“في تقليب المواجع تجديد لحرارة الألم وتخليد له في الذاكرة الإنسانية التي تُنضجه فيكون رابطًا بين قلوب كافة الموجوعين..”.
هكّذا يوضّح عم خيري شلبي، السبب الرئيسي وراء رصده لهذه الحكايات التي تقطر ألمًا، والعمل على تدوينها فوق الورق، وتجميعها في كتاب لتكون متاحة للرائح والغاد.
فهذه المجموعة القصصية التي نُشرت طبعتها الأولى عام 2008، عبر الهيئة العامة لقصور الثقافة، ثم أعادت دار ميريت طبعتها في طبعة أخرى عام 2010، – أي قبل فترة وجيزة جدًا من الثورة المصرية المُجهضة – تُظهر للقارئ مدى الثقل الذي تنوء به هذه البلاد، مما جعل أهلها على شفا جرف هار، ما لبث أن انهار بهم وبمن يحكمونهم في جهنم غضب المقهورين والمظلومين.
“هذه أقاصيص من طفح الواقع المصري الراهن، مشحونة بعذابات مروعة، رأيتها لحظة حدوثها، حكايا لبشر تعساء لا ذنب لهم إلا قدرهم الذي أوجدهم في أشد عصور التاريخ فسادًا”.
يدّعي الحكّاء العظيم، أنه بريء من جرعة الكآبة المفرطة التي تشع من هذه المجموعة القصصية، فهذه الحكايات ليست من بنات أفكاره، وهو ليس إلا مجرد راصد لها، كتبها كما اختبرها بأم عينيه، ليكون شاهدًا عليها لا أكثر.
“ما أنا إلا حكواتي سرّيح، أشتري الحكايا من منابتها، أجوب وراءها الأسواق والشوارع والحارات والمنعطفات، مهما كلفني السعي وراءها من بذل ومشقة وعناء”.
تحتوي هذه المجموعة على 35 أقصوصة أو حكاية قصيرة، تنضح بالألم والقهر وتُخيّم عليها الكآبة وتنضح بالفساد من كل سطر من سطورها، حتى يُخيّل للقارئ أنها قصص حيّة من لحم ودم، يُمكنه أن يمد يده فيلمس أبطالها ويرى بأم رأسه معاناتهم مُجسدة أمامه.
فلقد برع الأديب الكبير – والحاصل على العديد من الجوائز الرفيعة في الأدب -، في نقل الحكايات بلغة مُبتكرة بين العامية والفصحى، ليشعر القارئ، أن هذه القصص كُتبت بحذافيرها كما ألقاها البسطاء والمهمشين قاطني الحارات والأسواق والأزقّة والقرى والنجوع، على مسامع الحكّاء الذي عمل فقط على تدوينها دون أن يمد قلمه نحوها.
تقليب المواجع
صوّرت هذه المجموعة القهر والتهميش الذي تعاني منه الطبقات الفقيرة والمعدمة، وصراعها مع الطبقة الغنية وأصحاب السلطة والنفوذ، ورموز الحكم في الدولة، من أول أمناء الشرطة المرتشين الفاسدين، وحتى الحكومة التي لم تُحرّك ساكنًا عندما نصبت شركات توظيف الأموال على الفقراء والمقهورين، كما رصدت الاستغلال والقهر الذي تعرضت له هذه الطبقات على أيدي الجميع.
وبالرغم من أن البعض يتهم “عم خيري” أن لغته ركيكة، فلا هي عامية صريحة ولا هي فصحى قوية، إلا أن العنوان الذي اختاره لهذه المجموعة، مفردة صحيحة، فـ “تقليب” على وزن تفعيل وتعني التثوير – من الإثارة – والتدوير، و”المواجع” كلمة مصرية صميمة نابتة من قلب وعصب المجتمع المصري المهترئ، ليبدو العنوان “عامي”، برغم فصاحته.
