جاء توقيع خارطة الطريق بين الحكومة السودانية وفصائل المعارضة برعاية إثيوبية في غيبة تامة للدور المصري، لتضع العديد من علامات الاستفهام حول مستقبل الدبلوماسية المصرية إفريقيًا، بعدما نجحت أديس أبابا في سحب البساط من تحت أقدام القاهرة.
الوساطة الإثيوبية لحل الأزمة السودانية تعامل معها الجميع على أنها ميلاد جديد لدور مختلف للدبلوماسية الإثيوبية داخل القارة الإفريقية، يعكس حضور قوي وثقل سياسي هائل وكسب احترام وثقة الجميع، بما يشير إلى أن تغيرات جذرية في خارطة القارة الدبلوماسية، فأين القاهرة مما يحدث؟ وهل “سنّة” التسول على موائد الخليج تغني عن “فرض” حماية أمن مصر المائي وتقوية العلاقات مع دول حوض النيل؟
خارطة طريق جديدة
بعد خمسة أشهر تقريبًا من التوقيع المنفرد للحكومة السودانية على خارطة الطريق الجديدة التي تم إبرامها في مارس الماضي، عقب امتناع أحزاب وحركات المعارضة عن التوقيع إلا بعد تضمين بعض الشروط والمطالب التي قدمها لوفد الحكومة السودانية، ها هو حلف “نداء السودان” الذي يضم لفيف من حركات وأحزاب وفصائل المعارضة السودانية يوقع مؤخرًا على هذه الاتفاقية بعد التواصل لنقاط تسوية مشتركة بين الطرفين.
وكان الرئيس السوداني عمر البشير قد أعلن ترحيبه باعتزام فصائل المعارضة التوقيع على خارطة الطريق، وقال “إن ترحيبنا يمتد لكل من يلتحق بركب الحوار في أي مرحلة كانت، حتى وصولنا إلى المؤتمر العام يوم 10 أكتوبر المقبل”.
ضم وفد قوى المعارضة والذي وصل إلى أديس أبابا لتوقيع الاتفاقية، كل من زعيم حزب الأمة الصادق المهدي، وقادة الحركة الشعبية مالك عقار وياسر عرمان، علاوة على قائدي حركتي العدل والمساواة وتحرير السودان جبريل إبراهيم، ومني أركو مناوي، وعقب التوقيع مباشرة شرع قادة قوى المعارضة السودانية في تبرير موقفها، وشرح الأسباب التي دفعتها لعدم التوقيع على الخارطة في مارس الماضي.
التحالف السوداني المعارض – الذي يضم تحت لوائه (حزب الأمة القومي، والحركة الشعبية قطاع الشمال، وحركة تحرير السودان، وحركة العدل والمساواة، ومجموعة قوى المستقبل للتغيير)، إضافة لبعض الحركات المسلحة في النيل الأزرق ودارفور – قد وسبق وتقدم ببعض المطالب بشأن إحلال السلام، من ضمنها عقد اجتماع تحضيري يضم كل قوى المعارضة مع الحكومة في الخارج، لتهيئة الأجواء للحوار في الداخل عبر عدة خطوات، تشمل الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإطلاق الحريات العامة، وتشكيل آلية مستقلة لإدارة الحوار الوطني، وهو ما تحقق بعض منه بصورة ملحوظة ما دفع التحالف للتوقيع على هذه الوثيقة التوافقية الجديدة مع الحكومة السودانية، لاسيما بعد تردد أنباء عن ضغوط دولية وإقليمية تم ممارستها على الخرطوم والوساطة الإفريقية، لتضمين مطالب “نداء السودان” في الخارطة.
عقد اجتماع تحضيري يضم كل قوى المعارضة مع الحكومة في الخارج، لتهيئة الأجواء للحوار في الداخل عبر عدة خطوات، تشمل الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإطلاق الحريات العامة، وتشكيل آلية مستقلة لإدارة الحوار الوطني، أبرز مطالب “نداء السودان” لاستئناف المفاوضات
خارطة الطريق الجديدة والتي تم توقيعها تحت رعاية إثيوبيا والمفوضية الإفريقية تضمنت عدة إجراءات لوقف العدائيات بين الحكومة وفصائل المعارضة، تمهيدًا لوقف دائم لإطلاق النار، والترتيبات الأمنية في منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور، وإيصال المساعدات الإنسانية، والحل السياسي، والحوار الوطني، وقد تم التوقيع بحضور ممثلين عن والإيجاد والاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي ومبادرة المجتمع المدني، إضافة إلى المبعوث الأمريكي للسودان.
