كان المشهد يبدو بائسًا قبيل حفل افتتاح أولمبياد ريو دي جانيرو الحالية في البرازيل، في ظل عدم استكمال الاستعدادات، وشكاوى وفود دول مثل أستراليا وهولندا من سوء الخدمات في أماكن إقامة منتخباتها ورياضييها المشاركين في الأولمبياد.
وتكرست هذه الصورة بحفل الافتتاح الهزيل الذي عكس – وفق معايير علمية اقتصادية بحتة – حقيقة الأزمة التي تحياها هذه الدولة التي كانت ذات يوم أحد أهم الاقتصادات الصاعدة، ونموذج تنموي يحتذى به في بلدان الجنوب والعالم الثالث.
ومن مردود القول أن المظاهر التي أحاطت بأولمبياد ريو، سواء على مستوى الاستعدادات أو التنظيم، وحتى بعد بدء الفعاليات، لا تحمل أية دلالات في هذا الصدد، حيث إن مثل هذه الفعاليات تُعتبر بمثابة مرآة مهمة لمدى تقدم المجتمعات، وحقيقة قدراتها التنظيمية والاقتصادية.
ولعل هذا الأمر واضحًا في حرص القوى العالمية الكبرى على أن تخرج بأكبر قدر ممكن من الميداليات وتحقيق الإنجازات والانتصارات في الأولمبياد على وجه الخصوص، فذلك لا يعني الصورة المباشرة التي تنقلها الشاشات للمنافسات الرياضية، بل إن الأمر يتعلق بكيفية إعداد هؤلاء الرياضيين والأبطال، بما يتطلبه ذلك من بنية تحتية وتطور علمي والقدرة على التنظيم والإدارة.
ولعل ذلك كان أوضح ما يكون خلال سنوات الحرب الباردة، حيث كان التنافس الأمريكي السوفييتي على أشده، وكأن الحرب تدور في ساحات المنافسات، وكانت أبرز الدورات هي دورة موسكو في العام 1980م، والتي قاطعتها دول غربية احتجاجًا على الغزو السوفييتي لأفغانستان، ودورة لوس أنجلوس في العام 1984م، والتي قاتلت دول الكتلة الشرقية لأجل الفوز بها، وانتزاع شرف التتويج ومنصاته من الولايات المتحدة في عقر دارها.
بل إن الكثير من وسائل الإعلام الدولية ظلت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه، تحسب عدد الميداليات التي حصلت عليها الدول التي خرجت من عقده، ويقارنها مع ما حصلت عليه الولايات المتحدة.
إذًا، فالأولمبياد فعالية سياسية واقتصادية بامتياز، أكثر منها حدث رياضي، وعلى ما يفسر كذلك، الاهتمام الإعلامي الكبير بمصير مشاركة الفرق الروسية في ألعاب القوى، في كلا الدورتَيْن، الدورة الرئيسية ودورة الألعاب البارلبمية التي تجرى على هامش أولمبياد ريو للمعاقين، بسبب فضائح تتعلق بتعاطي منشطات، تورطت فيها جهات رسمية روسية.
وبالمناسبة فإن ما يتم حاليًا هو على وجه التحديد، هي دورة الألعاب الأولمبية الصيفية، وهي الأكثر شهرة وتنوعًا ودلالة عن نظيرتها الشتوية التي تتم في رياضات محددة، وبشكل أقل حجمًا بكثير من منافسات الألعاب الأولمبية الصيفية.
البرازيل وفشل الأواني المستطرقة!
منذ فترة أنتجت قناة “فرانس 24” سلسلة تقارير تسجيلية عن الاستعدادات التي تجري في البرازيل لاستضافة الأولمبياد، وأخرى عن واقع مدينة ريو دي جانيرو، وكيف أنها تحولت من حلم البرازيل القومي عند تأسيسها في الستينات، إلى رمز على تراجع الحلم البرازيلي في العام 2016م.
هذه التقارير وغيرها مما جالت به كاميرات قنوات ووسائل إعلام دولية في شوارع ريو، أبرزت واحدة من أكبر نقاط الفشل التي تصيب أية تجربة تنموية في العالم الثالث، وهي عجز الأنظمة والحكومات عن تطبيق نظرية الأواني المستطرقة في التنمية، حيث الفقر جنبًا إلى جنب مع الثراء الفاحش، والأحياء الحديثة تجاوز الأحياء العشوائية التي تعاني الجريمة والفاقة والجهل، بحيث لا يمكن لأحد أن يتصور عن رؤية هذه الأحياء والمناطق أن يتصور أنها في ذات المدينة البراقة في واجهتها الواقعة على الأطلنطي!
