مع اقتراب نهاية ولاية الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وانشغال واشنطن بسباق الانتخابات الرئاسية وتجاذباته المحتدمة بين كلينتون وترامب، وتبدل أولويات الاتحاد الأوروبي بعد قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد، وانشغال فرنسا بدعم الجنرال حفتر على حساب حكومة الوفاق، وفقدانها ثقة كبيرة بالداخل الليبي، يبدو أن الفرصة قائمة أمام روسيا كلاعب مهم في المشهد الليبي خلال الفترة المقبلة، وهو ما عكسته التحركات الروسية الأخيرة في هذا الاتجاه.
تحركات مقلقة
صحة هذه القراءة التحليلية تدعمها تحركات طرفا الأزمة السياسية في ليبيا مؤخرًا، والتي بدت وكأنها تفتح الباب أمام اللاعب الروسي للعودة بقوة لما كان عليه قبل 2011، فعلى الجانب العسكري جاءت زيارة القائد العام للجيش الليبي، الفريق خليفة حفتر إلى موسكو نهاية يوليو الماضي، وتم خلالها الاتفاق على تزويد الجيش الليبي بالأسلحة والذخائر وقطع الغيار، والتعاون الأمني والاستخباراتي بين البلدين لمكافحة الإرهاب، وهي الخطوة التي لحقتها مباشرة خطوة سياسية لا تقل أهمية بالزّيارة اللاحقة التي قام بها نائب رئيس المجلس الرئاسي أحمد معيتيق – القريب من حفتر أيضًا – إلى العاصمة الرّوسية، لبحث آليات الدعم الدولي لحكومة الوفاق، والمساعدة في إعادة بناء الجيش الليبي “الموحد”، وإعادة فتح السفارة الروسية في طرابلس، وعودة ممثليها الدبلوماسيين، وهما خطوتان هامتان تصبان في اتجاه هذا السيناريو.
خفوت أمريكي
ما يلفت الأنظار مؤخرًا هو أن تأثير الأمريكيين بالمقابل في الوضع الليبي ما زال ضئيلًا، خصوصًا في ظل نهاية ولاية الرئيس أوباما، الذي اعتبر التدخل في ليبيا عام 2011 وعدم التخطيط لما بعد القذافي أكبر خطأ ارتكبه خلال وجوده في البيت الأبيض، ما يدعم دور روسيا منفردة بها قياسًا على حقيقة أن السياسة المزدوجة التي تنتهجها فرنسا بدعم الحكومة الجديدة من جهة وقوات حفتر الرافضة لها من جهة ثانية، قد تُفقدها ما تبقى لها من مصداقية لدى الأطراف الليبية، في ظل عجز أممي عن حشد الدعم الدولي اللازم لحكومة الوفاق.
هنا تبرز إمكانية دخول روسيا كلاعب وحيد ومتفرد في ليبيا يعكف على تجميع أكثر ما يمكن من الأوراق في يديه بدخوله في معمعة إعادة الإعمار في البلاد، لحفظ موطئ قدمها بالساحل الليبي الغني بالموارد الطبيعية وأهمها النفط، والأهمية الجيوسياسية لقربه من أوروبا من جهة الجنوب، ومصر من الجهة الغربية، وكل من تونس والجزائر شرقًا، بالإضافة إلى البركان الإفريقي من جهته الشمالية.
صراع الإيديولوجيات
مؤخرًا بدأ الملف الليبي في أخذ حيز ليس بالهين من الاهتمام الأمريكي والروسي مع اختلاف حجمه بين الجانبين، لا سيما بعد استفحال الأزمة السياسية والفوضى الأمنية، وانهيار الأوضاع الاقتصادية، والتي جعلت البلاد البيئة الأنسب الآن لاستقبال مشردي داعش من سوريا والعراق بعد الضربات المتوالية لهم.
يدعم ذلك الجولة المغاربية الأخيرة لمساعد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، خوفًا من لجوء “داعش” وجماعات مسلحة أخرى إلى معاودة الانتشار في ليبيا ومنطقة الساحل والصحراء، إذا ما تلقت ضربة قوية في سورية والعراق، وهي الجولة التي قابلتها موسكو بدعوتها لإعادة الإعمار مُحاولة تجميع بعض الأوراق التي تُساعدها على أن تعود لاعبًا فاعلاً في مستقبل البلد، بعدما أخرجتها منه الحملة العسكرية الأطلسية في 2011.
داعش كلمة السر
- كيف تعمل البلدان لتحقيق أهدافهما بليبيا إذن؟
بعد الحملات المكثفة على إرهابيي داعش بليبيا، ركزت واشنطن على بناء شراكات أمنية وعسكرية مع دول الجوار، بخاصة الجزائر وتونس، لمحاصرة الجماعات الإرهابية في ليبيا، وإنقاذ العملية السياسية التي تقودها حكومة الوفاق الوطني من الفشل، وهو الجانب الذي ركزت عليه محادثات بلينكن في تونس، التي ضاعفت واشنطن مساعداتها العسكرية إليها هذه السنة، من أجل تطوير عتاد الجيش، وتحسين وسائل المراقبة والاتصالات، لمراقبة تسلل إرهابيين إليها عبر الحدود مع ليبيا، في ظل انتشار تقارير مخابراتية غربية تؤكد وجود ما بين ألفين وخمسة آلاف مقاتل من داعش في كل من سرت ودرنة وطرابلس، بالإضافة إلى محاولة الهجوم الفاشل على مدينة بنقردان التونسية في وقت سابق من العام الحالي، بهدف إقامة إمارة فيها، والمحاولات المتكررة لإدخال أسلحة وذخائر إلى الجزائر، والتي تُقدرها السلطات الرسمية بأربعة آلاف قطعة منذ 2011 بينها ألف قطعة في العام الحالي فقط.
