ترى صرصارًا مارًا بجانبها فينتابها الهلع وتقفز كأبطال القوى الخارقة لتلتصق بالسقف أعلى منها، وأخرى تستجمع قواها فتمسك بعبوة المبيد الحشري وتطلقها بوجه هذه الحشرات المزعجة مدفوعة بمشاعر اشمئزاز شديد.
هكذا نتصرف نحن الفتيات عندما تصادفنا الصراصير وغيرها من الحشرات، التي تثير أغلبها اشمئزازنا ولا نجد بيننا وبينها عمارًا قط، أما عن الفتيان فلا أعلم يقينًا حقيقة مشاعرهم تجاهها، ولكن ما أنا موقنة منه أنهم يستمتعون كثيرًا بمشاهدتنا نفر هاربات مذعورات من تلك الوحوش الصغيرة.
وعن تجربتي الشخصية مع الصراصير فبدأت بالتصرف الطبيعي لأغلب بنات جنسي من النفور والهرب منها، ثم انتهت بتقبل للواقع المرير نتيجة تكرار مشاهدتها، فصرت أتعامل معها ببرودة أعصاب، لكن هذا لا يعني عدم انزعاجي منها، فهي تتسلل خلسةً حسبما تشاء، وقتما تشاء، وأينما تشاء كأنه حقها المشروع، ناسفةً جميع حدود الخصوصية.
وبعد أن فشلت جميع محاولاتي في الدفاع عن منزلي وحرماته المستباحة غصبًا واقتدارًا، صار عقلي يضج بالتساؤلات لماذ خلق الله لنا مثل هذه الكائنات؟! فللوهلة الأولى قد لا نرى لها أي فائدة تذكر، لكن مع البحث اتضح لي العكس!
لماذا خلقت الصراصير؟
ابتكار أدوية جديدة
اكتشف علماء بمدرسة العلوم والطب البيطري التابعة لجامعة (نوتنجهام – بريطانيا) خصائص بأدمغة الصراصير تصلح لاستخدامها كمضادات حيوية قوية، يمكن استخدامها في علاج الأنواع البكتيرية المقاومة للمضادات الحيوية، كالبكتيريا المقاومة للميثيسيلين (MRSA: Methicillin Resistant Staph.Aureus)، التي سببت عددًا من الوفيات أكثر مما يسببه الإيدز عام 2007.
فقد وُجد أن أنسجة المخ والجهاز العصبي الخاص بالصراصير تحوي موادًا يمكنها القضاء على أكثر من 90% من الـ MRSA، بالإضافة إلى النوع المسبب للمرض من بكتيريا الإيشرشيا كولاي (pathogenic E.coli)، وبالتالي يمكن استخدامها كبدائل لعلاج الأمراض التي تسببها البكتيريا التي أظهرت مقاومة للمضادات الحيوية المتوفرة حاليًا، إلا أنها على الجانب الآخر تسبب بعض الأضرار الجانبية الخطيرة يجرى البحث لتفاديها.
لا عجب إذن أنها تعيش بالمجارى ووسط بيئات أخرى غير نظيفة أو صحية بالمرة ولا تشكو من شيء، فهي قادرة على إفراز مضاداتها الحيوية الخاصة!
فوائد علاجية
يستخدم الصينيون الصراصير كعلاج لأمراض عديدة منذ آلاف السنين ضمن إحدى ركائز الطب التقليدي – المتعلق بثقافة الشعوب – الصيني.
الإيدز، الصلع، جلطات الدم، التهاب المعدة والأمعاء، أمراض القلب، سُلّ العظام، كلها أمراض تستخدم الصراصير في علاجها.
وطبقًا لبحث أجرته مؤسسة البحث الزراعي بمقاطعة (جيونام – كوريا الجنوبية) بمشاركة كلية الصيدلة بجامعة (دالي – الصين) كُشف عن امتلاك هذه الحشرات خصائص مقاومة للسرطان anti-carcinogenic properities.
كما تُدخلها كبرى شركات الأدوية في صناعة مستحضرات عدة، كمرطبات للحروق، وأقراص لأمراض الكبد، ويَدّعي المُروّجون لاستخداماتها الطبية أن لها القدرة على معالجة أي شيء؛ الأمر الذى أوجد الحاجة لأعداد كبيرة من الصراصير، خالقًا بذلك صناعة جديدة آخذة في الانتشار تتمثل في مزراع لتربية الصراصير، لتلبية الحاجة المتزايدة لها وسنتحدث عن هذا تاليًا.
على النحو الاقتصادي
قطعًا سمعنا عن مزارع للدواجن أو الماشية أو الأسماك من قبل، أما عن مزارع لتربية الصراصير فلا أظنها مرت بأسماع الكثير منا!
تنتشر هذه المزارع بشكل كبير في أنحاء الصين وخاصة شمالها، حيث ينشئ الكثير من المزارعين هناك مزارعهم الخاصة.