ولكن لماذا حدث ذلك؟! لعل هذا هو السؤال الكبير الذي يواجه دائمًا علماء الاقتصاد والاجتماع والسياسة عند تحليل التجارب الاقتصادية والتنموية في دول العالم الثالث، والتي كثيرًا ما تفشل أو تتعثر في منتصف الطريق.
وبلاشك بالرغم من أن البرازيل قد حققت نتائج اقتصادية وتنموية جيدة حتى العام 2012م، حيث استطاعت تحقيق أكثر من 2.3 تريليون دولار كناتج قومي اإسمي وإجمالي، بالإضافة إلى تصنيف مرتفع في الثقة الائتمانية، مع كونها واحدة من أحد أكبر 20 اقتصادًا في العالم.
وبالتحديد فإن البرازيل هي سابع أكبر اقتصاد في العالم، وتسبق دولاً صناعية كبرى مثل إيطاليا وروسيا في خريطة أكبر الاقتصادات العالمية.
إلا أن نظرية الأواني المستطرقة ظلت تطارد التجربة البرازيلية، فبالرغم من أن البرازيل تتمتع بهذا المستوى من الناتج القومي، واحتياطي نقدي وصل إلى 365 مليار دولار، إلا أن متوسط الفقر بين السكان أعلى منه بكثير من متوسطاته في الدول الغربية، مع تركز عائدات التنمية والثروة في المدن، مع تركيز الفقر بدوره في مناطق الشمال الغربي، والتي بها أكبر نسبة من السكان الأصليين (حوالي 25% من إجمالي سكان تلك المناطق الريفية في الغالب).
وهنا نقف أمام بعض الإحصائيات حول واقع البرازيل الديموجرافي.
يمثل البيض ذوو الأصول الأوروبية، مثل الإسبان والبرتغاليين والأنجلوساكسون، حوالي 90% من إجمالي تعداد السكان البالغين حوالي 203 ملايين نسمة، وغالبيتهم الساحقة من الكاثوليك، حيث تُعتبر البرازيل أكبر دولة في العالم تضم كاثوليك، ولكن مع تأثيرات كبيرة للديانات الوثنية، سواء القادمة من السكان الأصليين المحليين، المعروفين باسم عرقية “الباردو”، وهؤلاء تعدادهم حوالي 6.6% من السكان، أو من السود، وتعدادهم 2% من السكان، ومثهم من الآسيويين والهنود الحُمر.
عشش الصفيح هذه في ريو التي لا يراها أحد!
ولهذه الأرقام والتوزيعات دلالة مهمة فيما يتعلق بنظرية الأواني المستطرقة التي نشير إليها، حيث إن عائد التنمية بالأساس، يمتصه أصحاب رؤوس الأموال الكبرى والملكيات الزراعية، وهؤلاء جلهم من البيض، بينما غالبية السكان الذين يقعون تحت خط الفقر ويعيشون في أكواخ الصفيح، في تجمعات ضخمة تحيط بالمدن الكبيرة ذات معالم الثراء وتقترب في مستوياتها المعيشية من العواصم والمدن الغربية، إنما هم من الملونين والعرقيات الأخرى غير البيض.
التجربة البرازيلية في تصفية الانقلابات العسكرية!
قبل التعرف على أسباب عدم اكتمال تجربة البرازيل التنموية، فإننا يجب أن نقف عند نقطة تميُّز أخرى للبرازيل بين دول العالم الثالث.
لا تقف تجربة البرازيل عند حدود الجانب التنموي والاقتصادي، حيث إن لها سبق في أمر سياسي مهم، ربما يمثل أحد أهم تجارب دول العالم الثالث في مجال التطور السياسي، وهي إسقاط عصر الانقلابات العسكرية بعد سلسلة من الإضرابات العمالية التي أخذت طابعًا جماهيريًّا واسع النطاق في أواخر السبعينات من القرن الماضي، بعد انهيار الاقتصاد البرازيلي، بسبب سياسات العسكر في مجال دعم مظاهر الرأسمالية في الاقتصاد البرازيلي، مما كان له أبلغ الأثر على الواقع المجتمعي البرازيلي.
كانت ساو باولو، هي معقل هذه الاضطرابات، والتي قادت إلى ظهور حركة نقابية قوية، استعادت الروح الشعبوية التي كانت تسود هذا البلد قبل انقلاب 1964م.
