خاضت كتائب المعارضة السورية المسلحة معركة مصيرية انطلاقًا من أحياء مدينة حلب المحاصرة الواقعة تحت سيطرتهم، أمام آلة النظام السوري العسكرية المدعومة روسيًا بالإضافة إلى المليشيات الطائفية الإقليمية التي تساند النظام.
انتهت المراحل الأولى للمعركة بالسيطرة على أكثر من 20 موقعًا لقوات النظام خلال معركة فك الحصار من قبل فصائل المعارضة المسلحة، مع بسط النفوذ على ما يزيد عن 50 كم مربع، وهو ما يُعادل ربع مساحة مدينة حلب، خلال أقل من أسبوع واحد.
تلك المعركة التي ستحمل من التبعات الكثير على الثورة السورية خاصة وأنها من أكبر معارك الثورة منذ 5 سنوات، شارك فيها أكبر عدد من فصائل المعارضة المسلحة في حلب، وصمدوا أمام مئات الغارات الجوية لسلاح الجو النظامي والروسي، وقد أوقعت هذه المعركة خسائر كبرى في صفوف النظام السوري والمليشيات الطائفية المقاتلة بجواره.
ومع إطلاق “جيش الفتح” – تجمع لفصائل معارضة مسلحة سورية – رأس حربة معركة “الغضب لحلب” لمرحلة جديدة من الحرب في حلب تستهدف السيطرة على كامل المدينة، نضع في نون بوست هذه الرؤية الاستشرافية بين أيديكم، لمحاولة معرفة مآلات هذه المعركة والمستقبل الميداني والسياسي للثورة السورية بعدها.
كيف كُسر الطوق عن مدينة حلب؟
ظهر في الأوساط الإعلامية التي تغطي الأوضاع الميدانية في الداخل السوري أن المعركة الحالية تستهدف فك الحصار عن الأحياء المحاصرة من مدينة حلب فقط، بعد قطع قوات النظام طرق الإمدادات عنها، ولكن هذا الهدف كان واحدًا من ضمن عدة أهداف وضعتها غرفة العمليات التي قادت معركة “الغضب لحلب” التي اعتبرت للدفاع عن آخر معاقل الثورة السورية ذات الثقل.
وللحديث عن الأهداف البعيدة المستقبلية للمعركة التي لم تنته بعد تواصل نون بوست في حديث خاص من داخل جبهة المعركة في سوريا مع أسامة أبو زيد المستشار القانوني للجيش السوري الحر.
حيث أكد أبو زيد أنه بعد 4 أيام من المعارك الشرسة ورغم اشتراك الطيران الروسي بشكل مباشر في المعركة، ووجود آلاف بجانب النظام ممن وصفهم بالمقاتلين “المرتزقة”، وأن كل ما سعى إليه النظام خلال الأشهر الماضية من إجراءات لإحكام الحصار، استطاعت كتائب المعارضة المسلحة أن تدمره خلال 4 أيام فقط، حتى كسر الطوق عن مدينة حلب.
أبوزيد أضاف أن المعركة كانت بالتنسيق مع الفصائل المعارضة خارج نقاط الحصار، وهو ما ظهر جليًا في معركة الراموسة، بعد أن أنجز كلا الطرفين المهمة المطلوبة منهما، حتى تم اتصال أجزاء الراموسة الواقعة تحت سيطرة الطرفين.
المعركة لم تكن لفك الحصار عن حلب فقط
أشار أسامة أبوزيد إلى أن المعركة لم يكن هدفها كسر الحصار عن مدينة حلب فحسب، ولكنها عملية لتحرير كامل مدينة حلب، وهي من 6 مراحل أنجز منها بحسب تصريحه 3 مراحل فقط، وهو ما تعمل قوات المعارضة على استكماله خلال الساعات القادمة، بعد أن أعلنوا منطقة “الحمدانية” و”مشروع 3000 شقة” منطقة عسكرية، وكذلك أكد أن طريق الكاستيلو ومنطقة الملاح سيكونا ضمن الأهداف المقبلة لكتائب المعارضة، وأنه لن تتوقف هذه العملية قبل تحرير كل المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام في محافظة حلب.
