“معمولّي عمل، ومن خمس سنين وأنا من شيخ لشيخ ومن بلد لبلد، نفسي أتجوز ويكون لي بيت وأولاد زي بقية الناس، تعبت من المشايخ، ومليت من الأدوية والأعشاب وحلقات الزار، مفيش فايدة، أكيد العمل مربوط بطريقة صعبة ومش أي حد يعرف يفكه”، بهذه الكلمات استهلت أمل سالم، الفتاة صاحبة الثلاثين عامًا، الحديث عن رحلتها الطويلة مع الدجل والشعوذة، والتي بدأت أولى خطواتها منذ عام 2010، كان عمرها حينها 24 عامًا، حين سلمت عقلها وقلبها لجيرانها وأقاربها ممن أوهموها أن تأخر زواجها حتى الآن بسبب عمل عقده أحد الحاقدين عليها على “ذيل سمكة” على حد قولها.
أمل بنت ريف محافظة الشرقية الواقعة جنوب شرق العاصمة المصرية القاهرة، والحاصلة على معهد الخدمة الاجتماعية بتقدير جيد جدًا، صاحبة الجمال الخجول، والجسد الممشوق، والحديث العذب، لم تجد من يطرق باب بيتها طلبًا للزواج منها، وهي صاحبة الأربعة والعشرين عامًا، وهذا سن كبير جدًا ومؤشر لتأخر الزوج في الريف المصري، علمًا بأن صديقاتها ومعارفها ممن هم أقل منها جمالاً ومكانةً، وأصغر منها سنًا، باتوا الآن في عش الزوجية.
ومن هنا انزوى عقل أمل خلف قلبها المتقد حسرة على حالها، لتجد نفسها فريسة لعواجيز قريتها ممن دفعوها دفعًا إلى غياهب الدجل والشعوذة، لتفقد الفتاة الريفية عذريتها العاطفية التي تحطمت على أيدي وصفات الدجالين ومطالب المشعوذين، وإذ بالشهور تجري خلف الشهور، لتسحب معها السنين، وها هو قطار العمر يمر سريعًا دون نتيجة، فلا زالت أمل قابعة في بيتها لم تجد عريسًا لها، ولازال جيرانها يعزفون نغمات الأمل على وتر المشايخ.
الدجل في مصر، ملف قديم حديث متجدد، ووجبة دائمة الحضور على موائد النقاش المجتمعي داخل الأوساط الفكرية والاجتماعية المصرية، وبالرغم مما أثير حول هذه القضية إلا أنها ستظل من أخطر القضايا التي تهدد أمن مصر المجتمعي والاقتصادي والفكري، لذا كان لنا في “نون بوست” هذه الإطلالة السريعة على هذا الملف، للتعرف على حجمه الطبيعي في الشارع المصري، وميزانيته الضخمة، وأبرز الأسباب التي ساعدت على انتشاره، وما السبيل للخروج منه.
200 مليار جنيه ميزانية الدجل في مصر
بالرغم من سوء الأحوال المعيشية للمصريين في ظل تراجع اقتصادي فرض نفسه على كافة مجالات الحياة، فزاد من معدلات التضخم، ورفع نسب البطالة، وأهدر كرامة المواطن تحت سيف الأسعار المشتعلة، والدعم المفقود، وتواضع المرتبات، وتدهور قيمة العملة المحلية، والمعونات الخارجية والداخلية ليل نهار، مما جعل ما يزيد عن 50% من المصريين تحت مستوى خط الفقر، وتصدر المواطن المصري لقائمة الدول الأكثر إصابة بأمراض الفشل الكلوي والكبد والسكر، مع كل هذا حين نعلم أن متوسط إنفاق المصريين على أعمال السحر والشعوذة تقدر بـ 22 مليار جنيه سنويًا، حسب تقديرات الخبراء، وقد تصل إلى 11 مليار دولار، حسبما أشار عمرو يسري استشاري الطب النفسي، فلا بد من وقفة.
