لقد عاشت تركيا لحظات عصيبة مساء الخامس عشر من يوليو/تموز الماضي، حيث انبرت طغمة عسكرية في الجيش التركي تأتمر بأوامر فتح الله غولنللقيام بمحاولة انقلابية لجأت فيها إلى العنف وإطلاق النار على المدنيين والعسكريين، وقامت بقصف مجلس الأمة الكبير (البرلمان التركي)، وكذلك المجمع الرئاسي ومقر القوات الخاصة.
لكن الشعب التركي تصدى لهذه المحاولة الغاشمة بصدوره العارية، فانطلق إلى الشوارع يقف في وجه الدبابات دون تردد، وعلت أصوات النداءات والدعاء من مآذن المساجد في عموم تركيا تدعو المواطنين للانتصار لوطنهم وحقوقهم والاستجابة لنداء رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، الذي دعا المواطنين للانتصار لديمقراطيتهم.
لقد انجلت هذه الليلة عن ارتقاء قرابة 250 شهيدا، وجرح ألف وخمسمئة آخرين، إلا أن دماء الشهداء وأصوات المآذن لم تذهب سدى بل وضعت حدا لمحاولة انقلابية أخرى، كانت ستضر بحقوق البلاد والعباد.
إن من وقف خلف هذه المحاولة الإجرامية هو تنظيم طالما تستر بالإسلام وقيمه السامية على مدى أربعين سنة خلت، وقد أقدم هذا التنظيم الذي رفع شعارات “الإسلام الوسطي” و”حوار الأديان” والتسامح والتصالح على هذه الخيانة في ليلة السادس عشر من تموز، ولم يتورع عن استخدام العنف والإجرام لتحقيق أهدافه.
ينبغي على الشعب التركي أن يحذر إخوانه المسلمين في العالم من جماعة كولن، فالدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
ومن المؤسف أن هذا التنظيم استخدم شعارات الإسلام وقيمه السامية ليزرع الفتن ليس في تركيا فحسب بل في كل بلاد العالم الإسلامي وخارجه على مدى الأربعين سنة الماضية، وكانت أدواته في خداع الناس قائمة على التواضع الكاذب والدمعة المصطنعة والنصيحة المدّعاة، متحركا بثياب فاعل الخير والساعي لخدمة الناس، ولكنه بجريمة الانقلاب فضح نفسه وكشف سره، بأنه كان يخطط لشر عظيم وقى الله الشعب التركي منه. وينبغي على الشعب التركي أن يحذر إخوانه المسلمين في العالم منه، فالدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
لقد أثبتت المحاولة الانقلابية التي أقدمت عليها هذه الجماعة أن التدين القائم على تسليم العقل للآخرين وعلى الطاعة العمياء من دون تفكير لن يكون وباله على صاحبه فحسب بل سيجر المصائب على الأمة جمعاء. كما أثبتت التجارب أن من يستخدم حيل السياسة باسم الدين سوف يجعل من الأخلاق وقيم الإسلام السياسية أداة للتحايل والخداع في مشروعه، وهذا فعل يسيء للدين والمتدينين معا، فالدين ليس ملكا شخصيا، ومن غير المقبول ولا المعقول أن يرى أي طرف أو أي جهة نفسها الممثلة الحصرية لدين الله.
لقد شوه فتح الله غولن وتنظيمه تعاليم ديننا السمحة، عندما حصر تفسير الدين في فهمه، والخطر من ذلك أن يستخدمه في استباحة دماء المسلمين، وقتل أبناء وطنه وأمته بغير حق، بل عدوانا وظلما وجورا وفسادا وإفسادا في الأرض، فنبينا صلى الله عليه وسلم الذي أرسل رحمة للناس أجمعين قال “كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه”، وقال “المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه”، وقال “المؤمن من أمنه الناس”، وقال “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، لكن هذا التنظيم المجرم بزعامة قائده المقيم في الولايات المتحدة الأميركية فتح الله غولن عمد إلى تشويه الدين وأخلاقه السامية باللجوء إلى وسائل لا يبيحها الشرع، فعاث في الأرض فسادا طمعا بالسلطة التي لا يستحقها، ولم يطلبها بالطرق المشروعة.
لم يكن التعامل بين الناس بوجهين الذي هو من علامات النفاق الفعل غير الأخلاقي الوحيد الذي أباح التنظيم لأتباعه فعله وباسم الدين الحنيف، لكنه أيضا سمح لهم بارتكاب المحرمات من قبيل الكذب والتجسس والتنصت والابتزاز إذا ما اقتضى تغلغلهم في أجهزة الدولة فعل ذلك، بل وحتى ارتكاب المحرمات لإخفاء حقيقة توجهاتهم وانتماءاتهم. لقد أساءت هذه التصرفات للإسلام الذي جاء معلنا للناس أن “المسلم من سلم الناس من لسانه ويده”.
كما أن هذا التنظيم قد سعى لتخريب عقيدة المسلمين وأفكارهم، فمن المؤكد أنه يمكن بناء علاقات مشتركة لمواجهة القضايا التي تهم البشرية جمعاء من قبيل مواجهة الفقر والكوارث وغيرها. فكان الأحرى به أن يساهم في معالجة الفقر ومساعدة المساكين فعلا، ولكن بدل ذلك كان يسرقها منهم، فكان يأخذ من الناس وأتباعه أموال الزكوات وأموال المنح الدراسة ليضعها في بنوكه واستثماراته ومشاريعه الدولية، أو في وسائل إعلامه وصحفه وقنواته الفضائية التي تبث أكاذيبه وافتراءاته على الناس.