ترميم العلاقات الإثيوبية السودانية
نجحت أديس أبابا خلال العقد الأخير في أن تسوق نفسها سياسيًا داخل القارة الإفريقية لا سيما منطقة حوض النيل، وذلك من خلال بعض التحركات الدبلوماسية التي هدفت من خلالها إلى رأب الصدع في العلاقات بينها وبين دول الجوار، وهو ما تمخض مؤخرًا في حضور قوي للدور الإثيوبي في حلحلة الأزمات التي تعاني منها بعض الدول وفي مقدمتها الشقيقة السودان.
الأزمة السودانية بين الحكومة والمعارضة أزاحت الستار عن القدرة الدبلوماسية الناجحة للخارجية الإثيوبية، والتي نجحت في كسب ثقة الطرفين المتنازعين، والوقوف على مسافة واحدة من الجانبين دون حدوث أي فتور أو توتر في العلاقات مع أي منهما، وهو ما يفسر دبلوماسيًا بـ “الثقل المتوازن” وهو ما نجحت فيه أديس أبابا خلال رعايتها للمفاوضات السودانية.
في الوقت الذي تستضيف فيه إثيوبيا اجتماعات فصائل المعارضة، لا تخسر علاقتها مع الحكومة السودانية في الخرطوم، فوفقًا لتصريحات السفير الإثيوبي في الخرطوم، أبادري زمو، فإن حركات دارفور المعارضة تأتي لإثيوبيا بإذن من حكومة السودان، حيث قال: “فبعد أن نتلقى رسالة من حكومة السودان أن هذه الحركات تريد أن تتفاوض معها، نأذن لتلك الحركات بناءً على طلب السودان لغرض المفاوضات، خلافًا لذلك لا يمكن أن نسمح لتلك الحركات التواجد في إثيوبيا ولو لساعة واحدة”، مؤكدًا أنه “لا توجد حركات معارضة للسودان في إثيوبيا، ولو تواجد بعض الأفراد، ربما لتسهيل عملية التفاوض مع السودان”، ما يعني أن أديس أبابا تربطها علاقات طبية مع كل من الحكومة السودانية ومعارضتها.
الأزمة السودانية بين الحكومة والمعارضة أزاحت الستار عن القدرة الدبلوماسية الناجحة للخارجية الإثيوبية، والتي نجحت في كسب ثقة الطرفين المتنازعين، والوقوف على مسافة واحدة من الجانبين
العلاقات الأثيوبية الجيدة مع طرفي النزاع في الأزمة السودانية لا تتوقف عند الحكومة والمعارضة وفقط، بل تعدت إلى جنوب السودان أيضًا، ففي العام الماضي، اجتمع قادة دول شرق إفريقيا في العاصمة الإثيوبية، في محاولة أخيرة لإقناع الأطراف المتنازعة في جنوب السودان بالتوقيع على اتفاق سلام ينهي الحرب الأهلية المستمرة في البلاد منذ 20 شهرًا، مما يعطي انطباعًا للجميع بأن هناك رغبة قوية لدى أديس أبابا في ترميم علاقتها بالسودان، ويبدو أنها استطاعت ضمها إلى طرفها في مواضيع عدة تشكل خلافًا مع مصر، كما حدث في موضوع سد النهضة، حيث تجدر الإشارة إلى أن الموقف السوداني حول سد النهضة تبلور خلال الأشهر الأخيرة، فقد أعلنت السودان رسميًّا في شهر ديسمبر الماضي عن تأييدها لبناء سد النهضة.
ويقول مراقبون بأن إثيوبيا نجحت في ترويض السودان من خلال إقناعها بإمكانية الاستفادة من كهرباء السدود الإثيوبية، وذلك عندما باعت إثيوبيا للسودان 100 ميجاوات من كهرباء سد تكزي بسعر التكلفة الذي يقل عن ربع تكلفة توليد الكهرباء من سد مروي السوداني، ويبدو أن الرؤية اتضحت للسودان حول إمكانية سد عجزها من احتياجها للكهرباء، الذي يصل إلى قرابة 40% من إنتاجها الحالي، من كهرباء إثيوبيا الرخيصة.