وفي دراسة صادمة لمركز الدراسات الاقتصادية المصرية، توصلت إلى أن الإنفاق على أعمال الشعوذة في مصر يمثل المرتبة الخامسة في حياة المواطن المصري، وذلك بعد الإنفاق على التعليم للأبناء والذي يمثل 45% من إجمالي الدخل الأسرة، و12% على المحمول و15% على الغذاء و10% من إجمالي دخل الأسرة، وباقي النسبة يتم إنفاقها على السحر والشعوذة والدجل ومعرفة الغيب.
الدراسة توصلت أيضًا إلى أن هناك علاقة عكسية بين الإنفاق على السحر والشعوذة والدجل ومعرفة الغيب، ومتوسط دخل الفرد ومدى حضرية محل إقامته، بمعنى أن الإنفاق على هذه الأمور يزداد نسبته كلما كان مستوى الدخل أقل، وكلما ابتعدت الأماكن من الحضر أي أن هذه النسب تزيد في الريف والصعيد، حيث ينتشر الجهل والفقر وهما العنصران الأساسيان لتغذية هذا النوع من الإنفاق، كما سيتم ذكره لاحقًا.
حلقات الزار أبرز مظاهر الدجل في مصر
350 ألف مشعوذ ودجّال
دجال لكل 120 مصريًا، هذا ما توصلت إليه الإحصائيات التي أعدها بعض الخبراء حول العاملين في سوق السحر والشعوذة في مصر، حيث وصل العدد إلى 350 ألف مشعوذ ومشعوذة، موزعين على أنحاء مختلفة من مصر، فضلاً عن جيش جرار من المستفيدين منهم مثل “العطّارين” وغيرهم.
المركز القومي المصري للبحوث الاجتماعية والجنائية في أكثر من دراسة له، رصد أن هناك ما يقرب من 274 خرافة تتحكم في سلوك المصريين، تتصدرها قضايا تأخر سن الزواج أو عدم الإنجاب والعقم أو فك السحر والأعمال، مشيرًا إلى أن هذه المهنة كان يمارسها في السابق عدد قليل من المشعوذين، لكنها ومع مرور الأيام توسعت بشكل غير متوقع لاسيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل والتمدد الثقافي، لتصبح “بيزنس” يلتحق به بعض العاطلين وراغبي جمع المال، وأصبح طابور بيزنس الدجالين هو أحد فروع الاقتصاد السري غير المشروعة.
الدراسات تناولت أيضًا مراحل تطور الدجل والشعوذة في مصر، حيث كان المشعوذ يمارس عمله في الخفاء في بداية الأمر، ثم بدأ يتحرك بين الناس رويدًا رويدًا، إلى أن وصل إلى عصر الأقمار الصناعية والسماوات المفتوحة، فبتنا نرى صفحات رسمية باسم الدجّالين والمشعوذين، وبرامج فضائية خاصة بهم، إضافة إلى قنوات فضائية مخصصة للدجل والشعوذة على مرأى ومسمع من الجميع، وفي مقدمتهم قناتي “كنوز” و”شهرزاد”.
الجهل والفقر والسينما أبرز الأسباب
رجال الدين وخبراء الاجتماع وعلماء النفس أشاروا إلى حزمة من الأسباب وراء انتشار ظاهرة الدجل والشعوذة بين المصريين، وتصدرها للمشهد المجتمعي بصورة غير مسبوقة، فلم يترك هذا الفيروس مجالاً ولا فرعًا إلا وكان له منه نصيب.
دينيًا: فقد أرجع علماء الأزهر وبعض الدعاة انتشار هذا الداء العضال إلى التجهيل وإبعاد المصريين عن تعلم الدين الإسلامي الصحيح، مؤكدين أن الشعب المصري قد حُرم من الدين الصحيح على مدار عقود طويلة بسبب النزاع على السلطة من قبل الحكام ومنذ دخول الاستعمار الفرنسي والإنجليزي إلى مصر، فظهرت فكرة الأولياء وأصحاب الطرق الذي جعل البعض يقدسهم ويسمع لما يقولونه، ملفتين إلى أن السحر والشعوذة يختلف كليًا عن العلاج بالقرآن الكريم، وأن أعمال الدجل والشعوذة يتجه إليها العديد من العاطلين والبلطجية من أجل استنزاف أموال الشعب المصري البسيط.
