تجمعت خلال الفترة الماضية مجموعة من التقارير والإحصائيات الرسمية التي تتعلق بأمرَيْن قد لا يكون هناك رابطًا موضوعيًا ظاهرًا بينها، إلا أنها في حقيقة الأمر، ترتبط برابط ربما أقوى من الحبل السُّرِّي الذي يربط بين الأم وجنينها.
وهذا التشبيه ليس محض صدفة أو بلاغة لغوية، حيث إن الأمرَيْن في الوقت الراهن يبدو أنهما يتجهان نحو مخاض عسير قد يفرِّق بينهما إلى الأبد!
الأمر الأول يتعلق بموازنات دول الخليج العربية، والتي بدأت تعاني من عجز لم تعرفه منذ سنين طويلة، وخصوصًا الموازنة السعودية التي عانت من عجز يقارب المائة مليار دولار للمرة الأولى منذ عشرة أعوام، والكويت التي عانت من عجز لم تعان منه منذ 16 عامًا، وبلغ ما يزيد قليلاً على 15 مليار دولار.
وفي الحالتَيْن، كان السبب الرئيسي لهذا العجز هو تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية إلى مستويات أدنى بكثير من المستوى النفسي عند حاجز خمسين دولارًا، حيث تدور في الوقت الراهن عند حدود ما بين 42 إلى 44 دولارًا للعقود الآجلة.
أما الأمر الثاني، فيتعلق بنتائج حديثة لاستراتيجية بدأتها الولايات المتحدة قبل عدة سنوات لتطوير استراتيجيتها في مجال الطاقة، من أجل تقليل اعتماديتها على الوارد من مصادر الطاقة المختلفة، ثم التحول إلى مصدِّر لها، سواء النفط ومصادر الطاقة الخام الأخرى، أو المشتقات النفطية المكرَّرة والمُصنَّعة.
واعتمدت الولايات المتحدة في هذا الصدد على ثلاثة استراتيجيات رئيسية، بدأت في تنفيذها منذ العام 2005م، وبدأت تأتي ثمارها في الوقت الراهن، وهي:
– تعزيز إنتاجها من النفط الصخري.
– تعزيز إنتاجها من الغاز الطبيعي، وإبداله بمصادر طاقة أخرى تتعارض مع اعتبارات التنمية المستدامة، مثل الفحم.
– توسيع نطاق الاعتماد على بدائل الطاقة الأخرى، مثل الطاقة النظيفة والطاقة النووية، والأخير هو توجه تنفرد به الولايات المتحدة عن أوروبا واليابان، اللتَيْن قلصتا بشدة الاعتماد على الطاقة النووية لصالح الطاقة النظيفة، مثل تلك المستخرجة من طاقة الرياح والطاقة الشمسية، حيث تُعتبر ألمانيا رائدة في هذا الصدد.
الحبل السُّرِّي المتين الذي يربط بين الأمرَيْن لا يتعلق فقط بأن الولايات المتحدة تتحول تدريجيًّا للخروج من أسر اعتماديتها على النفط الخليجي، مع ما لذلك من مخاطره على اقتصاديات الدول الخليجية، فعوائد النفط هي أهم مورد لموازنات هذه الدول، والتي تتبنى في الغالب نمط الدولة الأبوية الريعية التي تعمل على توفير الخدمات لمواطنيها، وخصوصًا ممن هم ينتمون إلى الأسرة الحاكمة أو يدورون في دائرتها وعلى مصالح معها.
الجزئية الأولى، تتصل بأن الولايات المتحدة، بعد سنوات قليلة، ربما في غضون خمس سنوات لا تزيد، ستكون قادرة على التحكم في الأساس بسوق النفط العالمية، وبالتالي فإنها ستكون قادرة على التحكم في اقتصاديات دول الخليج، وممارسة تأثيرات سياسية أكبر وأقوى عليها تبعًا لذلك، وهو ما سيكون له انعكاسات كبيرة على الأزمات والقضايا الإقليمية.
الجزئية الثانية تتصل بترتيبات أمن الخليج.
فسيطرة الخليج على أكبر احتياطيات النفط العالمية، واعتمادية الولايات المتحدة على النفط الخليجي لعقود طويلة مضت، جعل الولايات المتحدة تضع المنطقة العربية والشرق الأوسط – بجانب عوامل أخرى مثل أمن إسرائيل وحماية طرق الملاحة البحرية – ضمن أولويات سياساتها الخارجية.
وبالتالي فقد فرضت الولايات المتحدة منظومة من السياسات على حكومات وأنظمة دول المنطقة، تتضمن مجموعة من الاتفاقيات الدفاعية، تم استكمالها في التسعينات، بعد حرب الخليج الثانية، انتهازًا لأزمة احتلال العراق للكويت، لتأكيد حاجة دول هذه المنطقة لحماية دولية تضمن الأمن القومي لها أو لأنظمتها بمعنى أدق.