أدت هذه الاضطرابات العمالية إلى ممارسة ضغوط سياسية شديدة على النخبة العسكرية الحاكمة، فسمحت بتأسيس حزب عمالي، كان هو أول حزب يساري في البلاد بعد تعطيل الحزب الشيوعي عقب انقلاب 1964م، الذي قام قادته بفتح المجال أمام تحول كبير للنظام الرأسمالي.
وبالرغم من تحقيق البرازيل طفرة اقتصادية كبرى بنسبة نمو 11% في تلك الفترة، إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور تناقضات اجتماعية، استغلها الشيوعيون في تأجيج روح الثورة داخل المجتمع، حتى وصل الأمر إلى هذه الاضطرابات الواسعة التي كان لها ما بعدها، حيث بدأت النخبة العسكرية الحاكمة في تبني سلسلة من السياسات من أجل إدخال البلاد في مسار ديمقراطي سليم لتداول السلطة والحكم.
وتوج ذلك بانتخاب مدني لمنصب الرئيس، وكان ذلك في يناير 1985م؛ حيث انتتُخِبَ تانكريدو دي ألميدا نيفيز رئيسًا للجمهورية من جانب أعضاء الكونجرس (مسمى البرلمان البرازيلي) وممثلي الولايات التشريعيين.
إلا أن مرض نيفيز ثم وفاته، قادت إلى انتخاب نائبه خوزيه سارني كرئيس مؤقت ثم رئيس دائم للبلاد، وفي نفس العام وافق الكونجرس البرازيلي على تعديل دستوري ينص على الانتخاب الشعبي المباشر لرؤساء البلاد.
وفي العام التالي، انتُخب مجلس نيابي جديد، وهيئة تشريعية عامة جديدة للبلاد، لتودع البرازيل، بقوة ثورة طبقتها العمالية التي للمفارقة نشأت في مصانع التحول الرأسمالي الذي أوجده الانقلابيين في البلاد، وتسلحت في الفترة بين العام 1978م، والعام 1980، بقوة الجماهير.
ولهواة اليأس في هذه الأيام بعد مآلات الربيع العربي في بلداننا، فإننا نقول إن البرازيل عرفت خمسة انقلابات عسكرية، كان آخرها وأطولها تأثيرًا، هو ذلك الانقلاب الذي وقع في العام 1964م.
أتى هذا الانقلاب بالجنرال هومبيرتو كاستيلو برانكو، إلى الحكم، ثم ورثه الجنرال إرنستو جيزيل، في العام 1974م، والذي قاد انقلابًا دستوريًّا على البرلمان، بسبب معارضة الأخير لإصلاحات طرحها في النظام القضائي للبلاد، عام 1977م، كانت تستهدف تكريس رؤية العسكر للحكم في هذا البلد.
إلا أنه، وبعد ذلك بعام واحد، اندلعت الاضطرابات العمالية التي قادت بعد ذلك ببضعة سنوات فقط إلى ترسيخ تجربة تنموية وديمقراطية من الأهم والأكبر في العالم.
لماذا صورة ريو؟!
بالرغم من كل ذلك، جاءت صورة أولمبياد ريو بائسة للغاية، وبالتأكيد فإن ذلك يعود إلى الظروف التي تمر بها البرازيل في الوقت الراهن على المستوى السياسي، حيث اتهمت رئيسة الدولة ديلما روسيف، والرئيس السابق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، في قضايا فساد، وسط جدل كبير هز أوساط المجتمع البرازيلي، حول فساد النخبة الحاكمة التي جاءت بها انتخابات ديمقراطية سليمة.
ولعل صدمة الجمهور البرازيلي في دا سيلفا أكثر من صدمته في روسيف، حيث الأول هو صانع النهضة الاقتصادية البرازيلية الراهنة، وكان مصدر فخر البرازيل، مثل كوان يو بالنسبة لسنغافورة، ومهاتير محمد بالنسبة لماليزيا.
مست قضية الفساد التي اتهِمت فيها روسيف، وكذلك دا سيلفا، بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب إدواردو كونيا، كبرياء الشعب البرازيلي، فالثلاثة لهم رمزيتهم المهمة للغاية لدى البرازيليين، وثلاثتهم – كذلك – هو مولود شرعي للتجربة الديمقراطية البرازيلية، وعندما يضرب الفساد اختيارات الشعب نفسه، فإن الشعب يصاب بحالة من الارتباك وفقدان الاتجاه.
ولعل هذا هو ما كان يستهدفه من فجَّر هذه الأوضاع.
