جاء خطاب عبدالفتاح السيسي خلال افتتاحه مجمعًا للبتروكيماويات بالإسكندرية ليثير الكثير من التساؤلات حول مستقبل الاقتصاد المصري في ظل التحديات التي استعرضها، والتي تصب معظمها في تبرئته ونظامه مما وصل إليه حال المواطن المصري من تدني في كافة المستويات.
السيسي حمّل حروب الجيش في 1956-1967-1973، وثورة يناير2011، وتفشي الفساد، وانتشار الإرهاب، تبعات التراجع الاقتصادي الذي تحياه مصر حاليًا، دون الحديث عن استراتيجية للنهوض به من هذه الكبوة غير المسبوقة في التاريخ المصري، وما بين القلق والترقب يقف الملايين من المصريين في انتظار ما يمكن أن يؤل إليه الوضع مستقبلاً في ظل فقدان الثقة فيما تتبناه الحكومة من رؤى وخطط وآليات تنفيذ.
الإرهاب
تصدر “الإرهاب” قائمة التحديات التي واجهت الاقتصاد المصري في الآونة الأخيرة، وأحد أبرز الوسائل المستخدمة لضرب وإضعاف الدولة المصرية حسبما أشار السيسي في خطابه، وبالرغم من عدم تحديد الرئيس المصري لمفهوم كلمة “الإرهاب” وما أسباب انتشاره بهذه الصورة، إلا أنه كشف عن أن خطر الإرهاب لم يداهم مصر منذ عامين فقط، بل منذ عقود طويلة.
السيسي حمّل الإرهاب أيضًا مسؤولة تراجع السياحة الخارجية في مصر، ملفتًا أنه كلما تعافى قطاع السياحة وبدأ على الطريق الصحيح، إذ به يتعرض لضربة قاسية تفقده توازنه وتعيده للخلف مرة أخرى، وهو ما أثر بصورة كبيرة على المنظومة الاقتصادية في مصر.
حديث الرئيس المصري عن الإرهاب قد يكون منطقيًا من حيث الشكل، إلا أن المضمون يحتاج إلى مزيد من التفصيل، إذ إن السؤال الذي يجب أن يطرح نفسه حيال هذه المسألة هو: من المسؤول عن تنامي ظاهرة الإرهاب في مصر خلال السنوات الماضية؟ لا سيما مع وجود 45 ألف معتقل رأي داخل السجون، ومقتل العشرات جراء التعذيب وسوء الرعاية الصحية، فضلاً عن القيود والتضييق على من هم خارج السجون، وفي إطلالة سريعة على سير الأحداث نجد أن جزءًا كبيرًا من العمليات الإرهابية يأتي في المقام الأول في صورة عمليات فردية انتقامية جراء تعرض أصحابها أو أحد ذويهم للتنكيل والقتل والتشريد لا سيما في منطقة سيناء، علمًا بأن هذا لا يعفي من تورط الجماعات التكفيرية الإرهابية هناك أيضًا.
حديث الرئيس المصري عن الإرهاب قد يكون منطقيًا من حيث الشكل، إلا أن المضمون يحتاج إلى مزيد من التفصيل
كما أن دعم السلطة في مصر لنظام خليفه حفتر بليبيا ساهم بشكل كبير في عبور بعض العناصر الإرهابية المنتمية لتنظيم داعش إلى سيناء للقيام ببعض العمليات الانتقامية ردًا على الدعم العسكري واللوجستي الذي تقدمه لمصر للجنرال الليبي المتقاعد، لا سيما بعد العملية التي قام بها الطيران المصري ضد بعض المواقع العسكرية في ليبيا ردًا على مقتل المصريين الأقباط هناك على أيدي أعضاء التنظيم الإرهابي.
أضف إلى ذلك المؤامرات الخارجية والتي تسعى إلى إضعاف الدولة المصرية وإنهاك قدراتها العسكرية، دون اعتبار للنظام الحاكم، وهو ما تمخض عن العديد من العمليات الإرهابية القاسية ضد جنود القوات المسلحة المصرية في ظل انشغال أعداد كبيرة منها بتأمين العاصمة، والانتشار في شوارع وميادين القاهرة، مما جعل من منطقة سيناء وجوارها قصعة مستباحة للمتطرفين والإرهابيين.
تهجير أهالي سيناء وتفجير منازلهم في إطار خطة مكافحة الإرهاب
الفساد
لا ينكر أحد أن الفساد هو أم الخبائث، وأنه معول الهدم الأول لأي حضارة في الكون كله، إلا أن العقل والمنطق يقولان إن ترك المفسدين دون حساب ومناهضة كل من ينادي بمحاربة الفساد هو في حد ذاته فساد آخر.