ولم تكن الولايات المتحدة فقط التي وقعت على هذه الاتفاقيات مع دول الخليج، حيث وقعت فرنسا وبريطانيا كذلك مجموعة من هذه الاتفاقيات مع البحرين والإمارات والكويت، بجانب قطر، والسعودية بطبيعة الحال، ضمنت وجود قوات لهذه البلدان في قواعد بحرية وبرية وجوية في دول الخليج العربي الخمس، ولا تتضمن هذه المنظومة من الاتفاقيات، سلطنة عُمان باستثناء قاعدة جوية أمنريكية تتمركز بها قاذفات بعيدة المدى من طراز (B1)، وطائرات للتزود بالوقود.
وفي حال تراجعت أهمية هذه المناطق بالنسبة لمنظومة المصالح الحيوية الأمريكية؛ فإنها لن تبقى ضمن المنظومة الدفاعية الأمريكية، بل إن بعض المحللين، ومن بينهم شهيد بولسين، يرون أنها سوف تكون عُرضة للتدمير، كتقليد عام “تراعيه” السياسة الأمريكية، حيث لا ترغب واشنطن في أن ترى مكامن قوة في قبضة قوى أخرى، إقليمية أو دولية، والتاريخ شاهد على ذلك.
يدور الاستهلاك الأمريكي للنفط في السنوات الأخيرة، وحتى 2015م، عند حاجز 19 مليونًا إلى 19.5 مليون برميل يوميًّا.
ويعود هذا الثبات النسبي في الاستهلاك إلى الاستراتيجيات الثلاثة سالفة الذكر: النفط الصخري، والغاز الطبيعي، والمصادر النظيفة، مع تراجع في استهلاك الفحم.
في المقابل تُنتج الولايات المتحدة يوميًّا، حوالي 10 ملايين برميل، أو أقل قليلاً، وفق أرقام العام 2015م (في 2016م، تراجع مستوى الإنتاج بحوالي 700 إلى 800 ألف برميل يوميًّا، ولكن بشكل موسمي).
ولكن حتى هذا الرقم، نجده قد ارتفع إلى 12.6 مليون برميل يوميًّا، عند حساب مختلف المواد الهيدروكربونية التي تنتجها الولايات المتحدة، والتي تشمل بالإضافة إلى النفط الخام، سوائل الغاز (NGL) والإيثانول والبَيُوفيول.
وفي العام 2015م، بحساب المواد الهيدروكربونية، قد ارتفع إلى 13.5 مليون برميل يوميًّا، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة صارت تستورد فقط 4.6 مليون برميل يوميًّا، وفق معلومات إدارة الطاقة الأمريكية.
وهنا نقف لأننا سوف نعود إلى هذه البيانات في موضعٍ تالٍ عند الحديث عن الرابط بين هذا الأمر وأثره على دول الخليج العربية.
في مجال الغاز الطبيعي، فقد أدت الاستراتيجية الأمريكية إلى ارتفاع في الإنتاج من مستوى 1.7 مليار متر مكعب في اليوم، في العام 2005م، إلى نحو مليارَيْ متر مكعب في اليوم في العام 2013م، ثم 2.2 مليار متر مكعب، في العام 2014م، وفق معلومات وكالة الطاقة الأمريكية.
إلا أن أهم بند في الاستراتيجية الأمريكية لتنويع مصادر الطاقة لديها، والتخلي تدريجيًّا عن الاستيراد من الخارج، هو إحداث ثورة في إنتاج الغاز الصخري، باستخدام ما يعرف بتقنية “التكسير الهيدروليكي” أو “الفراكينج” “fracking“، وتتيح هذه النوعية من التقنيات استخراج النفط من الصخر الزيتي الجاف في باطن الأرض.
وهي تقنية مكلفة بيئيًّا واقتصاديًّا، إلا أن الولايات المتحدة – في الجانب المتعلق بالكلفة البيئية – لم يُعرف عنها أنها تضع في الاعتبار ذلك عند رسم استراتيجياتها في مجالات الأمن القومي المختلفة – والطاقة من أهم هذه المجالات – فهي واحدة من أكثر الدول تلويثًا للبيئة، وفي ذات الوقت هي واحدة من الدول التي لم توقِّع حتى الآن على بروتوكول “كيوتو” لتقليص الانبعاثات الكربونية في الغلاف الجوي للكوكب الأزرق الذي تحول إلى كوكب رمادي!