وبدل أن يجتهد هذا التنظيم وزعيمه في تقديم الإسلام بصورة ناصعة وطاهرة؛ أخذ التنظيم يسعى باسم حوار الأديان إلى العمل على تشكيل عقيدة وثقافة دينية مشتركة تؤدي إلى تمييع الدين، وهو أمر لا يمكن قبوله بأي شكل من الأشكال.
إن ما نذكره هنا هو غيض من فيض، وكلها تثبت أن تنظيم فتح الله غولن لا يمكن اعتباره تنظيما أو جماعة دينية، مهما ادعى خلاف ذلك، فهو يرى أن كل شيء مباح له في سبيل تحقيق أهدافه، وعنده أن الغاية تبرر الوسيلة. كما أنه يستغل الدين والمشاعر الدينية لسرقة صدقات وزكوات وتبرعات أبناء شعبنا، ويلجأ إلى التصرفات التي لا يبيحها ديننا ولا تقبلها أخلاقنا من نشر للفساد والعداوة والبغضاء ليستزيد من القوة والنفوذ، وقد تغلغل في كل مؤسسات الدولة جاعلا من مصير هذه الأمة ومستقبلها تحت خطر محدق، ولذا فهو لا يستحق وصف زعيم ديني أو سياسي، أو وصف معارض تركي، بعد أن قام بجرائمه في الانقلاب الدموي الغاشم، فقد ضبط متلبسا بالجرم المشهود ومن قبل الشعب التركي في محاولته الانقلابية الأخيرة.
ولما سبق لا يمكن اعتبار تنظيم فتح الله غولن تنظيما أو جماعة وطنية أو معارضة سياسية بأي شكل من الأشكال، وهو يخطط مع أعداء الإسلام والمسلمين لاحتلال تركيا وتسليمها لأعداء تركيا، أو لإدخالها في حروب وفتن أهلية لا يعلم خطورتها إلا الله تعالى.
لا يمكن لفتح الله غولن أن يدعي أنه عالم مسلم أو إمام من الأئمة، وقد انتهك المحرمات وأضر بالبلاد وقتل العباد وعرض شعبا كاملا للخطر، وعرض مئات ملايين الليرات التركية للخسارة والضياع بمغامرة جنونية خرقاء
ولا يمكن لفتح الله غولن أن يدعي أنه عالم مسلم أو إمام من الأئمة، وقد انتهك المحرمات وأضر بالبلاد وقتل العباد وعرض شعبا كاملا للخطر، وعرض مئات ملايين الليرات التركية للخسارة والضياع بمغامرة جنونية خرقاء، فهذا التنظيم الذي يلقب زعيمه نفسه بـ”إمام الكائنات” لا يمكن قبوله كعالم أو رجل دين إطلاقا، بل ويجب التعامل معه وفق القاعدة الأصيلة التي أرتها الآية الكريمة “من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا”. (سورة المائدة، الآية 32).
إن السعي لتعليم القرآن والسنة المطهرة ونشر أخلاق الإسلام وتعاليمه للناس هي من أسمى الأعمال، لكن هذه الفعاليات يجب أن لا تكون أداة لأهداف دنيوية وسعي للسلطة بطرق غير مشروعة، أو لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية دون وجه حق. ولا يمكن تبرير ما فعله هذا التنظيم المجرم من استخدام الدين لزيادة النفوذ وتحقيق المصالح بأي شكل من الأشكال، بل إن الوقوف في وجه هذه الأفعال والذب عن صفاء تعاليم ديننا الحنيف وظيفة ومهمة دينية وأخلاقية نبيلة، يتوجب القيام ببيانها من قبل علماء تركيا وعلماء الأمة الإسلامية.
إن المهمة الملقاة على الدعاة والعلماء هي مهمة عظيمة في توضيح المفهوم الصحيح للدين للناس والجيل الصاعد، خاصة بعد هذه المحاولة الإجرامية التي زعزعت من ثقة الشباب بالدعاة والعلماء والأئمة، فهذا أول انقلاب في التاريخ التركي يتزعمه من يدعي العلم والإمامة والدين، وهو ينتهك حرمات العلم والإمامة والدين أيضا. علينا أن نسعى لكسب ثقة الشباب من جديد بعد خيبة الأمل التي عاشوها جراء ممارسات التنظيم الذي تستر باسم الدين لتحقيق أهدافه الدنيوية غير المشروعة، كما أن علينا أن نوضح لهم بما لا يدع أي مجال للشبهات أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
لقد تميز هذا الانقلاب عن غيره من الانقلابات الأربعة التي وقعت في تركيا بأشياء كثيرة، لعل من أهمها: أن الانقلابات العسكرية السابقة عملت على إسكات الأذان، بينما عمل الأذان هذه المرة على إسكات الانقلابيينودحرهم، لأن الأذان نادى حي على الفلاح في مقاومة الظلمة والظالمين، ودحر القتلة والانقلابيين، فرفعت المساجد نداءاتها عالية مدوية في الساعات الأولى للانقلاب: الله أكبر الله أكبر، حيث كانت جموع الشعب تتعرف على الحدث الجلل والخطير من المآذن قبل سماعها الأخبار، فكبرت وخرجت إلى الميادين والشوارع وهي تكبر وتُشهد وتسطر ملحمة نصر جديد، تحفظ الأمة من كيد الخائنين ومن كيد من سولت لهم أنفسهم ظن السوء، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، والحمد لله رب العالمين.
المصدر: الجزيرة نت