أولًا يبدأون بشراء كميات كبيرة تقدر بالكيلوجرامات من البيض، يهيئون لها المناخ الدافئ لتمنو به، ويطعمونها تركيبة خاصة من الخضراوات المهروسة والفضلات، حتى تنتج معدلات عالية من الأحماض الأمينية – طبقًا لما تطلبه شركات الأدوية – لتكبر وتصل أعدادها بالملايين، وقبل أن تبلغ عمر الأربعة أشهر يقومون بقتلها قبل أن تنمو أجنحتها بشكل كامل مما قد يمكنها من الفرار، عبر مَلء أحواض كبيرة بالماء المغلي ثم سكبها على الأعشاش المربى بها الحشرات حتى تغمرها تمامًا.
لكن ليست جميع الأنواع يتم تربيتها بل نوع معين تحديدًا هو الصرصور الأمريكى المسمى علميًا Periplaneta Americana الذي يستورده المزارعون من منشأة بأمريكا ويعتبرونه الأفضل على الإطلاق.
أما عن العائد المادي من هذه المزارع فيؤكد المزارعون أنها تُدّر عليهم ربحًا وفيرًا، نقلًا عن أحد المزارعين السيد شياو تشونغ وو المالك لمزرعة صغيرة بريف “تشوفو”، يقول إنه يربح بالعام الواحد 30 ألف جنية إسترلينى على الأقل، وقد يصل المبلغ لـ 90 ألف إذا كانه عامه جيدًا.
يذهب أغلب الإنتاج لشركات الأدوية وهي من تحدد السعر – الذي ارتفع كثيرًا مؤخرًا مع ازدياد الطلب عليها -، الأمر الذي دفع بالمزارعين لمضاعفة إنتاجهم، إلا أن البعض من المزارعين عندما يجد الإنتاج وفيرًا بالسوق يخزن إنتاجه حتى إذا ما قَلّ في موسم ما، وازداد الطلب يستغل ذلك ليخرج ما بجعبته محددًا السعر الذي يريد.
ضرورة للتوازن البيئي
تمثل الصراصير غذاءً للكثير من الكائنات الحية كالبرمئيات والطيور وبعض الثدييات صغيرة الحجم كالزواحف.
وتتغذى الأنواع التي تعيش منها في المناطق الاستوائية على الأخشاب والأوراق المتحللة، فتساعد على تكسير المواد العضوية بها إلى فتات دقيقة مسهلةً بذلك عملية إعادة تدويرها بواسطة البكتيريا، فبدونها ستتراكم كميات هائلة من الفضلات تملأ العالم، غير أن مخلفاتها ذاتها تمثل موادًا غذائية للتربة.
ضمان استمرارية الحياة
يوجد نحو ما يقرب من 4 آلاف صنف من الصراصير حول العالم، تختلف في شكلها وحجمها ولونها، يقدر عمرها على الأرض بحوالي 350 مليون عام، مما يمثل قصة نجاح تاريخية في البقاء والحفاظ على النوع طوال فترة نشأتها، متحديةً قسوة كافة الظروف البيئة التي طرأت عبر السنين والحقب الزمنية المتتابعة.
يصورها العلماء كزرّ إعادة تشغيل أو بالأحرى إحياء ما إذا نشبت حرب نووية أجهزت على أوجه الحياة على كوكبنا، لقدرتها الفائقة على مقاومة الإشعاع النووى.
ولمزيد من الحقائق المذهلة عنها شاهدوا هذا الفيديو:
حسنًا، هل تغيرت نظرتكم للصراصير بعد ما عرفتموه عنها؟
لم أتخيل قط أنني سأقولها يومًا لكنني أشعر أنني مدينة لها باعتذار، أقولها على مضض لكنها حقًا تستحق، هنيئًا لك أيتها الصراصير بهذا الاعتراف، ومدينةً أكثر للعقول التي تساءلت وراء المغزى من وجودها، وبحثت وراءها وتوصلت لهذه الاكتشافات المذهلة بحق، وتسعى جاهدةً لتطبيقها في مجالات شتى تعود بالنفع على البشرية، لتؤكد لنا أن لا شيء خُلق عبثًا.
أعتقد سنفكر جميعًا المرة المقبلة التى نصادف بها أحد هذه الحشرات قبل أن نبدأ مطاردته بالأحذية، بعدما اتضح لنا أن “الصراصير حلوة بس نفهمها”، فقط قارنوا مدة تواجدها بعمر الإنسان على الأرض، وأيهما أضاف لها نفعًا أكثر منه ضررًا، لا بد أنكم استنتجتم من الفائز، فبعضنا يفني عمره كاملًا لا يضيف شيئًا البتة، أو الأسوأ يجلب التعاسة والدمار والهلاك لأمته جمعاء.