العائق الوحيد في هذا الصدد أمام الأمريكيين، هو نشطاء البيئة وجماعات السلام الأخضر داخل الولايات المتحدة نفسها، حيث يسببون صداعًا للإدارات الأمريكية في ملف استغلال مكامن الغاز الصخري في ولاية ألاسكا، حيث أكبر المحميات الطبيعية في الولايات المتحدة.
أما في المجال الاقتصادي، فإن الثراء الأمريكي يتيح لها الاستمرار في حفر آبار النفط الصخري، ولو وصلت كلفة البرميل إلى مائة مليار دولار، لأن الاقتصاد الأمريكي يمكنه تحمل ذلك لسنوات عشر قادمة، حتى تتحول الكميات المستخرجة إلى كميات اقتصادية، أي أن يفوق عائدها، كلفة إنتاجها.
وعلى أهمية الاعتبار الموضوع لذلك، وهو تحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة، فإن صانع القرار الأمريكي يمكنه قبول ذلك بمنتهى اليُسر.
فالاكتفاء الذاتي من الطاقة، هدف يتفق تمامًا مع كون الولايات المتحدة قوى عظمى تسعى إلى استمرار هيمنتها على العالم، خلال القرن الحادي والعشرين، وسط منافسة لا ترحم مع خصوم اقتصاديين مثل الصين والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى روسيا، أكبر قوة دولية في مجال الطاقة الآن، نفط وغاز طبيعي.
ولعل أبرز دليل على أن هذا الأمر هو خيار شديد الاستراتيجية للولايات المتحدة، هو اتفاق كلٍّ من الإدارات الجمهورية (بوش الابن) والديمقراطية (باراك أوباما) على هذا الأمر، ولكن مع ميل الديمقراطيين إلى التريث قليلاً في الجانب المتعلق بالكُلفة البيئية.
ولذلك فإن المحصلة الآن، أن الولايات المتحدة في الوقت الراهن تقوم باستخراج الغاز الصخري ونواتجه النفطية من مكامن مهمة في ولايات تكساس، وكنساس، ويوتاه، ومونتانا، وأركنساس، ولويزيانا، وكلها كما هو ملاحَظ في غالبيتها، من الولايات الجنوبية القريبة من خليج المكسيك، حيث مصادر النفط الأمريكية الأهم، والتي تعد بالكثير في العقود القادمة.
دول الخليج: أزمات اقتصادية أو مآزق سياسية؟!
قد يكون من المبكر الحديث عن تداعيات قوية على الخليج العربي من الاستراتيجية الأمريكية السابقة/ لكن من الأهمية بمكان إدراك أن هذه الاستراتيجية شديدة الأهمية للأمريكيين، ولئن كانوا في الوقت الراهن لم يصلوا إلى الكمال المطلق، إلا أنه، ووفق قوانين السياسة المرعية، فإننا نتوقع أنه في غضون خمس إلى عشر سنوات، أن تتحقق هذه الاستراتيجية الأمريكية.
وهنا نعود إلى معلومات إدارة الطاقة الأمريكية التي أشرنا إليها في موضع سابق، والتي تتعلق بتقليص مستوى ما تستورده الولايات المتحدة من النفط، من الخارج، عند مستوى نحو 4.6 مليون برميل.
هذا الرقم أولاً يعني أن الولايات المتحدة قد استطاعت أن تقلص من وارداتها النفطية حوالي 8 ملايين برميل، في حوالي عشر سنوات، وبالتالي فإن الأمريكيين لو استمروا في استراتيجيتهم هذا؛ فإنهم بعد أقل من هذه الفترة بكثير سيكونون قادرين على تحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة.
كما أن بيانات إدارة الطاقة الأمريكية السابقة، تشير إلى نصيب كندا والمكسيك منها حوالى 60%، وهذا يقول إن الولايات المتحدة لم تستطع فحسب تقليص وارداتها النفطية بنسبة 50% في غضون عشر سنوات، بل إنها كذلك جعلت أكثر من نصف ما تستورده، يأتي من جيرانها: كندا والمكسيك، فيما تستورد الباقي من فنزويلا (بنفس نسبة المكسيك) والشرق الأوسط.
ويبدو أن هناك حساسية خاصة لموضوع الاعتمادية على مصادر الطاقة العربية.
فالاستراتيجية الأمريكية لا تبدو أنها تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، مهما كانت الكلفة البيئية والاقتصادية، وإنما كذلك، كجزء مهم منها هو التقليل قدر المستطاع من الاعتماد على المصادر النفطية العربية.
ويبدو ذلك شديد الوضوح في الكثير من الدراسات التي تصدر عن مراكز البحوث الأمريكية التي تُعتبر من أهم مراكز التفكير المؤثرة على صانع القرار ومتخذه في الإدارة الأمريكية، وفي الكونجرس، وكذلك في تصريحات كبار المسؤولين الأمريكيين، والعاملين في مجال النفط.