اختبار للدبلوماسية الإثيوبية
تعرضت الدبلوماسية الإثيوبية لاختبار صعب في ثاني أيام المفاوضات بين الحكومة السودانية والمعارضة، حيث ساد الارتباك أوساط المتفاوضين وجميع الحضور نتيجة انسحاب وفد الحكومة من الاجتماعات بعد اتهامات متبادلة مع بعض فصائل المعارضة، بما يهدد التواصل لاتفاق بين الجانبين بالفشل، وهو ما تعاملت معه أديس أبابا بحنكة سياسية كبيرة.
الحركة الشعبية إحدى فصائل المعارضة السودانية حمّلت الحكومة ووفدها مسؤولية فشل المفاوضات حتى الآن، حيث أفاد المتحدث باسم الحركة مبارك أردول في بيان له: “الحركة الشعبية تحمل الحكومة السودانية ووفدها هذا السلوك غير المسؤول الذي أدى من قبل حينما قامت الحكومة السودانية بإلغاء اتفاقية 28 يوليو 2011 المعروفة باتفاق (نافع ـ عقار)، إلى نقل الحرب إلى النيل الأزرق وتوسيعها في جنوب كردفان…”، وقد فشل الطرفان المتفاوضان خلال السنوات الماضية من التوقيع على اتفاق إطاري تقوم عليه المحادثات إلا أنهما أجازا ما يقارب الـ 80% منه، واتفقا على أن تنطلق المحادثات استنادًا إلى هذا الاتفاق.
وقال أردول “إن اليوم الثاني للمفاوضات بين الحركة والحكومة، شهد استمرار محاولات تراجع الوفد الحكومي الذي يترأسه الفريق أول عماد عدوي بدلاً عن مساعد الرئيس إبراهيم محمود، عن كل ما تم الاتفاق عليه خلال السنوات الثلاثة الماضية والمضمن في الاتفاق الإطاري، ومحاولات إرجاع التفاوض إلى نقطة الصفر”.
وتابع “إن الفريق عدوي حينما لم يتمكن من تحقيق هدفه، وقابله وفد الحركة بالتمسك بالاتفاق الإطاري المنصوص عليه في خارطة الطريق الموقعة قبل يومين، بأنه المرجعية الرئيسية للتفاوض، قرر إصدار أوامره للوفد الحكومي بالانسحاب، ما تسبب في انهيار المفاوضات”.
المتحدث باسم الوفد الحكومي: نأسف للسلوك غير المسؤول بالتصريح الساعي لنسف المفاوضات
وفي المقابل وصف المتحدث باسم الوفد الحكومي المفاوض السفير حسن حامد، حديث أردول بغير المسؤول، واتهمه بالسعي لنسف المفاوضات، وقال في تصريح له: “إن جولة المفاوضات مستمرة والوفد الحكومي أكثر حرصًا على استمراريتها”، مضيفًا أن المتحدث باسم الحركة الشعبية تحدث زورًا بشأن انسحاب الوفد الحكومي، قائلاً: “خرجنا من داخل قاعة التفاوض لدحض حديثه فقط”، مؤكدًا على استمرار المفاوضات، مردفًا: “نأسف للسلوك غير المسؤول بالتصريح الساعي لنسف المفاوضات”.
وخلال هذه الأزمة نجحت الدبلوماسية الأثيوبية بمساعدة رئيس لجنة الوساطة الإفريقية ثامو مبيكي، في إعادة المفاوضات إلى مسارها الصحيح من خلال إقناع الطرفين بالجلوس على مائدة الحوار، وتنحية الخلافات جانبًا تمهيدًا للوصول إلى نقاط مشتركة يمكن من خلالها الانطلاق نحو اتفاقية شاملة تدفع عجلة السلام بين الجانبين للأمام، وهو ما تحقق بالفعل، حيث عاد الوفد الحكومي لقاعة المفاوضات وتبادل التحية من جديد مع وفد المعارضة وتعهدا على استمرار العديد من الجولات المستقبلية لترجمة الاتفاقية المبرمة وتنفيذها على أرض الواقع برعاية إثيوبية.
أديس أبابا محل القاهرة
منذ محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك في أديس أبابا في 1996م، والعلاقات بين مصر والقارة الإفريقية دخلت نفقًا مظلمًا، سلخ القاهرة تمامًا عن عمقها القاري، وهو ما دفعها للبحث عن عمق آخر، وحلفاء جدد، فتأرجحت بوصلة الخارجية المصرية ما بين أوروبا والخليج.