اجتماعيًا: فقد خلصت الأبحاث والدراسات إلى أن تفشي ظاهرة الفقر والجهل كانت من أبرز أسباب انتشار أعمال الدجل والشعوذة في مصر، لاسيما وأن ما يقرب من 45% من المواطنين لا يجيدون القراءة والكتابة، فضلاً عن الأمية الثقافية، ومن ثم بات نصف المصريين فريسة للوقوع في هذا الفخ، وصيد ثمين لثعالب السحر والشعوذة، وهو ما يفسر إيمان ما يزيد عن 70% من المصريين بالسحر والعمولات.
كما حمّل خبراء علم النفس المجتمعي السينما المصرية مسؤولية الترويج لهؤلاء الدجالين في عشرات الأفلام التي جرى إنتاجها، وذلك من خلال إبراز قصصهم وبيان دورهم في حل الكثير من المشاكل أو العكس، وفي المقابل يرى صنّاع السينما أن “أفلام الدجل والشعوذة هدفها تبصير المواطنين بخطر هذا الدجل، وأنه أمر وهمي، بدليل أن غالبية الأفلام تظهر ألاعيب الدجالين وكيف ينصبون على المواطنين البسطاء بدعوى حل مشاكلهم المستعصية”.
أحد المشاهد التلفزيونية في الدراما المصرية التي تبين الاستعانة بالدجل والشعوذة
إعلام العفاريت
بالرغم من الدور التنويري لوسائل الإعلام بمختلف أنواعها، والحمل الملقى على عاتقها لتحرير العقول من قيود الجهل والتخلف، إلا أنها وفي مصر المباركة لها دور آخر، حيث باتت إحدى أبرز وسائل الترويج والتسويق لمنظومة الدجل والشعوذة، وهو ما أشار إليه، الدكتور محمد صفوت العالم، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، بقوله أن الإعلام في مصر الآن يحيا حالة من الفوضى وغياب تام للمهنية وعدم احترام عقول المشاهدين والجماهير.
العالم أشار في تصريحات لـ “نون بوست” إلى أنه من الكوارث التي تسكن بيوتنا ليل نهار، أن هناك برامج تلفزيونية مخصصة لهذه الموضوعات، وتستضيف من يكرس للدجل والشعوذة، مما يتطلب وفورًا الإسراع بالتشريعات الإعلامية تجنبًا لمزيد من التدهور مستقبلاً.
الكاتبة الصحفية جيهان إمام، في تحقيق لها بجريدة “الأهرام” المصرية، تحت عنوان “بعد تزايد جرائم القتل والاغتصاب باسم الدجل ضحايا .. «الجن» أم «الخرافة»؟ أشارت إلى احتلال الجن والخرافة وعالم الدجالين والمشعوذين مساحة كبيرة في وعى بعض المصريين، وأصبح الشغل الشاغل لعدد من الفضائيات ومواقع الإنترنت وصفحات التواصل الاجتماعي، ولم يعد يقتصر الأمر على المستويات الشعبية، وإنما امتد ليشمل مستويات تعليمية عالية، وبات ظاهرة عابرة لكل المستويات الاجتماعية والتعليمية بشكل لافت للنظر ومثير للانتباه، مشيرة إلى أن هناك قصص تروى عما يعرف بـ “البيوت المسكونة بالجنّ” والحرائق المشتعلة في بعض القرى والتي أصبحت مادة ثرية لبرامج التوك شو.
وفي السياق نفسه حمّل الدكتور عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، الفضائيات التلفزيونية جانبًا كبيرًا من المسؤولية حيال انتشار ظاهرة الدجل والشعوذة، حيث أن هذه النوعية من البرامج تحقق للأسف نسب مشاهدة عالية ومن ثم إعلانات كثيرة تترجم في صورة مكاسب مادية كبيرة.
