أردوغان زعامة فذة أتت على فترة من الزمن، كانت الأمة التركية ومن ورائها الأمة الإسلامية في حاجة بالغة لمثلها، بل وكانت في انتظارها وتشوف لها.
هو زعامة فذة باعتبار نتاجه على الأرض، فقد حول تركيا في خلال عشر سنوات من دولة فقيرة مدينة إلى دولة غنية دائنة، ومن دولة ضعيفة إلى دولة قوية مرهوبة الجانب، يعمل لها العالم كله ألف حساب، وهو زعامة فذة باعتبار ملكاته الظاهرة، مظهرًا وحضورًا وصوتًا، هو سلطان عثماني جديد، كما يحلو للبعض أن يصفه.
هو زعامة فذة يجب أن يحافظ عليها الأتراك بكل ما يستطيعونه من قوة، فمن ناحية يجب ألا يتورطوا في الفكرة الديمقراطية بكل أبعادها إلى حد التقديس.
فمن عناوين الديمقراطية أن يتولى الفرد المسؤولية والقيادة لفترة أو لفترتين، ثم يجب عليه بعدها أن يذهب ويأتي غيره.
إن الديمقراطية ليست وحيًا، وعلينا أن نأخذ منها ما يناسبنا، ومن الجنون أن نطبق مثل هذه القاعدة على زعامة مثل أردوغان.
هذه في رأيي من أفسد عناوين الديمقراطية، والأصلح أن يُخلّى بين الناس وبين اختيارهم الحر النزيه، فإن أرادوا إعادة انتخاب أحد لفترتين ولثلاث ولأربع، فلا ضير في ذلك، الناس هم من يختارون، وهم من يقررون إن كان القائد قد حان وقت تغييره، أو أنه ما زال في قدرة على القيادة والعطاء والإبداع.
وهو زعامة فذة يجب أن يخاف عليها الأتراك من خيانة الخائنين وغدر الغادرين، لقد كنا نتوقع انقلابًا على أردوغان، وكنا نرى ذلك رأى العين من خلال الواقع المحيط به، الواقع التركي والواقع العالمي، ولقد كتب كاتب هذا المقال حول ذلك قبل محاولة الانقلاب بأسابيع قليلة.
ولما فشلت محاولة الانقلاب، ولما بدأ أردوغان في الضرب بقوة، أصبحنا نتوقع ما هو أسوأ، نتوقع أن يكون التخطيط القادم لاغتياله، فلن تقبل المؤامرة العالمية بأن يبقى ذلك الإسلامي القوي بهذا الشكل، تخطيطهم القادم سيكون لاغتياله، وأخشى أن يكون قريبًا.
لا بد أن ينتبه أردوغان وأنصاره لذلك، لا بد أن يسعى لتقوية تلك القوة المسلحة الخاصة التي رأيناها ليلة الانقلاب، والتي كان لها دور كبير في إفشال ذلك المخطط الانقلابي، وقد أصاب أردوغان حين قرر حل الحرس الرئاسي بالكلية بعد هذه المحاولة الفاشلة، لا بد من قوة كبيرة من المناصرين المخلصين الذين يختارهم هو ورجاله على عينهم.
كما أننا في ظل هذا الخوف الشديد منا على أردوغان الزعيم والقائد، لا بد لنا أن نخشى منه، فكرة أن يتحول القائد الفذ إلى ديكتاتور فكرة واردة بقوة، وبخاصة إذا بالغ أولياؤه في الإشادة به والإذعان له.
أردوغان قيادة كبيرة لا شك، ولكننا لا نقبل أبدًا أن نعود إلى زمن الفرد مهما كانت إمكانياته وملكاته، العمل الجماعي هو السبيل الوحيد للارتقاء والبقاء.
نحن على يقين أن ما حدث بين أردوغان وأوغلوا ومن قبله عبد الله غول ما هو إلا صراعًا على المرجعية النهائية للقرار والتوجه، بل وصراعًا من أجل التفرد بالمكانة وعدم المنازعة فيها مع أحد، أجزم بذلك قاطعًا، من خلال مشاهدتي للمسيرة والمواقف.
هكذا جُبل البشر جميعًا، جبلوا على حب التفرد بالقيادة والتوجيه، ولا يقدح هذا في شخصية أردوغان الزعيم، ولكنها مما كُتب على بني آدم جميعًا، وكلٌ آخذ بحظه مما كتب عليه.
ولذلك فإنه يجب على إخواننا الأتراك أن يخافوا من أردوغان مع خوفهم عليه، لا بد عليهم أن يخافوا من أن يجرّه نجاحه وتجرّه مكانته إلى رغبة في الاستئثار بكل قرار وتوجه، وعدم المساءلة والمراجعة من أحد.
وهناك ضابط عاصم في هذه المسألة، لا بد أن يسيّج أردوغان بالمؤسسات الشورية القوية في الحكومة وفي الحزب على السواء.
ومما علمناه باليقين، أنه لا طمأنينة لقيادة فرد واحد مهما بلغت إمكانياته وقدراته ونجاحاته، وأن العمل الجماعي هو الحافظ والحامي، وأن الشورى لازمة وملزمة، وأن الفتنة لا تؤمن على حي، فمهما بلغ الواحد في شأنه وعمله، فالفتنة ليست مستحيلة عليه، ولذلك فلا بد من التيقظ له، خوفًا عليه وخوفًا منه.
ولقد قطع العالم كله شوطًا بعيدًا عن الفردية، ولا مكان للعودة إليها، إنما هي المؤسسية التي يكون على رأسها القائد الفرد الفذ الملتزم بها وبمؤسساتها وتوجهاتها وقراراتها، والراجع إليها في كل صغير وكبير.