ما أكثر فتحات المجاري التي نراها ونشمئز منها كل يوم، إلا تلك “الفتحة”، لم تكن عندي كأيّ “فتحة”، بل إن فرحتي بها يوم رأيتها، لم تكن طبيعية بالمرة، ومن لا يعرف تل أبيب لا يمكن أن يفهم هكذا فرحة، فرحة أن ترى اسم فلسطين في تل أبيب اليوم، حتى ولو على فتحة مجاري بالية مهترئة عمرها حوالي 100 عام تغطي فتحة مجاري أمام مسجد حسن بك في حي المنشية الذي دمر جلّه في نكبة عام 1948 ولم يبق منه إلا المسجد و”الفتحة” ونصف منزل.
لأن فرحتي لم تكن طبيعية، لطالما سألت نفسي؟ لماذا نفرح كل هذه الفرحة بهكذا “فتحة” أو “غطاء”؟ أحيانًا، تعود بي الذاكرة إلى يوم من أيام طفولتي سمعت فيه عن هذه الفتحات التي تحمل اسم “فلسطين” حتى اليوم وبدأت أحلم بيوم أعثر على واحدة منها، فلم يكن من السهل على طفل يتعلم في مدرسته كل يوم أن “أورشليم” عاصمة “إسرائيل” وأن إسرائيل هي بلاده، أن يصدّق ويدرك معنى أن هذه البلاد كانت يومًا ما تسمى فلسطين!
للأسف، لم أعثر على فتحة كهذه، إلا قبل خمس سنوات تقريبًا، كنت يومها خارجًا من مسجد حسن بك الواقع بين مجموعة من فنادق تل أبيب عند الشاطئ، وتذكرت الفتحة، وبعشوائية رحت أبحث وعثرت عليها فعلاً تقع في الجهة الغربية عند المدخل الرئيسي للمسجد في موقف السيارات، فَرحت جدًا يومها وكأنني عثرت على كنز، لقد كانت تلك أول مرة أرى فيها تحفة أثريّة مكتوب عليها اسم فلسطين فصوّرتها صورًا كثيرة كما لم أفعل مع أي فتحة مجاري من قبل، ولا أظنني سأفعل لاحقًا.
الأهم من كل ذلك، أن تلك الفتحة كانت فاتحة خير، وصرت اتقمّص دور المرشد السياحي كلما زرت يافا مع صديق أو قريب إلى يافا واصطحبه لرؤية تلك الفتحة كي يرى اسم فلسطين بأم عينه وصارت عندي مَعلمًا لا بد منه لكل زائرٍ ليافا، لم أكتف طبعًا، بدأت أبحث بكل شغف وهوس عن فلسطين في تل أبيب وكانت النتائج مذهلة، فتل أبيب التي لم نكن نعرف عن تاريخها إلا اسم “تل الربيع”، فيها من الآثار الفلسطينيّة الكثير كمثل “بيت المختار” في الشيخ مونس عند جامعة تل أبيب وبقايا الطواحين في قرية جريشة عند بارك “يهوشاع” ومقبرة عبدالنبي عند فندق هيلتون على الشاطئ!
ذات يوم عدت إلى تلك الفتحة، ففوجئت بأنها اختفت، وشعرت بغصّة شديدة، خاصّة أنني كنت قد اكتشفت أن تلك الفتحة كانت تحمل وجهًا من وجوه “النهضة” التي كانت تعيشها فلسطين في تلك الأيام والتي يرويها المخرج الفلسطيني رامز قزموز في وثائقي “اغتيال المدينة” بشكل مبهر، فقد كانت تحمل اسم “شركة السكب الفلسطينية” التي تأسست عام 1931 والتي كانت تصنع أجزاء الموتورات والماكينات والطواحين والأدوات الميكانيكية الممتازة دقيقة الصنع، كما جاء في إعلان قديم للشركة، كما أن الشركة كانت توظّف 90 عاملاً فنّيًا عربيًا يعملون تحت إشراف موسى عبدالنبي خريج جامعة لويزيانا في الولايات المتحدة الأمريكية.
في آخر زيارة لي لفلسطين سمعت عن متجر لم أسمع به من قبل في يافا، ويسمى “فلسطينا- أ.ي” ويقع في سوق الخردة في يافا، وبالطبع لم أستطع أن أضيع فرصة زيارة هكذا متجر، لمجرد حمله اسم فلسطين، وبالفعل كان يستحق الزيارة، مع أنه لا يهدف إلى تعزيز هوية المكان الفلسطينية ولكنه متجر بهدف ربحي وليس متحفًا كما تقول لافتة معلقة في المحل، فالتاجر إسرائيلي وقرر أن يتميّز عن جيرانه في سوق الخردة الواسع ببيع السلع التي يعود تاريخها إلى عام 1948 وما قبله، والمكان مكتظ بالتحف، بعضها صهيونية جدًا، ولكن بعضها فلسطينية، ولكن أجمل ما وجدته هناك هو فتحة المجاري التي لم أعثر عليها بسهولة، ولكنني وصلتها وكانت المفاجأة أنها تباع بحوالي 400 دولار امريكي!
يومها أدركت أن تلك الفتحة لم تفضح إسرائيل فقط، فهي تفضحنا لأننا لم نعط تاريخنا حقّه ولم نحافظ عليه!