أمريكا لم تكتف بتحركاتها في تونس فقط، بل إن الملف الليبي وتداعياته تصدر محادثات منطقة الساحل والصحراء، والذي كانت آخر حلقاته الدورة السابعة من الاجتماعات السنوية المشتركة بين وزارتي الدفاع بين الجانبين في واشنطن.
على هذا الأساس سعت أمريكا إلى توجيه ضربات جوية لقادة الجماعات المسلحة الليبيين والأجانب، أسوة بالجزائري مختار بلمختار أمير جماعة “المرابطون” والذي يتردد على ليبيا، عبر الضربات الجوية التي تنطلق من القواعد الأطلسية والأمريكية في جنوب إيطاليا.
يزيد من حدة الأزمة تقرير للاستخبارات الأمريكية الأخير سلمته إلى حكومات البلدان المجاورة بما فيها تونس والجزائر، ونشرته صحيفة “Il Tiempo” “الوقت“ اليومية الإيطالية مطلع يوليو الماضي، والذي أكد أن عشرة مقاتلين من جنسيات مختلفة ينضمون يوميًا إلى معسكرات تنظيم الدولة في ليبيا، ما جعلها أهم منطقة استقطاب للإرهابيين الآتين من مناطق العالم كافة.
في المقابل تتقاطع الرؤية الأمريكية للمشهد الليبي مع الروسية التي ترى أن “تدفق الإرهابيين من الشرق الأوسط إلى ليبيا قائم على قدم وساق”، وأنهم “بدأوا يرابطون في ليبيا بعد أن أصبحوا يشعرون بعدم الراحة والخطر في سورية والعراق”، وفق تصريحات منشورة للسفير الروسي لدى ليبيا إيفان مولوتكوف.
التحرك الروسي يرى أن مسلحي داعش سيجدون أنفسهم مضطرين، مع الهجوم على الرقة والموصل، للانسحاب نحو الحدود التركية، وعندها ستكون تركيا أمام خيارين، إما أن تقضي عليهم لمنعهم من الدخول إلى أراضيها، أو أن تفتح لهم الطريق نحو ليبيا.
دور حفتر المستقبلي
يؤكد تلك المعلومات دوافع الزيارة الأخيرة للجنرال حفتر إلى موسكو أواخر يونيو الماضي، لضمان الدعم السياسي والدبلوماسي، في إطار الإعداد لما بعد نهاية الصراع الأهلي، على أمل استعادة بعض من وزن روسيا الاستراتيجي السابق في ليبيا.
حفتر اجتمع بشكل منفصل خلال الزيارة مع كل من وزير الخارجية سيرغي لافروف، وسكرتير عام مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف، الذى يعتبر أحد صُناع القرار في المربع المحيط ببوتين، للتنسيق مع حفتر بشأن حملته العسكرية على الجماعات المسلحة الآتية من سورية إلى ليبيا عن طريق البحر، كما استقبلت موسكو في الفترة ذاتها رئيس الحكومة السابق عقيلة صالح، حليف الجنرال حفتر، وعلى الرغم من ذلك لم تتخذ روسيا أي موقف سلبي من حكومة السراج، ما يعني بحثها وبشدة عن دور في ليبيا فقدته خلال السنوات الخمس السابقة، خصوصًا عملية معاودة الإعمار بعد نهاية الصراع، وإيجاد حليف لها في بلد ثان مُطل على مياه المتوسط، بعد النظام السوري، حتى إنها عينت نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، الذي قاد جهود الكرملين لإجراء محادثات دبلوماسية حول الأزمة السورية، مسؤولًا عن ملف ليبيا فى الكرملين.
روسيا بتحركاتها تلك، ودعمها حفتر إلى جانب حكومة الوفاق رغم خلافات الطرفين العلنية، تضمن حليفًا مستقرًا ومثاليًا لها قياسا على تاريخ حفتر العسكري صاحب الخلفية السوفيتية.
الخلاصة
مما سبق يمكننا التأكيد على أن فكرة الحرب الباردة القديمة بين العدوين اللدودين “أمريكا وروسيا” تحولت لـ “حرب فاترة” على رقعة الشطرنج الشرق أوسطية، بدأت في العراق ثم سوريا واليمن، والآن تدور رحاها على الأراضي الليبية الممهدة لها بشدة، وبموجب ذلك تتحرك روسيا للخروج من عباءة يلتسين والخنوع لأمريكا إلى القطبية الثنائية من جديد مستغلة مرحلة الانهيار الأمريكي فيما يخص القطبية الأحادية، وبات الصراع الثنائي بعيدًا عن شكل الحرب الساخنة حرب المدفع والدبابة، وشكل الحرب الباردة، ووصل إلى فكرة المصلحة والإيديولوجية، في مرحلة لا مصالح لشعوب المنطقة فيها، بل فقط تداعيات كارثية مقبلة عليها.
والسؤال الأهم هنا: هل تستيقظ شعوب وحكومات المنطقة وتتعلم من الحالة السورية وتداعياتها؟ أم ستدفع الثمن قريبًا بتفتت سوري وليبي على غرار الحالة العراقية حاليًا؟