ولنا هنا وقفة، إلا أن هناك ملاحظة مهمة للغاية في هذا الصدد، تجب الإشارة إليها قبل التطرق إلى خلفيات تفجير هذه الاوضاع، وهي أن الديمقراطية هي خير عاصم في السياسة والحكم في أوقات الأزمات.
فالرئيسة روسيف لم تكن تنتوي التنحي بسهولة، وأقرت بأنها مسؤولة عن تضليل الجمهور العام فيما يتعلق بأرقام النمو الاقتصادي للدولة، ولكنها لم ترتكب أي وقائع فساد أو إهدار مال عام، واتهمت نائبها الذي يقوم مقامها في الوقت الراهن ميشال تامر، ذا الأصول اللبنانية، بأنه قد ظل لأشهر طويلة يجمع “أدلة” على تورطها في قضايا فساد، وهو في حد ذاته اتهام يرقى إلى الخيانة العظمى.
روسيف تعهدت بالقتال للحفاظ على منصبها إلا أن ضمانات نزاهة الانتخابات التي أتت بالبرلمان حالت دون تفاقم الأزمة
ولفترة، في أبريل ومايو الماضيَيْن، نزل أنصار اليسار البرازيلي الحاكم، وأنصار روسيف خصوصًا، إلى الشارع، متهمين البرلمان الذي حقق في الفساد الموجه إليها، وحكم بعد ذلك بعزلها من منصبها، بأنه قد قام بانقلاب على الشرعية.
الذي أنقذ البرازيل في ذلك الحين، هو سلامة الانتخابات التي جاءت بالبرلمان البرازيلي الذي عزل الرئيسة، ونزاهة الإجراءات التي أتت بنواب الشعب الذين صوتوا على قرارات اتهام وعزل الرئيسة ورئيس مجلس النواب.
فلو أن الانتخابات مزورة أو بها شك؛ لكان أنصار اليسار ومن انتخبوا روسيف، قد خاضوا مواجهات مع الدولة في الشارع.
ومن هنا؛ فإن الاستثمار في الديمقراطية، ثبت أنه في حالة البرازيل، أثمن وأهم أنواع الاستثمار، وهو ما حمى الاستثمارات الأخرى في التنمية والبناء والتصنيع، وغير ذلك.
نعود إلى خلفيات ما جرى في البرازيل، وهو الدور الخارجي.
فاليسار البرازيلي الحاكم، والذي أسقط عصر الانقلابات العسكرية في البرازيل قبل أكثر من ثلاثة عقود، لم يكن للقوى الدولية، وخصوصًا الولايات المتحدة التي تنظر لأمريكا اللاتينية باعتبار أنها مجرد فناء خلفي لها، وأرض خصبة لشركاتها الزراعية الكبرى، أن تسمح باستمرار تجربة كهذه له، سمحت للبرازيل في 2011م، بتجاوز بريطانيا نفسها كسادس أكبر اقتصاد عالمي، قبل أن تتراجع بعد ذلك للمرتبة السابعة.
ولعله من نافلة القول أن الانقلابات العسكرية ودعم قوى اليمين الديني والقومي المحافظة، كانت ولا تزال هي وسيلة الولايات المتحدة لقلب أنظمة الحكم اليسارية في أمريكا الوسطى واللاتينية، ولا يزال الانقلاب على حكم السانديستا اليساري، في نيكاراجوا، والذي راح ضحيته مائتا ألف نسمة، نقطة سوداء في جبين الإنسانية كلها.
ولقد تلاعبت الولايات المتحدة، وقوى أخرى في التحالف الغربي الأنجلو ساكسوني في الأوضاع البرازيلية، بنفس الوسيلة، من خلال قوى اليمين وأصحاب رؤوس الأموال، وبقايا نظام رأسمالية العسكرتاريا التي حكمت البلاد في الستينات والسبعينات، وحتى منتصف الثمانينات، حيث لا يزال هؤلاء لهم نفوذهم، ويعتبروا من كبار ممولي نواب الكونجرس البرازيلي وحملاتهم الانتخابية.
إذًا، يبقى المشهد الافتتاحي لأولمبياد ريو، على بساطته، محملاً بالكثير من الأمور السياسية، والتي تطرح تساؤلاً مهمًّا، وهو: كيف يمكن لدول العالم الثالث الخروج من هذه الدائرة التي تضعها فيها القوى الرأسمالية الكبرى، والتي لا تفعل ذلك سوى لكي تحافظ على مصالح شركاتها.
إن إجابة هذا السؤال تعنينا بشدة في العالم العربي، حيث الفشل المرحلي لثورات الربيع العربي، إنما هو جزء لا يتجزأ من صلب هذا التساؤل الذي نطرحه!