موسى عجمي كان من أوائل من انتبهوا وكتبوا عن “الحركة الحيوية” في كتابه “حركة الحياة” فقارن بين المادة والروح فقال: “كأن غاية المادة صيانة الروح فقط والمحافظة عليها، وتسهيل حركتها لمزاولة عملها الخاص، وأن الروح والمادة قيمتان متلازمتان لا تستطيع الواحدة أن تحيا من دون الأخرى، ولا أن تتخلى عنها ولا أن تكون منفصلة أو منعزلة عن سبيلها، فالأولى طاقة فاعلة، وحركة عاملة، وقوة دافعة، ومسؤولة عن كل تحويل وتغيير وتطوير وتبديل، وتتمتع بأولوية الوجود، وأسبقية التكوين، وعلو الهمة والأهمية، والثانية غلاف لا محيد عن وجوده، ومظهر تأكيدي للروح، وطريق معدة لنظام الحركة، وحصيلة تكاثرية وازديادية تتجلى لتجعل الكون صورة حقيقية وواقعية، والحياة عالمًا قابلًا للعيش والسكنى”.
ثم فَصَّل الأستاذ محمد أحمد الراشد وشرح “حركة الحياة” في سلسلة طويلة أسماها “استراتيجيات الحركة الحيوية” وكتب ما يزيد عن عشرين كتيبًا، وعَرَّف الراشد حركة الحياة بأنها: “كتلة من الحقائق الإيمانية والدراسات النفسية والإشارات الفلسفية والمعايير العلمية واللمعات المنطقية، تعتمد التوصيف، ثم التحليل والتأمل، ولكن هذه الكتلة تستبطن بطائن عديدة يقوم كل منها مقام كتاب تخصصي”، وبالمثال يتضح المقال، ونأخذ مثالًا مما ضربه الراشد في الرسالة الأولي التعريفية “همس النبضات” فقال: “وردود الفعل عند المحكوم تجاه الظلم المالي من الحاكم، هي دومًا من أعنف محركات الحياة، وربما تقود لتمرد وثورة، أو برود العلاقة بين الطرفين فيكون التأخر المدني، وفي مثلها قال حُني بن جابر التغلبي: أفي كل أسواق العراق إتاوة، وفي كل ما باع امرؤ: مَكْسُ درهم؟!”.
ألا ينتهي عنا ملوك، وتتقي محارمنا، لا يبوء الدم الدم؟! نعاطي الملوك السلم ما قصدوا بنا، وليس علينا قتلهم بمحرم!! فالشاعر هنا يُصرح بأمر كبير وهو الثورة، ثم يقوم بتذكير الملوك أن الرعية تكون على طرائق سليمة إذا كانت سياسة الملوك: القصد، أي الرفق وعدم التطرف، ثم يُعَّقب الراشد: فهذا أدب سياسي صريح قديم يكشف عن صفحة من قوانين حركة الحياة، فالأنفة: حالة نفسية مغروسة في الأعماق تقود إلي العصيان، والعصيان في بعض الأحيان ينجح في تبديل الحاكم، فتتحرك الحياة، وأصل ذلك: ظلم مالي.
وفي القصص الرمزية أن بومة خُطبت، فاشترطت على خاطبها مائة قرية خربة تنتقي من أطلالها ما تشاء مسكنًا لها، فقال لها الخاطب: انتظري سنة، فإني أرى ملكنا مولعًا بكثرة الضرائب وإرهاق الناس.
كانت هذه مقدمة مهمة لعلم حركة الحياة، وتسليط الضوء عليها للاستفادة منها والانتباه لمجريات الحياة عبر كثير من حركاتها: المتحركة والساكنة، الهادئة والهادرة، الصاخبة والصامتة.
من هذه المحركات الأسماء والمسميات، يقول ابن القيم في زاد المعاد: “فالأسماء قوالب للمعاني، ودالة عليها، اقتضت الحكمة أن يكون بينها وبينها ارتباط وتناسب وألا يكون المعنى معها بمنزلة الأجنبي المحض الذي لا تعلق له بها، فإن حكمة الحكيم تأبى ذلك، والواقع يشهد بخلافه، بل للأسماء تأثير في المسميات، وللمسميات تأثَّر عن أسمائها في الحسن والقبح، والخفة والثقل، واللطافة والكثافة، كما قيل: وقلما أبصرت عيناك ذا لقب … إلا ومعناه إن فكرت في لقبه، وكان صلى الله عليه وسلم يستحب الاسم الحسَن، وأمر إذا أبردوا إليه بريدًا أن يكون حسن الاسم حسن الوجه، وكان يأخذ المعاني من أسمائها، في المنام واليقظة”.
