لم تكن المحاولة الانقلابية الأخيرة في تركيا في ليلة الخامس عشر من يوليو/ تموز 2016 تشبه سابقاتها في كثير من الأمور، فقد كانت الأكثر دموية حيث فقد فيها حوالي 300 شخص حياتهم وأصيب أكثر من 1500 شخص، ولأول مرة في التاريخ التركي يتم قصف مبنى البرلمان التركي ومحيط مجمع القصر الرئاسي من قبل قوات خرجت من داخل الجيش التركي، ولأول مرة يشهد المواطنون الأتراك مثل هذه الأحداث من قصف واشتباكات، ولأول مرة يخرج الناس بهذه الطريقة وهذا الزخم من أجل مواجهة وإحباط المحاولة الانقلابية، حيث مرت عمليات انقلابية سابقة ولم يخرج الجمهور التركي لصدها.
في بداية الحدث تعرض كثيرون للتشوش والارتباك ولم يعرف الناس السبب الحقيقي وراء سماعهم لهدير الطائرات في سماء العاصمة التركية أنقرة، فقد ظنه البعض استعراضًا عسكريًا في مناسبة وطنية، ولكن هذا تبدد بعد أن أدركوا أنه لا توجد مناسبة وطنية، ولكن هذا التاريخ أصبح فقط منذ هذه الليلة مناسبة وطنية كبرى في تركيا.
وفي نفس السياق اعتقد كثير من الناس في إسطنبول أن الدبابات والجنود الذين خرجوا لإغلاق جسر البسفور الذي يربط قسمي إسطنبول الأوروبي والآسيوي أو الذين أغلقوا بوابات مطار أتاتورك الدولي إنما خرجوا من أجل إحباط هجوم إرهابي أو ما شابه، وليس هذا على مستوى الناس العاديين فحسب بل صرح مسؤولون كبار على غرار وزير الخارجية مولود تشاوش أوغلو وعدد من النواب الأتراك بمثل هذا الاعتقاد، وقليل من الناس فقط من اعتقدوا أن ما يجري هو محاولة انقلابية، حتى أولئك الذين عايشوا الانقلابات السابقة لم يعتقدوا أن ما يجري هو انقلاب منذ اللحظات الأولى، حيث قال بعض المواطنين الذين عايشوا عدة انقلابات إنهم لم يدركوا من الوهلة الأولى أن ما يجري هو عملية انقلاب عسكري.
عندما بدأ الناس يدركون الأمر من وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة خرج قسم منهم إلى الشارع لاستطلاع الأمر والذهاب إلى الأماكن والميادين الرئيسية وتزايد خروج الناس خلال ساعات الليل بشكل كبير كما توجه كثيرون إلى المواقع والمقار العسكرية ومقار البلديات الكبرى لحمايتها أو لإخراج الانقلابيين منها.
ووفق دراسة أجراها مركز سيتا للدراسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أنقرة فإن 3 من كل 4 أتراك قد خرجوا إلى الميادين عند سماعهم بخبر الانقلاب، وكان من أهم الحوافز التي شجعت الناس على الخروج للميادين ولأماكن المواجهات هو حديث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للناس ودعوته لهم بالخروج إلى الميادين وإلى مطار أتاتورك الدولي عبر اتصال مصور مع قناة سي إن إن التركية وتأكيده أنه بنفسه سيكون في الميدان.
أما الحافز الثاني فهو إعلان الجنود الانقلابيين عبر التلفزيون التركي الرسمي لبيان الانقلاب رغم أن البيان جاء قبل كلمة الرئيس التركي بحوالي 20 دقيقة إلا أن حديث أردوغان وفق المواطنين المستطلعة آراؤهم كان أكثر تأثيرًا في الناس وقد أعطاهم دافعًا أكبر للخروج، حيث تأكدوا من سلامته ومقاومته للمحاولة الانقلابية، لكن بيان الانقلابيين أكد للناس صحة وجود انقلاب وعرفوا أنهم أمام شيء جدي، حيث كان البيان هو مصدر المعلومة الرسمي الأول قبل كلمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
أما الحافز الثالث والذي كان له تأثير في خروج الناس فقد كان فتح المساجد لمكبرات الصوت بقرار من رئيس وقف الشؤون الدينية في تركيا البروفسور محمد غورماز ودعوة الناس للخروج من مكبرات الصوت من 90 ألف مئذنة في تركيا في أمر ذكر الناس بماضي الدولة العثمانية عندما كان يدعى للجهاد من المساجد، وقد ذكر كثير من المواطنين الأتراك أن سماعهم لأصوات تشبه الأذان من المساجد هو من حفزهم على الخروج للميادين، وفي هذا السياق وبالرغم من اعتراض بعض العلمانيين على هذا الفعل إلا أن غالبية الأتراك رأوا أن قرار رئاسة الشؤون الدينية كان صائبًا في فتح مكبرات الصوت في المساجد وأنهم يدعمون هذا القرار.
يقول أحد الشبان الأتراك إنه كان منهمكًا في إحدى ألعاب الكومبيوتر في أحد المقاهي ولما سمع صوت نداءات المساجد تدعو الناس للخروج لمواجهة المحاولة الانقلابية ترك ما في يديه وخرج مسرعًا متجهًا إلى شارع وطن الرئيسي في مدينة إسطنبول، ويبرر ذلك بأنه لو لم يخرج لربما جاء العسكر واقتادوه من بيته في اليوم التالي، أما أولئك الذين لم يخرجوا إلى الميادين فقد قالوا بأن عدم خروجهم كان بدافع الخوف أو الارتباك وعدم إدراك ما يجري في أول ليلة، لكنهم خرجوا إلى الميادين لدعم المسار الديمقراطي في الليالي اللاحقة.
على كل حال يعيش الشعب التركي في هذه الأوقات حالة معنوية ونشوة انتصار غير مسبوقة، حيث يشعر الناس بأنهم قاموا بحماية وطنهم وقدموا له خدمة جليلة خاصة مع وجود عدد من نماذج التضحية في مختلف المحافظات وتحديدًا في إسطنبول وأنقرة، ويمكنك أن تستشعر ذلك عندما تستمع إلى بعض المواطنين وهم يصفون دور الشعب فيما حدث بالقضاء على “محاولة احتلال تركيا”.
وختامًا فإن الشعب التركي أثبت أن وعيه السياسي أكبر مما كان يتصور الانقلابيون وأن وعيه وتقديره لمصلحته قد حفزاه لتقديم التضحية اللازمة وإحباط الانقلاب في وقت قياسي، ولعل هذا الأمر يحسب لحزب العدالة والتنمية الذي ساهم في زيادة مستوى الوعي السياسي وأعطى الطبقة الوسطى في تركيا مزيدًا من الحقوق والحريات التي كانت محرومة منها قبل مجيئه، وكان مظلة لكل الأتراك بشكل نسبي ولعل هذا النجاح سيكون حافزًا مهمًا ورافعة قوية للحزب في المستقبل لقيادة تركيا نحو مزيد من الإنجازات في كافة المجالات.