ونختار هنا دراسة وتصريح، ونبدأ بالتصريح.
التصريح صدر عن ريكس تورلسون، وهو الرئيس التنفيذي لشركة “إكسون موبيل”، قال فيه: “إن الولايات المتحدة دخلت عصرًا جديدًا للطاقة يتميز بوفرة الإمدادات”، وأضاف موضحًا أن بلاده “لم تعد بحاجة لاستيراد النفط من الشرق الأوسط غير المستقر، أو من روسيا وسياساتها المتقلبة”.
أما الدراسة فهي دراسة قامت بها جامعة تكساس، وكان هدفها إثبات أن المملكة العربية السعودية ليست هي المصدِّر الأول للنفط الخام للولايات المتحدة، وإنما كندا، والتي مع المكسيك – كما تقدم – تشكل ما نسبته 60% من الواردات الأمريكية من النفط.
وكان مبعث إجراء الدراسة أن الجامعة قد أجرت مسحًا في ربيع العام 2015م، أظهر أن 75% من الأمريكيين، يرون أن الشرق الأوسط هو مصدر غالبية الواردات الأمريكية من النفط، وأن 58% من الأمريكيين يرون أن السعودية هي أكبر مصدر للنفط القادم من الخارج.
الدراسة أثبتت أن هذه الآراء غير دقيقة، وقالت إن كندا والمكسيك وفنزويلا، هم أهم مصدِّري النفط للولايات المتحدة كما يوضح الشكل التالي:
إزاء هذه الصورة، فإن خيارات دول الخليج، وخصوصًا المملكة العربية السعودية، تبدو محدودة.
فالفترة الزمنية التي يتطلبها تحول اقتصادي يقيها شر هذه الاستراتيجية الأمريكية، التي تستهدفها بالذات، تبدو غير كافية، حيث إن المملكة – على سبيل المثال – لا يمكنها تنفيذ كامل خطة التنمية الجديدة المعروفة بـ “رؤية المملكة 2030” مبكرًا عن عقد ونصف، تكون الاستراتيجية الأمريكية قد اكتملت فيها.
كما أن خبراء يشككون في قدرة المملكة على تنفيذ هذه الرؤية بالكامل، ويرون أن طرحها، إنما يأتي ضمن عملية التسويق التي يقوم بها الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد ووزير الدفاع، لترويج نفسه كوريث محتمل للعرش في المملكة.
من جانب آخر فإن تقليص الرياض لإنتاجها لرفع الأسعار، أمرٌ غير ممكن، حيث إنه سوف يقود إلى مصلحة إيرانية مباشرة، كما أنه ليس كل شركاء أوبك متفقين عليه.
وفي حقيقة الأمر فإن بوادر أثر السياسة الأمريكية الجديدة قد بدا على موازنات دول الخليج، ولكي نتصور الحال، يكفي هنا الإشارة إلى قرارات مجلس الوزراء السعودي الأخيرة، والتي قررت رفع الرسوم على الأجانب بشكل قد يقود إلى رجوع الكثيرين من العمالية الأجنبية في المملكة إلى بلادهم.
ومن بين ذلك وضع رسوم للزيارة العائلية، عند مستوى ألفَيْ ريال، بعدما كانت من دون رسوم، كما تم رفع رسوم الخروج والعودة في ستة أشهر من 200 ريال إلى 600 ريال، فيما تم رفع تأشيرة الحج والعمرة إلى ألفَيْ ريال بعد أول مرة التي سوف تتحملها الحكومة السعودية، مع وضع رسوم نسبتها 10% على تحويلات الأجانب التي تزيد على ثلاثة آلاف ريال.
هذه الطفرة في الرسوم من جانب الحكومة السعودية، وفق مقاييس الاقتصاد الكُلِّي، تعني أن الحكومة السعودية لا تجد بدائل أخرى لتمويل مواردها.
هذه الحقائق البسيطة تقودنا إلى عبارة لافتة ومهمة للغاية، للكاتب شهيد بولسين، قال فيها تعليقًا على الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في مجال الطاقة، إن الولايات المتحدة لديها الآن القدرة على إفلاس المملكة العربية السعودية والخليج العربي، وبمجرد إفلاسهم سيتحولون إلى دولٍ مَدِينة، وبمجرد تحولهم إلى دولٍ مَدِينة، فإن مسألة خضوعهم للسياسة الأمريكية التي يعرضونها طائعين مختارين اليوم، ستصبح مفروضة عليهم قهرًا بالقوة الاقتصادية!