في حديقة “غول هانيه” والتي كانت تتبع قصر “توب كابي”، خاطب كمال حشدًا كبيرًا من المدعويين، وما لبث أن طلب من أحد الحضور الصعود إليه وقراءة ورقة كانت في يده، عندما نظر إليها المتطوع دُهِش ولم يستطع قراءة شيء منها، فقد كانت مكتوبة بأبجدية لاتينية وهو الأمر الذي لم يكن معهودًا في السابق، ثم ناولها أتاتورك لأحد معاونيه حيث قرأها بطلاقة، وكان مكتوب فيها: “ستقدر لغتنا الغنية والمنسجمة على إظهار نفسها مع الأحرف التركية الجديدة (الأحرف اللاتينية)، يجب علينا أن نحرر أنفسنا من هذه العلامات غير المفهومة (الأبجدية العربية) التي قيدت عقولنا بأصفادٍ حديدية طوال قرون عديدة، يجب علينا تعلم الأحرف التركية الجديدة بسرعة، احسبوا ذلك واجبًا وطينًا وقوميًا، إنه لمن العار على الأمة أن تشتمل على 10 إلى 20% من المتعلمين فقط، والباقي من الأميين، يحب علينا إصلاح هذه العيوب، ستُظهر أمتنا بحروفها وعقليتها أن مكانها هو مع العالم المتحضر”.
كان تغريب اللغة التركية – أي كتابتها بالأحرف اللاتينية – المظهر المدهش لعقيدة أتاتورك التحديثية، كان يملك رؤية محددة لتركيا الحديثة تمامًا كمان كان السلطان محمود الثاني يملك رؤية تحديثية للدولة، وبعيدًا عن محاكمة الرؤيتين أخلاقيًا، فما يهمنا هو أن كلا الرجلين كان صاحب مشروع، وقد خاض التحدي والمخاطرة لتطبيق مشروعه على أرض الواقع.
واليوم، يقف الرئيس الحادي عشر للجمهورية التركية رجب طيب أردوغان أمام حشد مهول من الشعب التركي في ساحة “يني كابي”، يشابه من حيث الرمزية ذلك الحشد الذي وقف أمامه كمال أتاتورك قبل ما يقرب من المائة عام في “غل هانه”، ليعلن عن ولادة أخرى للأمة التركية تقوم هذه المرة على استرجاع الهوية بعد نفيها، وليضع مفهومًا جديدًا للحداثة يقوم على الاستقلال كمنهج، وترسيخه ليس على مستوى الحدود بل على مستوى العقول والمؤسسات.
وهنا يغيب ولأول مرة عن مشروع التحديث التركي البعد الأفقي (شرق – غرب) ليبرز البعد العامودي داخل الأمة التركية ذاتها بما يشمل كافة قطاعاتها، ولتحقيق ذلك فلا يكفي تأسيس جيش جديد، أو أناشيد جديدة، أو قصور جديدة، أو أبجدية جديدة، بل ما تحتاجه تركيا هو نظامًا فعالًا يقوم على مؤسسات منسجمة فقط مع مصالح الدولة والشعب التركي، وليست مرتهنة لأي جهات خارجية، ولكن هل يمكن أن ينشأ مثل هذا النظام من غير دستور جديد؟