وترجل المؤرخ التونسي محمد طاهر المنصوري، تاركًا ورائه إرثًا من إسهاماته في التأريخ من كتب وترجمات وأبحاث ومقالات منشورة في مجلات عديدة وبلغات مختلفة، كان معروفًا بشكل كبير على مستوى المؤرخين سوى أنه لم يكن معروفًا بشكل كبير في الأوساط الثقافية العربية وخصوصًا في المشرق العربي.
واليوم صباحًا غادر جثمانه الدوحة بعد أن كان مدرسًا في معهد الدوحة للدراسات العليا، لينعيه طلابه ومن تربوا على يديه، وكل من قرأ له وأعجب بكتاباته.
الكتابة التاريخية التي انتشرت في العالم الإسلامي لعبت أسوأ الأدوار في خلق تورّم في الذات العربية الإسلامية
المنصوري الذي وصف واقع البحث التاريخي في المنطقة العربية بأنه “متراجع” وقال عنه إنه بعدما كان معقلنًا أصبح اليوم يغرق في الاعتقاد وتطغى عليه العاطفة، فالجمهور أصبح يلهث وراء ما يرسخ معتقداته، وأصبح دور المؤرخ يقتصر على أن يجد المبررات والمسوغات لما يؤمن به الناس وليس تفكيك الظواهر كما يقول في حوار له مع مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، وبات على المؤرخ العربي ألا يزعزع ما يعتقده الناس حقيقة من خلال نوعية الأسئلة التي يطرحها على النصوص أو بنوعية المقاربة التي ينتهجها أو بنوعية الاستنتاجات التي يصل إليها.
المنصوري: تاريخ من العطاء
المنصوري لمن لا يعرفه، هو مؤرخ جامعي وأستاذ تعليم عالٍ للتاريخ الوسيط بالجامعة التونسية منذ عام 1987 ويعد من أهم الباحثين المتخصصين في التاريخ البيزنطي وفي العلاقات المتوسطية في العصر الوسيط، كما درّس في جامعات مختلفة كمتعاقد أو كأستاذ زائر أو محاضر في السعودية وقطر وفرنسا واليونان وقبرص واليابان والمغرب، إلى جانب شغله كعضو أو رئيس للجان الانتداب في الجامعة التونسية لمختلف الرتب التعليمية، مساعد، وأستاذ مساعد، وأستاذ مشارك، وأستاذ تعليم عالٍ، كما أسهم كعضو في اللجان العلمية لبعض المجلات في تقييم البحوث في باريس وأثينا وغيرها.
اهتم المنصوري بتاريخ العلاقات المتوسطية من جوانبها المختلفة السياسية والعسكرية والاقتصادية والتصورات المتبادلة، له العديد من المؤلفات باللغة العربية والفرنسية فضلًا أن له في حقل الترجمة من وإلى العربية والفرنسية والإنجليزية ترجمات مهمة للغاية مثل “التاريخ المفتت” و”التاريخ الجديد” و”إسكان الغريب في العالم المتوسطي”، ويذكر أن الكتاب الأخير حاز على جائزة الشيخ زايد للترجمة في العام 2014 التي تعد من أهم الجوائز على مستوى الثقافة العربية.
الكتاب المذكور والصادر في العام 2013 حصل على الجائزة لدقة الترجمة وأناقتها وقد أظهرت ترجمة هذا الكتاب أمانة للغة النص الأصلي ودقة في ترجمة المصطلحات التاريخية والعلمية وازدانت بفهارس عديدة وبإثبات واسع لأسماء الأماكن والأعلام، وقد وصفته لجنة تحكيم الجائزة بأنه بحث جاد يجمع وسائل المراجعة التاريخية والتبحر الأرشيفي والمساءلة الفكرية لظاهرة هامة لصيقة بالثقافات العالمية، المتوسطية بشكل خاص، وهي ظاهرة استضافة المسافر وإسكانه.
وفي عرض حديثه لموقع مؤمنون بلا حدود، تكلم المنصوري عن أهمية الكتاب وسبب تسميته بإسكان الغريب لأنه حقيقة يتكلم عن الغريب، فالكتاب مهم لإنه درس العلاقات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية بين مختلف مكونات العالم المتوسطي الحضارية من خلال دراسة الفندق، علمًا أن الفندق هو مؤسسة نشأت على ضفاف العالم المتوسطي لإسكان الغرباء ولم تكن هناك ضرورة لمثل هذه المؤسسات لو لم تكن هناك حاجة ملحة ناتجة عن حركة الناس وتنقلهم، وهؤلاء المتنقلون والسفار ليسوا سوى غرباء عن أوطانهم لذلك هم مجبرون على الخضوع إلى جملة من القوانين والأوامر والتضييقات التي تمارسها المجتمعات المضيفة.
وقد صدر للمنصوري العديد من المقالات والأبحاث في أنحاء متفرقة من العالم، في البلدان العربية وأوروبا والولايات المتحدة واليابان، ومن كتاباته التي تظهر على موقع معهد الدوحة للدراسات العليا الذي كان يدرس فيه، العلاقات بين مصر وبيزنطة ما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر، والحمامات مدينة متوسطية، وقبرص من خلال المصادر العربية، والحياة الدينية في بيزنطة، وقاموس المصطلحات البيزنطية، وقوانين اللباس في الحضارة العربية، في العلاقات الإسلامية البيزنطية، في علاقة المسلمين بالغرب اللاتيني.
