ترجمة وتحرير نون بوست
يقطن نواف البالغ من العمر 25 سنة بإحدى ضواحي دوار الهيشر، التي اكتسبت سمعة سيئة بسبب احتضانها للإرهابيين، عندما تزور المكان ستفهم السبب: مشهد كئيب لمنازل عشوائية، طرقات تملؤها الأتربة، أكوام القمامة متروكة ولم تجمع بعد، قال لنا نواف: “ذلك هو المنزل الذي داهمته الشرطة الشهر الماضي”، وأضاف: “اعتقلت الشرطة 15 إرهابيًا”.
أكّد لنا أنه لا يعرف هوياتهم ولكن قال إن العديد من أصدقائه التحقوا بالحرب المقدسة في سوريا بسبب فقدانهم الأمل قائلاً: “سأغادر أنا أيضًا إذا توفر لي السبب الذي أؤمن به”.
من بقي في الجوار حصل على فرصة أفضل في الكسب من خلال تجارة المخدرات، والتي قال إن الشرطة تغض الطرف عنها مقابل بعض الرشاوى، بصراحة أصبح العمل صعب المنال بالنسبة لشباب المنطقة، يكسب نواف 11 دولارًا في اليوم من عمله في تحضير المعجنات في نزل بتونس، ولكن عليه التعامل مع رجال الشرطة الفاسدين في المنطقة، الحريصين على كيل التهم والمخالفات القانونية الحقيقية والوهمية، وإن لم تدفع “الغرامة” التي يطلبون فستكون في مشكل.
ولكن أليس هذا هو الشيء الذي أشعل شرارة الثورة؟ نعم أنا أتحدث عن محمد البوعزيزي، الشاب التونسي بائع الغلال المتجول الذي أحرق نفسه في أواخر سنة 2010 بعد الإهانة التي تعرض لها أمام المارة على يد أفراد من الشرطة المحلية. كان حرقه لنفسه الشرارة التي أشعلت الجماهير التي أطاحة بالدكتاتورية.
يقول نواف: “كل شيء كما هو بالنسبة لنا لم يتغير أي شيء”، بالتأكيد لن يوافقه الجميع في ذلك، ولكن وفق العديد من المقاييس فإن الديمقراطية في تونس في تقدم واضح منذ سنة 2011، ومنذ الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي.
لقد اختار التونسيون برلماناتهم ورؤسائهم في ثلاث جولات من الانتخابات الوطنية، كما أسسوا دستورًا جديدًا يضمن مجموعة واسعة من الحقوق والحريات، فالكثيرون يحسدونهم للمستوى الذي بلغوه من حرية التنظيم وحرية التعبير، وجذبوا أنظار العالم بحيازتهم جائزة نوبل للسلام، بالإضافة إلى هذا عاش 11 مليون تونسي اضطرابات أقل ضراوة من نظيراتها في باقي الدول العربية.
بالنسبة لأي شخص يعيش في دول الشرق الأوسط الكبير ويرى البوليس السري كيف يفرض سطوته الوحشية، إلا أن غياب الخوف العام في تونس أمر مدهش، عندما حاورت وزير الخارجية التونسي خميس الجهيناوي أشار بفخر إلى أن القوات الأمنية تصدت هذه السنة إلى موجة من المظاهرات الشعبية بداية هذه السنة ولم تسبب أي وفيات، في نقد مباشر للقمع الوحشي الذي كان يمارسه النظام السابق. وقال: “الحريات الجديدة مثل حرية التعبير والتجمع موجودة ولا رجوع إلى الوراء”.
خذ نظرة خاطفة لترى المشهد القاتم، لا يمكن للسجل الإيجابي في بناء المؤسسات الديمقراطية أن يخفي بعض النقاط السوداء في مواقع أخرى، فالاقتصاد في هون، والفجوة بين الفقراء والأغنياء في اتساع، كما هي الفجوة بين الشمال الغربي وباقي البلاد، كما ساهم تنامي المجموعات المتطرفة والعمليات الإرهابية المدمرة في زرع بذور الخوف والإحباط، لا غرابة في أن دراسة قام بها أحد مراكز الدراسات الأمريكية خلصت إلى أن الانتقال الديمقراطي في تونس في توقف.
فالتونسيون أنفسهم يوافقون على هذا، في دراسة حديثة استجوبت الرأي العام تقول إن 71% من الذين استجوبوا قالوا “إن البلاد تسير في الاتجاه الخاطئ”، بالنسبة لغالبية الشعب فإن الاقتصاد هو ما يثير القلق، وفوق كل هذا مستويات البطالة المرتفعة، تقول النسب الرسمية أنها تساوي 15.4% وهي أعلى وفق أغلب المقاييس عما قبل الثورة، ولكن الحجم الحقيقي للمشكل يكمن في صورة محددة: وهي أن نسب البطالة بين الشباب تساوي 30%.
