بعد فشل وإخفاق الجانب الإسرائيلي في تحقيق أهدافه الكبيرة بقطاع غزة، رغم الحصار الأمني المشدد الذي يفرضه على سكانه للعالم العاشر على التوالي، إلا أنه في الغرف المغلقة يبحث عن أهداف أخرى تكون أكثر تأثيرًا بالفلسطينيين وتصيبهم في مقتل سريع وفعال.
فبعد مخطط إغلاق المعابر الحدودية ومنع إدخال المساعدات والمواد التموينية لغزة، وتدمير الأنفاق التي كانت شريان حياة لما يقارب الـ2 مليون محاصر، وجعل القطاع كسجن كبير، وجد الاحتلال ضالته وأصبحت “المؤسسات الدولية” التي تعمل في القطاع الهدف الجديد له للقضاء عليها وتشويه صورتها أمام العالم.
الاحتلال يريد من تلك الحملة الشرسة إخضاع كل المؤسسات الدولية لسيطرته ومراقبة كل خطواتها التي تدعم فيها الفلسطينيين بالمال والمواد الغذائية، فبدأ حربه بتشويه صورتها تارة ووسمها بـ “الإرهاب”، وتارة أخرى باعتقال عدد من موظفيها ووضعهم داخل السجون.
حرب إسرائيلية من نوع آخر
وشنت سلطات الاحتلال الإسرائيلية حملة غير مسبوقة لمحاربة المؤسسات الدولية والانسانية العاملة في قطاع غزة، في ظل مساعيها الهادفة إلى وقف عمل هذه المؤسسات أو استمرارها وفقًا لشروط الاحتلال.
ولم يكن اعتقال محمد الحلبي مدير منظمة “الرؤيا العالمية” واتهام المؤسسة الدولية بدعم أنشطة إرهابية، حسب ترويج الاحتلال، غريبًا، فهو ضمن سياق استهداف المنظمات الدولية العاملة في فلسطين، وهو أحد المخططات الأساسية للاحتلال.
وتعتبر الجريمة الكبرى لهذه المنظمات بنظر سلطات الاحتلال، أنها تعزز صمود الناس وهذا يتناقض مع مخططات “التهجير والتضييق والتركيع”، لذلك يأخذ التضييق أشكالاً مختلفة، ولأن سلطات الاحتلال لا تستطيع ظاهريًا منع العمل الإنساني فتلجأ لذلك بطرق أخرى.
وكان جهاز الاستخبارات الإسرائيلي الخارجي “الموساد” شكل عقب حادثة سفينة مرمرة عام 2011 وضمن ما أسماه استخلاص العبر، جهازًا أمنيًا خاصًا متخصصًا في متابعة عمل المنظمات الدولية ولجان ومؤسسات التضامن مع الشعب الفلسطيني عبر العالم، بعدما استشعر ما رآه خطرًا نتيجة دور هذه المؤسسات.
قوات الاحتلال اعتقلت خلال الفترة الماضية اثنين من العاملين في المؤسسات الدولية في غزة، وهم محمد الحلبي مدير منظمة الرؤية العالمية في غزة، ووحيد البرش الموظف في مؤسسة الأمم المتحدة (UNDP)، ويتهم الاحتلال الحلبي والبرش بدعم حركة “حماس” وذراعها العسكري في قطاع غزة بالتمويل، وتقديم مبالغ كبيرة لها.
استهداف مباشر للفلسطينيين
ويشير المتابعون لعمل المنظمات الدولية في فلسطين، إلى أن عمل المنظمات الدولية أصبح بعد هذه الخطوة ضمن أعلى مستويات المتابعة الأمنية، ويرى مراقبون أن استهداف إسرائيل للعاملين في المؤسسات الدولية في قطاع غزة يهدف إلى إرباك ساحة العمل الإنساني المقدم من قبل هذه المؤسسات التي تقدم المساعدات لآلاف المواطنين الذين يعانون من أوضاع إنسانية صعبة نتيجة استمرار الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع منذ عشر سنوات.
سمير زقوت، مسؤول دائرة البحث الميداني في مركز الميزان لحقوق الإنسان، قال إن: “الاحتلال يعمل على تضخيم غير مسبوق وغير مفهوم لحملة الدعاية التي تقودها ضد المؤسسات الدولية والمحلية في قطاع غزة”.