السيسي أكد في كلمته على أن الدولة المصرية جادة جدًا في محاربة الفساد ومعاقبة المفسدين، وهو ما يتناقض كلية وتفصيلاً مع الواقع المعيش، ففي قاهرة المعز يحكم على المستشار هشام جنينه الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات “أكبر جهة رقابية مصرية” بالحبس والغرامة فقط لأنه كشف عن أن حجم الفساد في مصر تجاوز الـ 600 مليار جنيه
في أرض الكنانة أيضًا ما يزيد عن 53% من المصريين مضطرون لدفع الرشاوى لإنهاء مصالحهم داخل المؤسسات الحكومية
وبالرغم من التبرير بالمبالغة في حجم الأرقام التي أعلن عنها جنينه إلا أن أحدًا لم يتحرك للتحقيق في الأرقام الفعلية للفساد، وفي أرض المحروسة أيضًا يتم التصالح مع كبار لصوص الدولة من رموز مبارك الهاربين مقابل تسديد جزءًا من أموالهم المنهوبة من جيوب الشعب للحكومة، دون أي مساءلة لما ارتكبوه في السابق من جرائم وإفساد متعمد.
وبها أيضًا ما يزيد عن 53% من المصريين مضطرين لدفع الرشاوى لإنهاء مصالحهم داخل المؤسسات الحكومية، حسبما أشار تقرير منظمة الشفافية الدولية والصادر هذا العام، وليس ما يحدث في قضية صوامع القمح ببعيد، فبالرغم من تأكيد لجنة تقصي الحقائق التابعة لمجلس النواب المصري على فساد وزير التموين المدلل، خالد حنفي، إلا أن أحدًا لم يجرؤ أن يقترب من الرجل، المقرب من السيسي، أو أن يقدم له أي تهمة بالفساد.
العديد من التساؤلات تفرض نفسها حول تقاعس الدولة عن محاسبة المفسدين، وهو ما كشف عنه خالد عبد العزيز فهمى، عضو مجلس النواب المصري عن حزب المصريين الحرار وعضو لجنة تقصى حقائق الإسكان، حين أكد أن وفد اللجنة الذى يتواجد فى “مارينا” بالساحل الشمالى هذه الأيام، وجد حجم فساد يصدم الجميع، وصل فى مكان واحد إلى ما يقرب من 12 مليار جنيه، إضافة إلى ما أشار إليه الدكتور ياسر عمر وكيل لجنة تقصي الحقائق في فساد القمح، من تجاوز الفساد داخل الصوامع قيمة 47 مليار جنيه، ومع ذلك لم يتحرك أحد.
47 مليار جنيه قيمة الفساد في صوامع القمح
الحروب
“الاقتصاد المصري تم استنزافه في حرب 1956، وحرب اليمن، وحرب67، وحرب الاستنزاف، وحرب 73..”، بهذه الجملة استهل السيسي حديثه عن مبررات وصول الاقتصاد المصري إلى هذه الحالة المتدنية، مؤكدًا أن هذه الحروب التي خاضتها مصر منذ 1952، كانت سببًا رئيسيًا في تحويل اقتصاديات الدولة إلى الجهود الحربية، وهو ما أدى إلى إنهاك منظومة الاقتصاد بصورة تدفع مصر ثمنها حتى الآن.
وفي قراءة سريعة لهذه التصريحات نجد أن آخر الحروب التي خاضتها مصر كانت منذ 43 عامًا تقريبًا، وهي مدة ليست بالقصيرة لتعافي اقتصاد الدولة لو كان لديه نية ومقومات التعافي، وإلا يبقى السؤال قائمًا: كيف تقدمت اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية؟ وكيف وصلتا إلى مصاف الدول المتقدمة اقتصاديًا علمًا بأنهما خرجتا من الحرب العالمية مدمرتين تمامًا، لا بنية تحتية، ولا مقومات اقتصادية، ولا أي شيء، ومع ذلك نجحتا بفضل التخطيط الجيد والإدارة السياسية الواعية في تخطي هذه الكبوة والوصول إلى ما وصلت إليه.