ويكمل أبو زيد تصريحاته الخاصة إلى نون بوست بقوله أن هذه المعركة لم تكن معركة بالمفهوم الدارج وإنما كانت انتفاضة شعبية، بسبب ارتفاع الحالة المعنوية للسوريين وقت انطلاق المعركة، وهو ما جعل الكثيرين يتفاعلون معها، حتى أبناء المناطق المحاصرة الأخرى.
وهو ما يؤكد أبوزيد على إثره أن الوضع دخل في مرحلة الانتفاضة الشعبية، التي كانت أحد أهم عوامل نجاح المعركة، وعليه ستنطلق العديد من المعارك في الأيام القادمة حتى خارج مدينة حلب.
أهمية معركة حلب
وتأكيدًا على أهمية معركة حلب الحالية قال الإعلامي والمراسل الميداني معن الخضر إنه لأول مرة منذ سنوات يسيطر الثوار على هذه المساحة وهي أكثر من 50 كم مربع خلال أسبوع، ولأول مرة منذ تدخل الروس يخسر النظام أكبر قواعده العسكرية جنوب حلب.
مؤكدًا أن ما جرى هو كسر لخط تصاعدي للنظام منذ نهاية العام 2013، حيث بدأ فيه هجومًا استمر 3 سنوات، وانتهى قبل 20 يومًا بحصار حلب، وهو ما احتاج معه الثوار فقط مدة أسبوع لتبديد نتائجه، وتحويل النظام من منتصر إلى خاسر لأهم خطوط إمداده نحو حلب.
ما الهدف القادم للثوار بعد فك الحصار عن حلب؟
بعد إحراز المعارضة السورية المسلحة هذا التقدم الاستراتيجي في هذه المعركة الحرجة، يطرح الوضع الميداني تساؤلًا ملحًا عن الهدف القادم للثوار بعد فك الحصار عن حلب، وهو ما سألنا عنه الكاتب السوري باسل حفار.
باسل أكد لنون بوست أن الهدف القادم يمكن تلخيصه في نقطتين، أولهما، استكمال تحرير النقاط العسكرية ومراكز تواجد النظام في حلب، وإحكام السيطرة على الطرق والمرافق العسكرية في أنحاء المدينة.
وفي إطار حديثه عن القدرات الميدانية لكتائب الثوار، وهل هي قادرة على معركة السيطرة على كامل حلب، أم ستكتفي بتأمين طرق الإمداد لمنع الحصار، يقول باسل حفار إنه بحسب المؤشرات التي ظهرت خلال عملية فك الحصار عن حلب فلا شك أن فصائل الثورة تملك من الإمكانات والقوة المادية والمعنوية ما يمكنها من تحرير حلب.
ولكن بحسب قوله هناك عوامل أخرى تتعلق باستكمال عملية التحرير مثل الحاضنة الشعبية في المناطق غير المحررة التي تراقب عن كثب تجربة المناطق المحررة وطريقة إدارة وتعامل الثوار مع المناطق التي تخضع لسيطرتهم.
وأيضًا يُشير إلى بعد آخر متعلق بالمحيط الإقليمي والدولي في مسألة استكمال التحرير، لأن حلب مدينة تاريخية ولها بعد تاريخي وميداني معين في المنطقة، كما أنها توصف اليوم على أنها بيضة الميزان في الصراع في سوريا، وهو ما يعني أن أي طرف سيحدث تقدمًا معينًا في هذه المنطقة لن يمكنه اتخاذ هكذا قرار وحده.
إلا أن الكاتب السوري يرى أن التقدم والانتصار في حلب بالتأكيد له أثر إيجابي على مسار الثورة في كل المناطق، إضافة إلى البعد الميداني حيث خسر النظام نقاطًا عسكرية هامة بالنسبة له، كانت تشكل منطلقًا للتحشيد والمواجهة في حلب وغير حلب، ولو استكمل الثوار تحرير حلب فستكون ضربة كبيرة جدًا للنظام، بحسب قوله.