وأوضح زقوت، أن الاحتلال يهدف من خلال ملاحقة هذه المؤسسات إلى ممارسة ضغط كبير على المؤسسات وعلى الدول الممولة لها، من أجل وقف عملها أو جعلها خاضعة للسياسة الإسرائيلية، مشيرًا إلى أن الاحتلال يشعر أن هذه المؤسسات تتسبب في مشكلات كبيرة، خاصة فيما يختص بملاحقة الانتهاكات الإسرائيلية دوليًا، لذلك تعمل على تشويه هذه المؤسسات للحد من ضررها ووقفها عن العمل.
حركة حماس من جانبها، نفت اتهامات الاحتلال الإسرائيلي حول تسريبات مالية من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) لصالح الحركة.
وأكد سامي أبو زهري الناطق الاعلامي باسم الحركة، أن الاتهامات الإسرائيلية ما هي إلا ادعاءات باطلة ولا أساس لها من الصحة، وتأتي في سياق مخطط إسرائيلي لتشديد الخنق والحصار على قطاع غزة عبر ملاحقة المؤسسات الإغاثية الدولية العاملة في القطاع والتضييق عليها.
أبو زهري حذر الاحتلال الإسرائيلي من الاستمرار في هذه السياسة، ودعا المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته في مواجهة هذه الممارسات الإسرائيلية التي سيكون لها عواقب خطيرة في حال استمرارها.
إحكام حصار غزة
هنا يقول عادل سمارة الخبير في الاقتصاد السياسي، إن “كافة المؤسسات الدولية لا تأتي للعمل في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة، إلا بإذن إسرائيل، وبالتالي هم يقبلون على أنفسهم العمل تحت مظلة الكيان الصهيوني”.
وأضاف أن هذه المؤسسات “تسير وفق الأجندة التي يفرضها الاحتلال عليها، وهي تمنحه فرصة التدخل في شؤونها، وتقرير مصير عملها في الأراضي الفلسطينية المحتلة”.
علاوة على ذلك أوضح سمارة أن هجمة الاحتلال على تلك المؤسسات “رغم أنها تعمل تحت مظلته، تأتي من باب أن إسرائيل تقصد إبادتنا كشعب فلسطيني، وعليه فإن أي طرف يقدم لنا خدمة، حتى ولو كانت تجميلية، يجب أن يضرب”، مؤكدًا أن “ما يدفع الاحتلال لمثل هذه الأساليب الإرهابية والعنصرية، هو تراخي الأمم المتحدة، والمرونة التي تقدمها لصالح إسرائيل”.
الخبير في الاقتصاد السياسي، تابع بالقول: “في هذا الوضع الدولي والعربي المتردي، يعمل الاحتلال على قطع الأكسجين عن قطاع غزة المحاصر، الذي يحاول حماية نفسه من إرهاب وعدوان دولة الاحتلال”.
وحول الدور التنموي الذي تقوم به المؤسسات الدولية العاملة في الأراضي الفلسطينية، أكد سمارة أنها لا تقوم بعمل تنموي بالمفهوم الحقيقي، “فالتنمية تحتاج لسيادة وطنية وحكومة ذات دور فاعل ووطني”، واصفًا أعمال هذه المؤسسات بـ “التجميلية”.
وقال سمارة الذي عمل في مؤسسة “UNDP” لمدة ثلاث سنوات، وكان يشغل فيها مسؤول قسم دراسات الجدوى بمدينة القدس المحتلة: “لم نتمكن من إقامة أي مشروع حقيقي لصالح الفلسطينيين، وإن أي مشروع نفكر في تنفيذه، يجب أن ينال موافقة الجانب الإسرائيلي”.
المختص بالشأن الإسرائيلي عمر جعارة، أشار إلى أن “مندوب إسرائيل الدائم لدى الأمم المتحدة، داني دانون، أكد أن المؤسسات الدولية تعادي إسرائيل”، لافتًا أيضًا إلى أن “رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، وصف في خطابه الأخير في هيئة الأمم المتحدة، هذه الأخيرة بأنها معادية لإسرائيل”.
وقال إن “إسرائيل الآن تزعم أنها حصلت على أدلة لما صرح به نتنياهو ودانون، بعد اعتقال الحلبي والبرش”، موضحًا أنها “تريد أن تثبت أن العالم كله يعمل ضدها”، مضيفًا الاحتلال يعمل عبر تلك السياسة على “إحكام الحصار على القطاع بشكل أكبر، وعدم السماح بسير الحياة في غزة بشكل طبيعي”.