تمضي السنوات وتسلب معها حقوق المواطنين الذي فقدوا موطنهم قبل خروجهم من بطون أمهاتهم بذنب الولاء للأرض المقدسة حيث الظلم والذكريات المسروقة، ففي العراق العظيم كسب النازحون مطالبهم البسيطة بالنسيان المتعمد وسط وعود حكومية لا تحترم الإنسان، فتوفر له الموت السريع وتريحه من آهاته التي يعاني منها منذ منتصف عام 2014، لتبقى محاولات التفتيش عن المنقذ مستمرة إلى أن يشاء الله ظهوره من أشلاء البشر في مدينة الموصل.
بدأ النزوح التاريخي من مدينة الموصل في العاشر من حزيران/ يونيو 2014 بفضل سياسة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي قرر الارتواء من دماء العراقيين مجسدًا إنجازات تخريبية ساهمت في تسقيط العراق بالملفات الطائفية محصلًا ملايين القتلى والجرحى، تاركًا وراءه رقمًا فخريًا تمثل بعجز اقتصادي خانق يقدر بـ (25.000.000.000$) في فترة وجيزة عمرها 8 سنوات.
هذه التراكمات أودت بالمجتمع إلى الانقسام وزرع العوامل المثيرة للنعرات الانتقامية، فضلاً عن تقطيع الثقة بين الشعب ومن يحمهيم من الجيش والشرطة أصحاب السمعة غير الأخلاقية آنذاك، والمتمثلة برغبة “أبو إسراء” الذي سلم مدينة الموصل بغضون ساعتين هدية لتنظيم داعش وفاءً للجمهورية الإيرانية الوصي غير الشرعي للبلاد.
أعلنت وزارة الهجرة والمهجرين وصول عدد النازحين من جميع أنحاء العراق إلى (5.000.000) شخص مع تصدر مدينة الموصل الحصة الأكبر بـ (500.000) نازح، إذ يسيطر تنظيم داعش على أجزاء واسعة من نينوى ثاني أكبر المحافظات العراقية ويتلاطم بشراسة مع الجيش العراقي، ما أدى إلى هروب السكان من هذا الغول الخطير فارين من الموت إلى موتٍ آخر في مخيمات شحيحة وهياكل محطمة أجبرت وزارة الهجرة أن تتجمد حائرة في ظل تخبطات فاسدة ضمن عجز اقتصادي كبير يغزو الميزانية العراقية، وضعف في تسويق القضية الإغاثية مع سوء التنسيق الميداني وتلف ونقص في المواد دونما حسيب ورقيب.
بعد مرور 5 شهور منذ انطلاق عمليات استعادة مدينة الموصل تستمر التحركات العسكرية وبدءًا من منطقتي “الشرقاط والقيارة” نحو مخيم “ديبكة” على خلفية اشتداد المعارك التحريرية بين قوات الجيش العراقي المسنود بطائرات التحالف الدولي ومسلحي تنظيم داعش، فقد نزح (30.000) إنسان من مناطقهم الأصلية متوجهين نحو المجهول بخطوات طويلة بلغت (8 كيلومترات) مشيًا على الأقدام تحت أشعة الشمس الحارقة فمات على إثر الجوع والعطش عدد غير معلوم من الأطفال والشيوخ مع مقتل 82 فردًا جراء القصف الجوي، وصولًا إلى المنفى حيث الخيام التي سجنت كل 20 نازحًا في خيمة واحدة لا تكفي لاستنشاق الهواء، وتحرم الحكومة النازحين من الخروج للعمل بغرض إطعام أسرهم مع سيادة مشاكل نفسية طويلة الأمد.
هل المنظمات الدولية مستعدة لاحتواء السيل الإغاثي الجارف من الموصل؟
سؤال جوهري بث احتمالات قلقة حول المستقبل الغامض للعوائل الساكنة في المدينة في ظل عمليات التحرير المكثفة، والتي سيكون لها تبعات ثقيلة على المجتمع الموصلي، فالتحركات العكسرية لتطهير المدينة ستواجه كيانًا منظمًا لا يراهن على الخسارة بل على الموت في سبيل الخلود، ما يخلق توقعات مخيفة بهروب أكثر من (1.000.000) نحو الأراضي الشمالية حسب ما توقعه الصليب الأحمر، مع إمكانية تصاعد الأعداد البشرية “والحبل على الجرار”.