لماذا انتصر الثوار في هذه المعركة بالتحديد رغم أن المعارضة شهدت موجة تراجع كبيرة الفترة الماضية؟
في إجابة على تساؤل نون بوست أجاب حفار بأن موجات التراجع التي شهدتها فصائل الثورة السورية خلال الفترة الماضية كانت بسبب المعركة غير المتكافئة التي تضمنت الهجمة الواسعة لسلاح الجو الروسي في مناطق لم تكن مهيأة في وقتها للتعامل مع هذه الهجمة، وحدث ذلك وسط حديث عن مشروع حل سياسي تضمن ضغط دول الإقليم على الثوار وقطع الدعم عنهم، ولكن سرعان ما استوعب الثوار الهجمة بحسب رأيه وأعادوا تنظيم الصفوف، وها هم اليوم يستعيدون ما خسروا إضافة لمناطق جديدة.
ولكن التحدي الأبرز بحسب رأي حفار الذي كان ولا زال يواجه الثوار هو كيفية إدارة المناطق المحررة، والحفاظ على دوران عجلة الحياة فيها، وتقديم النموذج الحضاري الذي يعكس القيم والأهداف التي قامت لأجلها الثورة، وهو ما نصح به الثوار أن يكون هذا المشروع هو شغلهم الشاغل.
الدور الإقليمي في معركة حلب
ازداد اللغط في الآونة الأخيرة حول مسألة وقوف قوى إقليمية وراء تقدم كتائب المعارضة المسلحة في سوريا أمام النظام السوري وحلفائه في معركة حلب وهو تقدم ملحوظ وعلامة فارقة في تاريخ الثورة السورية، خاصة مع ذهاب البعض إلى أن الحرب في سوريا تحولت إلى حرب بالوكالة، مع دعم قوى إقليمية ودولية لفصائل مقاتلة على الأرض، وكذلك مع الدعم الروسي والإيراني المقدم للنظام والمليشيات المحيطة به.
وعلى افتراض وجود تدخل إقليمي في المعركة، فإنه بالأقرب سيكون تدخلًا تركيًا بسبب عوامل عدة منها الجيوسياسي والعسكري، ولاستجلاء هذه الفرضية تواصل نون بوست مع الباحث في الشؤون التركية الدكتور سعيد الحاج.
صرح الدكتور سعيد الحاج لنون بوست أن لحظة الانقلاب في تركيا أثرت في كثير من الملفات الداخلية والخارجية، وبطبيعة الحال ستلقي بثقلها على الملف السوري بطريقة أو بأخرى، لكنه لا يعتقد أن الأيام القليلة الماضية كفيلة بإحداث تغيير جذري دراماتيكي كبير في السياسة التركية تجاه الملف السوري بما ينعكس على التقدم الأخير في حلب.
وأضاف أن فشل المحاولة الانقلابية في تركيا له رسائل خارجية ستتعامل معها القيادة التركية الفترة القادمة، ومن ناحية أخرى التحقيقات والتوقيفات الكبيرة التي طالت قطاعات كبيرة من المؤسسة العسكرية التركية، وبالتحديد في قطاع الجندرمة، والتي ثبت بعد ذلك أنها قطاعات كانت على تماس كبير مع الملف السوري، ستعطي فرصة للقيادة السياسية التركية لإعادة هيكلة المسؤولين عن الملف السوري داخل المؤسسة العسكرية التركية، وبالتالي سيعطيها فرصة التفاعل بشكل أفضل الفترة القادمة.
ولكنه يرى في نهاية المطاف أن الأيام الماضية لم تحمل أي إشارات واضحة على وجود دعم تركي يتخطى السقف التقليدي السابق، بل يمكن القول أن ما حدث بعد الانقلاب كان على العكس تمامًا بسبب اضطرار تركيا لعملية الانكفاء على الداخل التركي وملفاته الساخنة، بحيث أن القيادة التركية أعطت الأولوية لعملية التحقيق الداخلي في المحاولة الانقلابية الفاشلة، ومكافحة التنظيم الموازي في مختلف مؤسسات الدولة، ومن ثم إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، وعلى ذلك رأى أن الأحداث التركية الأخيرة من الممكن أن تكون حملت إشارات معنوية للداخل السوري، لكنه ليس دعمًا مركزيًا مباشرًا من الحكومة التركية.