ولعل من أبرز ما كتبه، أطروحته في الفرنسية حول “من الزنار إلى الخمار: قوانين اللباس في تاريخ الإسلام الوسيط”، إذ يصف المنصوري اللباس بأنه يعكس الوضع الظاهري للفرد في يومنا الحاضر، فهو يعبر عن الوضع المادي وعن الطوق وحتى عن الانتماء الجهوي، ففي العصر الوسيط لم يكن ممكنًا تحديد الهويات للوهلة الأولى في الفضاء العمومي إلا من خلال المظهر، إذ يتم تحديد الجنس والانتماء الجغرافي والوضع القانوني والانتماء العقدي، فكثيرًا ما نجد عبارات تقول “بأنه كان في زي أهل إفريقية أو في زي العلماء أو زي التجار” وهو ما يؤدي إلى نوع من النمذجة الاجتماعية المعتمدة على اللباس، إلى درجة يقال فيها: “قل لي ماذا تلبس أقل لك من أنت“.
التطرف الديني لا يعني التدين والعبادة والالتزام بما جاء به الدين، فهذا أمر طبيعي، ويجب ألّا ننظر لمن يمارس دينه على أنه متطرف.
سعى المنصوري من خلال الكتاب تطبيق أدوات كتابة التاريخ الجديد الذي يعنى بكتابة التاريخ الاجتماعي والأنثروبولوجي الذي يعنى بحياة الناس اليومية على مستوى الطعام واللباس والعادات وكيفية تعاملهم مع بعضهم البعض ونظرتهم للدين وطرق تدينهم وتاريخ الزواج والقرابات وأمور أخرى، بدلًا من الاقتصار على كتابة التاريخ من باب التاريخ السياسي وحياة القادة السياسيين والسلاطين.
وفي مجال البحوث فقد اهتم في دراسة العلاقات المتوسطية في العصر الوسيط، تاريخ الذهنيات والاهتمام بالمناهج التاريخية وتطور الكتابة التاريخية من خلال ترجمة أمهات الكتب في المناهج من الفرنسية والإنجليزية إلى العربية.
مدرسة التاريخ الجديد
كان للمنصوري اهتمام كبير بمدرسة التاريخ الجديد الفرنسية المعروفة بـ “مدرسة الحوليات” حيث تعد مدرسة التاريخ الجديد مجددة بحق لما سبقها، فهي كما يصفها المنصوري تسعى إلى دراسة تاريخ المجتمعات من مختلف النواحي، وهي تعتقد حقًا أن الذين يصنعون التاريخ ليسوا أفراد النخبة سواء أكانت سياسية أم عسكرية أم ثقافية، وإنما المجتمعات برمتها هي التي تصنع التاريخ، إذ لا يمكن للفرد أن يبرز إلا في ظل مجتمع يسمح له بالبروز أو يمكنه منه، ومن هذا المنطلق هناك سعي للبحث عن التاريخ في كل جزئية من جزئيات المجتمع، وهو ما يسمى بالتاريخ الشمولي، فالفرد لا يعيش من الخبز والماء فقط وإنما من الموروث ومن المستحدث من المادي والذهني من الواقع والمتخيل من الاعتقاد ومن عدمه.
فئة من المؤرخين تكتب تاريخًا جميلاً، وهو بالأساس ليس تاريخًا، لأن التاريخ لم يكن أبدًا وفي أية حضارة تاريخًا جميلاً، إنه تاريخ الناس جميعًا، فيه الجيد وفيه السيء، وفيه الأبيض وفيه الأسود
وعندما سُئل المنصوري عن واقع الكتابة التاريخية في العالم العربي، قال إن الكتابة التاريخية التي انتشرت في العالم الإسلامي لعبت أسوأ الأدوار في خلق تورّم في الذات العربية الإسلامية، وهذا التورّم هو المسؤول اليوم عن التمزق النفسي قبل أن يكون تمزقًا طائفيًا وعرقيًا وعقديًا، فقد دأبت فئة من المؤرخين تكتب تاريخًا جميلاً، وهو بالأساس ليس تاريخًا، لأن التاريخ لم يكن أبدًا وفي أية حضارة تاريخًا جميلاً، إنه تاريخ الناس جميعًا، فيه الجيد وفيه السيء، وفيه الأبيض وفيه الأسود، إلا أن ثمة بعض من احترفوا مهنة يقال لها مهنة مؤرخ، يكتبون ما تريد الشعوب سماعه من إيجابيات “فقد كنا خير أمة أخرجت للناس”، وهذه الصورة جعلت الناس يتساءلون كيف نكون خير أمة ونحن في الواقع أمة مستباحة.
ويكمل المنصوري في الحوار، لقد خلق هذا الوضع المتناقض شعورًا بالغبن لدى كثيرين، وهو ما أدى بكثيرين إلى تصور أنه يمكن إعادة تركيب التاريخ، لذلك انتشر الفكر الماضوي، وانتشر استغلال البسطاء بتصوير التاريخ المنتقى والمختار على أنه حقيقة، وهذه الحقيقة قابلة للإنجاز، لذلك علينا أن نعود إلى الوراء، أي إلى الماضي الجميل، ونعيد تركيبه بمختلف الطرق، فقد أدى ذلك إلى ما يعيشه العرب اليوم.