يراقب العالم أزمة الموصل بكثب محاولًا تخدير العراقيين بأيام مؤلمة لتعلن الأمم المتحدة استعدادها لأكبر مشروع إغاثي في الشهور المستقبلية ما يثبت تصريح “روبرت مارديني” منسق الصليب الأحمر الدولي في الشرق الأوسط والأدنى بضرورة ضخ أموال قد تصل إلى (140.000.000 $).
لكن المشهد أعمق من المشاريع الإنسانية الخجولة بسبب انقطاع الأخبار بشكل تام عن البشر المتواجدين في الموصل، بالتالي تشكيل خطر أكبر في قلوب الموصلين المحاصرين الذين من المحتمل أن يتدفقوا بأرقام أعظم بكثير من التقديرات الأولية، فضلاً عن الأموال المسخرة آنفًا لمواجهة الكارثة الإنسانية فهي متواضعة جدًا ولن يكون بمقدورها تحمل الأعداد الهائلة التي ستفر من الاشتباكات، علمًا أن هذه الأموال ما زالت حتى هذه اللحظة كلمات شفوية لم تقرر أو تجمع، ما يضعف فرصة التكهن بالحالة الموصلية بعد عمليات استعادة المدينة من قبضة مسلحي داعش.
ما مخاوف الأهالي المتواجدة في الداخل الموصل؟
تكمن التهديدات بإعادة تكرار السيناريو السابق الذي حصل في الفلوجة أثناء دخول القوات العسكرية المدينة لتحريرها، ما أدى إلى فرار الآلاف من بين طلقات أسلحة داعش، فساروا خائفين في طرق مليئة بالرصاص المتطاير من جميع الجهات، وهذا ما يضرب آمال البشر في الموصل في حال اقتحمت القوات الأمنية المدينة، فتنظيم داعش سيقف بالمرصاد أمام كل من يحاول النجاة، إذ ربما سيستغلهم التنظيم ليجعلهم دروعًا بشرية يضحي بهم إذا حمي وطيس التصادم القتالي، فضلًا عن استمرار القصف الجوي للتحالف الدولي من السماء محطمًا بدوره المنازل والطرق الرئيسية مكبدًا خسائر في الأرواح بشكل عشوائي، ما يزيد تعقيد
الأزمة الموصلية الإنسانية: فكيف ستكون خطوات الإنقاذ؟
في الجانب الآخر وحسب الدراسات الميدانية الاستكشافية لم يتم تهيئة المخيمات والمساحات المخصصة لاستقبال الكتل البشرية حتى هذه اللحظة، وهذا ما تم تصريحه لكنه لم ينفذ على أرض الواقع، ما يضعف مراحل الاستعدادات مهددًا المشاريع الإغاثية، انتقالًا إلى كمية المواد الأولية التي ستقدم للنازحين فهي غالبًا ما تبدأ للمرة الأولى لتثبت لوسائل الإعلام أن القضية مسيطر عليها، لكنها في حقيقة الأمر تضلل الإمدادات المعيشية وتحرم النازحين من حقوقهم، وهذا بدوره ينتج جراحًا جديدة تنهش في أعماق المستضعفين، ويبقى المواطن الموصلي أسيرًا في دوامة الألم.
لا ينفك القدر المأساوي باستمرار سيناريو النزوح الجبري من أطراف مدينة الموصل زاجرًا مستقبل الشباب والأطفال في دوامة الجهل بين جبهتين جوية وبرية ستساهم بضياع جيل مرقع بالعنف الاجتماعي، مولدًا شعلة من الاقتتال الطائفي بين مكونات الشعب الموصلي بعد التحرير، والذي سيمتد ليشل الحياة بأكملها بين محاصرٍ ينقرض قصفًا في الداخل ونازحٍ يتضور جوعًا في الخارج، وتبقى الحدباء بين نارين كنموذج الضحية الكبرى في الصراع السياسي القائم بين السياسين العراقيين وأجندتهم الدولية.