كما أن هناك سؤال آخر يطل برأسه يفرض نفسه بقوة: إذا كانت الحروب هي سبب ما وصل إليه الاقتصاد في وضعه الراهن، فلما لم يتأثر بهذه الصورة غير المسبوقة من قبل، أيام مبارك وما بعد الثورة بقليل، لاسيما لو عقدنا المقارنة بين واقع الاقتصاد الآن وبين حاله في السابق، كما سيتم التطرق إليه في موضع آخر؟
حرب اليمن وتوريط عبدالناصر للجيش المصري إرضاءً لطموحاته السياسية
الديون
أفرد الرئيس المصري جزءًا من حديثه عن زيادة رواتب الموظفين، بوصفها أحد أبرز أسباب زيادة الدين العام، حيث قال: “لما أزود المرتبات في الدولة بحوالي 150 مليار جنيه في السنة دون أن يكون هناك زيادة في الموارد، مصر أسرة كبيرة وأي أسرة تقوم بالصرف فإذا كانت الموارد توازي المصروفات فلا توجد مشكلة ولكن إذا كانت المصروفات أكثر من الموارد ستقوم الأسرة بالسلف وكلما زاد السلف تزيد الديون”، ثم تابع: “أنه في خلال الأربع سنوات الماضية فقط أدت زيادة المرتبات نتيجة الضغط في عامي 2011 و 2012 إلى وجود بروز في الدين الداخلي يقدر حوالي بـ 600 مليار جنيه والدين الداخلي تعاظم من 800 مليار جنيه إلى 2.3 ترليون جنيه أي 97% من الناتج المحلي”.
السيسي في حديثه لم يحدد مرتبات أي الفئات التي أدت الزيادة بها إلى رفع الدين العام المصري، لكن وبقراءة سريعة لجدول المرتبات يلاحظ أنه وبعد اندلاع ثورة 25 يناير 2011 في مصر، تكررت زيادات رواتب أفراد الجيش والشرطة، بشكل لافت، بمتوسط زيادة مرتين كل عام تقريبًا، مقارنة ببقاء رواتب المدنيين أسيرة العلاوة السنوية التي لا تتجاوز الـ10% علما بأن هذه الزيادة السنوية العادية لم تٌقر في بعض السنوات.
وفي رصد لخريطة مرتبات الجيش والشرطة خلال الخمسة أعوام الماضية، مُنذ اندلاع أحداث الثورة وحتى الآن، نجد أنه قد تم زيادتها 13 مرة، خمس منها للشرطة، وثماني للجيش.
أما زيادات الشرطة، اثنتين في عهد المجلس العسكري، واثنتين أخرتين في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي، وواحدة في عهد الرئيس المؤقت عدلي منصور، بينما زيادات الجيش فجميعها جاء عقب بيان القوات المسلحة في الثالث من يوليو 2013، بينها زيادتان أصدرتا في عهد الرئيس المُؤقت عدلي منصور، إحداهما أصدرها عبد الفتاح السيسي عندما كان وزيرًا للدفاع في نفس الفترة، وبذلك يبلغ حجم الزيادات التي أصدرها السيسي للقوات المسلحة، سبع زيادات، إضافة إلى موافقة البرلمان الحالي على كافة القوانين المُرتبطة بالزيادة المادية للجيش التي عُرضت عليه.
الدين الخارجي فتجاوز 53.4مليار دولار هذا العام، مقارنة بـ33.7مليار في 2011 و38.8 مليار دولار في 2012
السيسي أشار أيضًا في حديثه إلى حث الدكتور هشام قنديل رئيس الوزراء الأسبق على ضرورة مصارحة الشعب بالواقع الاقتصادي الصعب، ملفتًا أنه قد تحدث معه أكثر من مرة في ضرورة اتخاذ بعض الإجراءات الاقتصادية الصعبة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وبقراءة سريعة للواقع الاقتصادي والحالة المعيشية للمواطن قبيل الثورة مباشرة وما بعدها وصولاً إلى هذه المرحلة، نجد أن تلك المرحلة التي نعيشها الآن هي الأسوأ في تاريخنا المعاصر، حيث وصل الفقر إلى 26.3% مقارنة بـ 19% إبان الثورة، كما وصلت البطالة إلى 13.1% حسب إحصاء جهاز التعبئة العامة والإحصاء، إضافة إلى تراجع الاحتياطي النقدي الأجنبي إلى 15 مليار دولار هذا العام مقارنة بـ 36 مليار دولار في 2011.
أما الدين الخارجي فتجاوز 53.4 مليار دولار هذا العام، مقارنة بـ33.7 مليار في 2011 و38.8 مليار دولار في 2012، بينما ارتفع حجم الدين العام المحلي إلى 2.49 تريليون جنيه بنهاية مارس الماضي مقارنة بتريليون جنيه في 2011.
ارتفاع معدلات التضخم في مصر بصورة غير مسبوقة
ثورة 25 يناير
ليست المرة الأولى التي يحمل فيها مسؤول مصري ثورة 25 يناير 2011 مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع المعيشية في مصر، فبعد الاتهامات المتشعبة التي وجهها الإعلام للثورة وأنها “الخراب” الأكبر، وصولاً إلى وصفها بـ “النكسة” باتت هي “الشماعة” الجاهزة لتعليق فشل الجميع عليها.