ومن المعاني الجميلة لحركة الحياة في الأسماء، تأول النبي صلى الله عليه وسلم سهولة أمرهم يوم الحديبية من مجيء سُهيل بن عمرو إليه، فقال: “قد سُهل لكم من أمركم”، ومن الطرائف أن رسول الله ندب جماعة إلى حلب شاة، فقام رجل يحلبها، فقال: ما اسمك؟ قال: مُرة، فقال: اجلس، فقام آخر فقال: ما اسمك؟ قال: أظنه حرب، فقال: اجلس، فقام آخر فقال: ما اسمك؟ فقال: يعيش، فقال: احلُبها”.
وكان النبي يكره الأمكنة المنكرة الأسماء، ويكره العبور فيها، كما مر في بعض غزواته بين جبلين، فسأل ما اسميهما فقالوا: فاضح ومُخز، فعدل عنهما، ولم يجز بينهما.
وفي زاد المعاد: أن الأسماء والمسميات بينهما من الارتباط والتناسب والقرابة ما بين قوالب الأشياء وحقائقها، وما بين الأرواح والأجسام، عَبَرَ العقل من كل منهما إلى الآخر، وبناء على هذه الفلسفة كان إياس بن معاوية وغيره يرى الشخص، فيقول: ينبغي أن يكون اسمه كَيْتَ وكَيْتَ، فلا يكاد يُخطئ.
حتى المدن كان لها من اسمها نصيب، فمدينتي “المنصورة” بمصر، سُميت بذلك لانتصار أهلها على الحملة الصليبية وأسر قائدها لويس التاسع في دار ابن لقمان، وكذلك القاهرة، التي قهرت كل محتل ومغتصب، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، واسمهما يثرب، غيره بطيبة، لما زال عنها ما في لفظ يثرب من التثريب، بما في معنى طيبة من الطيب.
ومن معاني الحركة في الأسماء ما كان مدخلًا سهلًا لقلوب الآخرين، لأن الاسم الحسن يقتضى مسماه، ويستدعيه من قرب، وكان الاسم الحسن مدخلًا للنبي صلى الله عليه وسلم لدعوة القبائل، فقال:” يا بنى عبد الله، إن الله قد حسن اسمكم واسك أبيكم”. فانظر كيف دعاهم إلى عبودية الله بحسن اسم أبيهم.
يقول ابن القيم: “ولما كان كل إنسان متحركًا بالإرادة، والهم مبدأ الارادة، ويترتب على إرادته حركته وكسبه، كان أصدق الأسماء اسم همام، واسم حارث، إذ لا ينفك مسماهما عن حقيقة معناهما، ولما كان اسم الحرب والمرة أكره شيء للنفوس وأقبحها عندها، كان أقبح الأسماء حرب ومرة، وعلى قياس هذا حنظلة وحزن، وما أشبههما، وما أجدر هذه الأسماء بتأثيرها في مسمياتها، كما أثر اسم (حزن) الحزونة في سعيد ابن المسيب وأهل بيته، فقد غير النبي اسم حَزَنَ جد سعيد ابن المسيب وجعله سهلًا، وقال: “السهل يؤطأ ويُمتهن” فرفض فظل الحُزن فيهم تتوارثه الأجيال”.
ولتخفيف وقع بعض الأسماء على المجتمع، والتي عرفها من أسماء المحظورات والممنوعات، والتي لها جرسها المنفر والمنكر على أسماعه، فقد تم التلاعب بهذه الأسماء لتمريرها وقبولها، يقول الدكتور علي أبو عرار: “فقلبت معانيها، وتبدلت دلالاتها، فالكذب والخداع والمراوغة أصبحت تُسمى دبلوماسية، والرشوة تسمى هدية أو إكرامية ، والربا مجرد فوائد بنكية، والخمور والمسكرات مشروبات روحية، والسفر إلى الخارج للفساد وللبحث عن المتعة الرخيصة ليست سوى سياحة، والحب الساقط والغرام وانتهاك الأعراض حرية شخصية، وتقليد الغرب في أنماط حياتهم وطرق معيشتهم موضة عصرية، والتمسك بالقيم والأخلاق والموروثات الشرعية أصولية وتزمت ورجعية، والغناء يسمى ابتهالًا، والنفاق مجاملةً، والزنا خيانة زوجية، والمجون والدياثة فنًا، والجريمة بطولة، والسفور ونزع الحجاب مدنية وتقدمية”.