إدريس أشار في تصريحات لـ “نون بوست” أن الجن مذكور في القرآن، ولدينا العديد من الوسائل الشرعية لعلاجه، إلا أن ما يمارس على شاشات الفضائيات جريمة بكل المقاييس، ولا بد من وقفة حادة حماية للملايين من المصريين ممن يقعوا فريسة للدجالين والمشعوذين.
قناة كنوز الجنة: أبرز منابر الدجل والسحر على القمر الصناعي
الكل أمام الدجّال سواء
مع أن السحر مرادف الجهل والتخلف وغياب الوعي، ونقيض العلم والثقافة والوعي، إلا أن الملاحظ أن الجميع أمام الدجل والشعوذة سواء، فيتساوى المتعلم والأمي، المثقف والجاهل، الرجل والمرأة، الطفل والعجوز، طالما أن هناك مشكلة قد استعصى حلها بالطرق التقليدية، بات باب المشعوذ هو الأمل الأخير الذي قد يطرق عليه الجميع آمالهم وأحلامهم.
ولم يترك الدجل موضوعًا إلا وكان له منه نصيب، وهو ما تكشف خلال السنوات الأخيرة، فبتنا نرى منتخبات وأندية رياضية تعتمد على الدجل في كافة تحركاتها، وتعلق فشلها على السحر، إضافة إلى عدة مجالات أخرى كالنجاح والفشل، والسفر، والشجارات الزوجية، إلا أن هناك 6 قضايا هي الأبرز في مجال السحر والشعوذة في مصر بصفة خاصة.
الزواج: حيث قطاع عريض من المصريين بات يؤمن بصورة يقينية أن تأخر الزواج بسبب السحر والعمل وما إلى غير ذلك، وعلى الفور يتم التوجه لأقرب شيخ لفك هذا العمل، لا سيما من قبل الأمهات.
الطلاق: فمع تزايد نسب الطلاق في مصر والتي بلغت حالة طلاق كل 6 دقائق، بات التفكير في السحر كسبب رئيسي لهذه الظاهرة أمر حيوي للكثيرين من المطلقات والزوجات، ومن ثم اللجوء للمشايخ لحل الخلافات مع الزوج.
العمل: بالرغم من تزايد معدلات البطالة بين المصريين والتي تتجاوز 19 مليون عاطل حسب إحصائيات مراكز البحوث، إلا أن البعض يتوهم أن عدم الحصول على فرصة عمل نتيجة سحر أو عمل ما، ومن ثم يهرول مسرعًا صوب الدجّالين.
المرض: التقدم العلمي المذهل الذي يحياه العالم الآن لم يشفع عند المصريين للحيلولة دون تخليهم عن معتقد الذهاب للمشعوذين للتشافي من الأمراض لا سيما النفسية والمجتمعية، فبتنا نجد أن رواد السحرة والدجّالين من المرضى أضعاف رواد المستشفيات والعيادات الطبية.
العلاقات الزوجية: مع أن العلم قد أدلى بدلوه في هذه المسألة، إلا أن البعض لازال يرى أن المشاكل الخاصة بالممارسات الجنسية تعود إلى السحر والعمولات وما إلى غير ذلك من الخرافات، وبات لفظ “مربوط” أكثر الكلمات رواجًا بين حديثي الزواج.
تأخر الإنجاب: قطاع عريض من الأزواج والزوجات لديه قناعة تامة أن تأخر الإنجاب يعود في نسبة كبيرة منه إلى السحر، ومن ثم تتصدر شكاوى تأخر وعدم الإنجاب قائمة أسباب لجوء الأزواج للدجّالين.
ونحن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، حيث الثورة العلمية الهائلة، والتطورات التكنولوجية المذهلة، لازال بيننا من يؤمن بالخرافات والسحر والشعوذة، ويعلق الآمال على أوهام الحل السريع، ويبرر الفشل على شماعات “عمولات” الدجّالين، فمتى يستفيق المصريون من هذا الكابوس المؤرق؟ ومن يتحمل مسؤولية وصولهم إلى هذه الحالة الكارثية بعدما تركهم عقودًا تلو الأخرى أسارى الجهل والمرض والفقر؟