السيسي في هذه المرة اتهم ثورة يناير بأنها السبب في توقف بعض الاكتشافات البترولية، وإضافة المزيد من الأعباء على الدولة جراء سيل التعيينات في القطاع الحكومي، مشيرًا أنه تم تعيين 900 ألف شخص دون الحاجة إليهم نتيجة للضغط، بالإضافة إلى تخصيص مرتبات لهم في موازنة الدولة مما سيؤثر على الميزانية العامة للدولة.
الثورة قامت بما عليها حين كشفت للرأي العام حجم المفسدين والفاسدين، لكن من تقاعس أو تآمر على الثورة فهو أوجب بالحساب والمحاكمة.
الواقع أن الثورة لم تكن السبب، بل هي من أسقطت الوجوه المزيفة التي كانت تدير الدولة من خلف الستائر، بل وكشفت عن الفساد الذي ما ترك شاردة ولا واردة إلا وكان له فيها ومنها نصيب، لذا من غير المنطق أن تُحمل الثورة بما هي منه براء، بل إن إدارة مرحلة ما بعد الثورة هي الكارثة الحقيقية التي يجب أن تُسأل وتحاكم، بدءًا من المجلس العسكري الذي فشل في إدارة الأزمة مرورًا بمواءمات مرسي وجماعته، وصولاً إلى مرحلة ما بعد 3 يوليو 2013.
الثورة قامت بما عليها حين كشفت للرأي العام حجم المفسدين والفاسدين، حين طالبت بتقديمهم للعدالة والمحاكمة، حين نادت بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة، حين أرست قواعد الحكم المدني، لكن من تقاعس أو تآمر على الثورة فهو أوجب بالحساب والمحاكمة.
ثورة 25 يناير.. أطهر الثورات وأنقاها في تاريخ مصر حسب شهادة زعماء العالم
ترشيد الدعم
العديد من المحللين تابعوا خطاب السيسي بشيء من القلق، لاسيما فيما يتعلق بقضية ترشيد الدعم، فالمواطن لم يعد بإمكانه تحمل المزيد من التقشف، في الوقت الذي يزداد فيه أغنياء الوطن غنى يزداد الفقراء جوعًا وحرمانًا.
تحدث السيسي عن زيادة فاتورة الكهرباء، وأن الدعم يجب أن يذهب لمستحقيه، دون أن يتناول آلية تحديد “مستحقيه”، وهو ما يعيد للأذهان الوعود السابقة التي قطعها الرئيس على نفسه حين أكد أنه لا زيادة في أسعار السلع ولا زيادة في فواتير الكهرباء والمياه والغاز، ومع ذلك أسعار السلع تضاعفت وها هي فواتير الكهرباء والغاز تزيد للمرة الثالثة خلال أقل من عام.
إجراءات الرئيس التقشفية أو ما يسميها بـ “الإصلاحية” لم تكن وليدة اللحظة، بل كانت على قائمة أولويات فكره وتوجهاته منذ ما قبل الثورة، وهو ما كشف عنه في حديثه الذي أشار فيه إلى أنه نجح في اتخاذ هذه الحزمة من الإجراءات في الوقت الذي لم تجرؤ أي حكومة سابقة منذ عام 1977 على اتخاذه..لكن يبقى السؤال: هل حققت تلك الخطوات القاسية على الشعب الهدف منها؟ ومتى يجني المواطن حصادها لاسيما بعد زيادة جرعات المر التي يتعرض لها ما بين إجراء وآخر؟
خطاب السيسي وإن كان يحمل بعض الأمل لدى المتفائلين من خلال المشروعات التي لا تزال في إطار “الوعود” حتى الآن، لا سيما المتعلقة بالتكافل الاجتماعي ومشروعات الطرق والبنية التحتية، وزيادة معدلات إنتاج القمح، إلا أن التحديات التي استعرضها ورؤيته لها تحمل الكثير من القلق، لا سيما في ظل غياب خطة أو استراتيجية قادرة على انتشال الاقتصاد المصري من واقعه المعيش، فضلاً عن اعتماده على القروض الداخلية والإقليمية والدولية بما يحمل صورة قاتمة لمستقبل الشعب المصري، فكيف يمكن مواجهة الفساد؟ وما آليات النهوض بمنظومة الإنتاج المحلي؟ وما ملامح خطة الحكومة لاستيعاب الملايين من العاطلين في ظل تجمد حركة المشروعات القادرة على استيعاب هذه الطاقة المهدرة؟ ومتى يتوقف النظام عن إجراءاته التقشفية ضد المواطن؟ أسئلة تداعب جميع المصريين، لكن الإجابة عنها فقط في خلد السيسي ورفاقه.