كيف ستتعامل تركيا مع الملف السوري في الفترة المقبلة؟
يستكمل الدكتور سعيد الحاج حديثه إلى نون بوست ويُشير إلى أن طريقة تعامل النظام التركي مع الملف السوري على المدى الاستراتيجي المتوسط إلى البعيد سوف تتوقف على طريقة تعاطي تركيا مع آثار المحاولة الانقلابية خارجيًا وكذلك تبعات ذلك على العلاقة مع الولايات المتحدة وروسيا.
فهو يرى أنه إذا ما قررت تركيا أن تتخذ موقفًا سلبيًا من الذراع الخارجية للمحاولة الانقلابية وتحديدًا الحلفاء الغربيين، فربما يؤدي هذا إلى نوع من التصعيد، ولكنه يتوقع في نفس الوقت أن الاتجاه التركي سيميل إلى التهدئة وتخفيف التوتر، بمعنى الاستمرار في عملية يُطلق عليها “تدوير الزوايا” في العلاقات الخارجية، والتي كانت قد بدأت قبل المحاولة الانقلابية الفاشلة مع الإمارات وروسيا والكيان الصهيوني.
لذلك فإن تركيا من المتوقع جدًا أن تستمر في هذا الاتجاه لأنها تدرك بحسب رأيه سخط الغرب على سياساتها سواء قبل الانقلاب أو بعده، وقد بدأت بالفعل في تخفيف لغة الخطاب تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما سينعكس بالطبع على سوريا.
هذا العامل لا يراه الحاج وحده كافيًا للحكم على مستقبل التعامل التركي في الملف السوري، لأنه إضافة إليه يجب أن يُتخذ في الحسبان قضية زيارة الرئيس التركي إلى روسيا، والتي بالطبع ستشهد مناقشات للملفات الخلافية بين البلدين وفي القلب منها القضية السورية، وهو مما يفتح الباب أمام القوتين لاستخدام أوراق الضغط التي لديهما، وبالتبعية ستكون هناك تنازلات متبادلة هنا أو هناك.
لكن طبيعة هذه التفاعلات التي ستتم في السياسة الخارجية التركية وبالتحديد فيما يتعلق بالعلاقات مع واشنطن وموسكو، هي التي ستحكم شكل الانعكاس على الأوضاع في سوريا، لكن من غير المعلوم الشكل المحدد لهذا الانعكاس، بمعنى أنه لا أحد يدري هل سينعكس هذا بشكل تقليل الدعم الروسي لنظام الأسد، هل سينعكس هذا على شكل تنازل روسيا عن دعم مشروع الدولة الكردية في الشمال السوري، أم أن الأمر ستكون له ارتدادت على المعارضة السورية في شكل ضغط تركي للقبول بالحل السياسي.
إذن يرى الدكتور سعيد الحاج أن ثمة تغير قادم في السياسة التركية تجاه الملف السوري سواءً بالسلب أو بالإيجاب، وهو ما ستتحكم به ملفات المفاوضات التركية الروسية القادمة بشكل كبير، سواء بالضغط أو الاحتواء، مع الأخذ في الاعتبار أن تركيا الآن باتت أكثر حاجة إلى روسيا من ذي قبل، وهو ما قد يعطي في تصوره بعض الضعف إلى الموقف التركي أمام الفاعل الروسي في سوريا، وفي نفس الوقت لا يمكن إغفال أن التقدم العسكري الأخير للمعارضة السورية في حلب قد يعطي دفعة قوية للموقف التركي، وتعطيه أوراق قوة على طاولة التفاوض مع روسيا، لكن يبقى الأمر رهين للتفاوضات وبالتالي لا يتوقع أي تغييرات جذرية قادمة من جانب تركيا تجاه سوريا.