والكاتب كان يعرف وهو يرصد هذه “المواجع” أنها باقية ولا يُمكن التخلص منها بسهولة – فها هي لا تزال قائمة بعد رحيلُه بسنوات، وبعد ثورة عظيمة ألهمت العالم، قبل أن يُجهضها الطغاة ويسرقها الانتهازيون – لكنه عمل على تقليبها كي تظهر للعيان على السطح، لعلّ من يرى هذه المواجع، يتطهر بعدما يتألم معها ومنها، والأديب، يوضح بالعنوان الذي اختاره لهذه المجموعة، وبالتصدير الذي كتبه في بدايتها، أنه سيكشف المستور ويعري السوأة ويهتك ستر المخبوء، ولن يخشى في الألم لومة لائم.
وبالرغم من أن عملية “تقليب المواجع” غير مستحبة في الوعي الشعبي المصري، لما فيها من إثارة للأحزان والأتراح، وزعزعة للنفوس واستحضار للدموع، وإثارة للغضب الكامن في الصدور، وتجلّي للكراهية والثورة على كل مستكين لهذا الظلم، إلا أنه فعل ذلك لما يراه من سبب في زيادة التواصل الإنساني ولمّ شتات المقهورين وتضفير آلامهم، كي يجدوا السلوى عند بعضهم البعض.
الأمر الذي أشار له الأديب في السطر الأخير من مقدمة المجموعة حين قال: “إذ ليس ثمة من جسر للتواصل الإنساني أنجع من جسر الألم المشترك، وليس أنجع منه في إثارة الغضب النبيل”.
ويُلاحظ أيضًا في معظم قصص المجموعة أن صوت السارد (وليس المقصود به هنا الروائي خيري شلبي، لأن بعض القصص رويت على لسان أحد المقربين من بطل القصة نفسه، جار أو صديق أو جدة كما في قصة “زفاف”) يعلو متهمًا النظام الحاكم أنه السبب فيما يحدث.
فالحكومة تسلب البسطاء والمهمشين أحلامهم المشروعة، كما يتجلى في قصة “زفاف”، فالأب مات مرتين من أجل أن يفي بـ “شوار” ابنته، مرة حين هاجر مع من هاجروا باكرًا إلى العراق، وعاد خالي الوفاض – إلا من شظية استقرت في محاشمه فسلبت رجولته -، ومرة حين هاجر مرة أخرى من أجل تجهيز ابنته الوحيدة، ليعود جسدًا فارقته الروح.
وفي قصة “عيد الضحية” يتساءل الصبي الصغير والرعب يملأ نفسه كبقية رفاقه الصغار الذين جاءوا مع آبائهم – موظفي الضرائب العقارية – من قراهم البعيدة، مطالبين بالإنصاف كموظفي وزارة المالية، من منظر قوات الأمن المركزي بلباسهم الأسود وخوذاتهم عصييهم، وهي تحاصر معتصمين عُزل، لا حول لهم ولا قوة يفتقدون لأبسط ضروريات المعيشة: “هي الحكومة بتكرهنا ليه يا عمي؟”.
ويُلاحظ في معظم قصص المجموعة، حضور طاغٍ للتفاصيل الصغيرة، حيث تدفق سردي لافت للنظر، يعتمد في الأساس على اللغة التي ابتكرها خيري شلبي وصارت سمته المميزة، بعيدًا عن البهرجة البلاغية وجذالة الألفاظ، لتبدو المجموعة بسبب لغتها هذه، وكأنها سيمفونية شقاء إنساني عُزِفَت على “ناي” يمس شغاف قلب البسطاء بعيدًا عن صعوبة الموسيقى الأوبرالية.
فالرجل الذي اشتغل مع المهمشين من “الفواعلية” و”العمال الجوالين” في الحقول مقابل طعامهم ونومتهم، وانتقل بين مهن يدوية مختلفة كالخياطة والحدادة، أصبح عبر كتاباته نائبًا عن المعدمين والمهمشين والمقهورين، يكتب عنهم ولهم، ويُقلّب “مواجعهم” كلما سنحت له الفرصة، فيوجعنا معهم ولهم.