دفع المشرعون للأمام بإقرارهم قوانين جديدة في قطاع البنوك والخدمات المصرفية، الاستثمار واللوائح الجمركية، ولكنهم حققوا نجاحًا أقل في مقاومة رأسمالية المحسوبية الراسخة في البلاد، خلال سنوات الدكتاتورية تمكن المطلعون والمتصلون سياسيًا من حماية مصالحهم عبر إقامة جدران واقية يلفها الشريط الأحمر الذي يمنع دخول قادمين جدد.
لم يساعد القطاع العام الضخم في حل الأزمة، بل جعل الأمور أسوأ، فالنقابات العمالية الوطنية في البلاد جعلت من المستحيل تقريبًا طرد الموظفين ذوي الأداء الضعيف.
كما أن الأمن ما زال يمثل مشكلاً كبيرًا، منذ الثورة تميزت تونس بتوفيرها المقاتلين الأجانب لتنظيم الدولة بعدد أكبر من غيرها من الدول، كما عادت الحركات الإسلامية التي قمعت بقوة في عهد النظام القديم إلى الحياة السياسية في السنوات التي عقبت الثورة، بينما التحق الكثيرون بحزب النهضة الذي أظهر رغبة واضحة في المشاركة في الحياة السياسية، التحق غيرهم بالمجموعات السلفية المحافظة جدًا، التي أقام بعضها روابط مع تنظيم الدولة وغيرها من المنظمات الإرهابية.
كما ساهمت الحدود المضطربة والممتدة بين تونس وليبيا، والتي انطلق من خلالها الجهاديون لتلقي التدريبات في ليبيا، في تأزم الوضع، غير أن غياب إصلاحات واضحة في الأمن الداخلي كان إحدى العناصر التي عمقت الأزمة، أشارت منظمة “هيومن رايتس واتش” إلى أن قانون مكافحة الإرهاب الجديد الذي مرر السنة الماضية، بعد سلسلة من الهجمات المدمرة، أعطى السلطات الأمنية صلاحيات واسعة لمراقبة واعتقال الناس. وهذا الأمر يثير المخاوف من أن شن حرب عنيفة على الإرهاب قد تؤدي في نهاية المطاف إلى تفاقم وتأزم المشكلة، وهذا نقيض المراد.
في النهاية وكما تقترح قصة نواف، على التونسيين أن يتحملوا ظروفًا قاسية لتحقيق تقدم جاد، وفي وضع إصلاحات اقتصادية وأمنية بشرط أن يواجهوا المشكل الحقيقي: الفساد. فاختراق الحدود صعب على الإرهابيين ما لم يدفع الرشوة للأمني حتى يغض بصره.
أن يستعيد الاقتصاد عافيته صعب من دون مواجهة الرشوة والمحسوبية، وهو أمر ينذر بسوء، ولأن المخالفات لها تاريخ طويل في هذا البلد، فقد قال الكثيرون إن حالهم ازداد سوءًا في السنوات التي تلت الثورة.
إذًا لماذا علينا أن نهتم لتونس؟ ربما هي بلد صغير نسبيًا ولكن لديها دورًا كبيرًا وهامًا في استقرار المنطقة والعالم مستقبلاً، فكما حاججت سابقًا في مقال آخر فإن تونس حرة ومزدهرة هي الحجة المقنعة والوحيدة ضد قذارة تنظيم الدولة، وعلى نطاق واسع فإن ديمقراطية مزدهرة في شمال أفريقيا ستمثل تحديًا لكل هؤلاء حول العالم – من جهاديين ومبغضين للإسلام – الذين قالوا إن الديمقراطية لا تناسب المسلمين.
كل هذا يشرح لماذا قررنا نحن في منظمة “ديمغراسي لاب” تغطية قصة تونس بهذا العمق خلال السنوات الماضية، يهدف مشروع “تونس: في الشمس والظل” لكشف أبعاد الانتقال المضطرب في البلاد والذي لن تجده في تغطية عابرة ومعتادة.
يصعب عدم تشجيع تونس، بينما شعوب دول الربيع العربي الأخرى ارتدت إلى الوراء في أحضان الأوتوقراطية أو وقعت ضحية الحروب الأهلية الفوضوية، فالتونسيون يواصلون بناء مؤسساتهم في مجتمع مفتوح، فعلا هم يستحقون دعمنا وتصفيقنا.
على الرغم من ذلك علينا أن نوازن بين التشجيع والحذر العملي من التحديات التي تنتظرهم، لن تنجح التجربة الديمقراطية التونسية إلا إذا وقف الشعب التونسي بصدق أمام فشله، وبهذه الروح ندعوك لمواصلة القراءة
المصدر: فورين بوليسي