وبالرغم من المحاولات المستميتة التي بذلتها دول القارة السمراء، لا سيما دول حوض النيل، لاستعادة العلاقات الجيدة مع الشريك المصري، في الخمس سنوات الأخيرة، إلا أنها باءت جميعًا بالفشل، فتحولت القاهرة إلى الخليج، ولم تجد دول حوض النيل أحن من تل أبيب للارتماء في أحضانها لا سيما بعد حزمة المساعدات التي أعلنت عن تقديمها لهذه الدول بما يعوضها عن الانسحاب المصري من المشهد تمامًا، ومن هنا كانت الكارثة.
التفوق الإثيوبي لم يأت من فراغ، كما أنه لم يأت أيضًا بسواعد أثيوبية بحتة، وفي لفتة سريعة عن أبعاد هذا التفوق نجد أن كلمة السر تكمن في “إسرائيل”
الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها مصر في العقد الأخير، دفعتها للبحث عن مصادر تمويل جديدة، وفرص استثمارية متنوعة، دون الاهتمام بأبعاد الأمن القومي إفريقيًا، وهو ما اعتبره البعض خيانة مكتملة الأركان للدبلوماسية المصرية والقائمين عليها، والتي آثرت الحصول على حفنة من أموال الخليج واستثمارات أوروبا على حساب أمنها القومي الجنوبي، خاصة وأن به شريانها المائي الوحيد، والذي بات الآن تحت السيطرة الكاملة لدولة اعتبرتها القاهرة “معادية ” في كثير من خطاباتها السياسية والإعلامية.
وأمام هذا الغياب الفاضح وجدت أديس أبابا نفسها أمام فرصة تاريخية لتحل محل القاهرة في القيام بدور الوساطة والرعاية لكافة الأزمات والأحداث التي تواجهها دول القارة، لا سيما في منطقة حوض النيل، وذلك بعدما نجحت إثيوبيا في ترسيخ أقدامها في بعض المجالات التي من الممكن أن تكون نقطة انطلاق جديدة لتقديم المساعدات لفقراء القارة خاصة في مجال الكهرباء والتنمية البشرية.
التفوق الإثيوبي لم يأت من فراغ، كما أنه لم يأت أيضًا بسواعد أثيوبية بحتة، وفي لفتة سريعة عن أبعاد هذا التفوق نجد أن كلمة السر تكمن في “إسرائيل” تلك الدولة التي سخّرت كل طاقاتها وإمكانياتها لدعم أديس أبابا في شتى المجالات: تمويل بناء سد النهضة، واستثمارات زراعية تتجاوز 100مليار دولار، وتوفير الخبراء في مجالات الزراعة والعلوم، وتدريب الأيدي العاملة الإثيوبية، إضافة إلى إرسال الطلاب الإثيوبيين للتعلم والدراسة في جامعات تل أبيب، فضلاً عن الدعم السياسي الموجه لأديس أبابا بصورة غير مسبوقة، كل هذا ساعد إثيوبيا في أن تحل مكان القاهرة إفريقيا، وهذا هو المطلوب إثباته بالنسبة للكيان الصهيوني، الذي طالما سعى للتقليل من الدور المصري جنوبًا، وسلخ الجلد المصري عن جسده الإفريقي، بما يساعد تل أبيب على خنق القاهرة عبر شريانها المائي الوحيد، ما يضمن لها مواصلة الابتزاز السياسي للقرار المصري وهو ما تحقق بصورة كبيرة في الآونة الأخيرة.
وبعد نجاح الوساطة الإثيوبية في إبرام خارطة الطريق السودانية الجديدة في غيبة تامة عن الدور المصري، والذي اكتفى بدور المشاهد لما يدور في محيطه الجنوبي، هل يمكن القول أن القاهرة قد خرجت تمامًا من المعادلة الإفريقية لتحل أديس أبابا مكانها بثياب دبلوماسية أكثر نشاطًا وحيوية، ومن ثم أكثر تأثيرًا؟ ومتى تعي الدبلوماسية القاهرية أن غيابها عما يدور بمحيط أمنها المائي سيدفع ثمنه مئات الملايين من الأجيال القادمة، وأن الهرولة صوب الخليج والتسول على موائده لم تكن سوى مسكن مؤقت ليستيقظ المصريون بعدها على آلام العطش والجوع وإهدار الكرامة؟