ترجمة نون بوست
“اليوم، أصبحتم أنتم وسائل الإعلام، لذلك يجدر بكم أن تقدموا التقارير وأن تبقوا الأمل! أنتم وسائل الإعلام، إذًا نحن متحدون!” مير حسين موسوي (رئيس الوزراء الإيراني السابق)
يبدو شمال نيويورك 1883 نقطة انطلاق غريبة لبدء مقال حول الاستخبارات مفتوحة المصدر، إلا أن الأمر ليس كذلك بالكلية. فهناك، ولد واحد من الشخصيات الأكثر تأثيرًا في المخابرات، هو وليام دونوفان، ابن مهاجرَين أيرلنديين متدينين، نشأ في عائلة تنتمي إلى الطبقة العاملة، وكان متفوقًا في المدارس والأوساط الأكاديمية.
كان طموح دونوفان أن يصبح أول رئيس روماني كاثوليكي للولايات المتحدة، في عام 1905، ذهب ليدرس في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا، حيث كان الشاب فرانكلين روزفلت من بين زملائه.
بعد المشاركة في الحرب العالمية الأولى، كانت لدونوفان حياة مهنية ناجحة باعتباره محامي دولي، وكاد أن يصبح مدعيًا عامًا في 1925، خلال فترة ما بين الحربين، سافر حول العالم كمحامٍ، وقابل شخصيات مؤثرة وكان في الوقت نفسه، يكتب التقارير لحكومة الولايات المتحدة، بصفة شبه رسمية.
ساهمت علاقة دونوفان بفرانكلين روزفلت، رئيس الولايات المتحدة آن ذاك، في إنشاء وكالة الاستخبارات في الولايات المتحدة، حتى ذلك الوقت، كان يُنظر إلى عالم المخابرات والتجسس كإجراء غير نبيل، من قبل أمريكا، لكن دونوفان ضغط على روزفلت لإضفاء الطابع الرسمي؛ لذلك، في الـ 11 يوليو/ تموز 1941، خلق روزفلت لدونوفان منصب “منسق المعلومات”.
بعد بيرل هاربور، كانت الحاجة إلى المخابرات واضحة، وقد تغير اسم قسم دونوفان إلى “مكتب الخدمات الاستراتيجية”، سلف وكالة الاستخبارات المركزية “السي أي إيه”، كان مكتب الخدمات الاستراتيجية يشبه قيادة العمليات الخاصة في المملكة المتحدة، حيث تورط في العديد من العمليات، بدءًا من محاولات الاغتيال وحرب المعلومات.
قد يندهش القراء في عام 2016، عندما يعرفون أن مكتب الخدمات الاستراتيجية كان له فرع كامل مخصص لاستخبارات المصدر المفتوح، حيث كان فرع البحوث والتحليل التابع لمكتب الخدمات الاستراتيجية يجمع، بدقة، العشرات من الصحف والمجلات وقصاصات الصحف والتقارير الإذاعية من جميع أنحاء العالم، بحثًا عن الصور والمقالات التي يمكن أن تحتوي على معلومات استخباراتية مهمة عن العدو، وبعبارة دونوفان:
“حتى الصحافة المنظمة تكشف، مرارًا وتكرارًا، أسرار بلدانها إلى أي متابع نابه“.
انصب مكتب الخدمات الاستراتيجية على صفحات الوفيات للصحف الإقليمية الألمانية، لجمع المعلومات حول نازيين مهمين، وقد تم، كذلك، جمع صور من السفن الحربية الجديدة وحفر القنابل والطائرات وترتيبها بشق الأنفس، وبعد تقييمها معًا، يستطيع مكتب الخدمات الاستراتيجية تقييم أعدائه.
من اللافت للنظر اليوم، وجود تشابه بين أنشطة مكتب الخدمات الاستراتيجية وتحقيقات استخبارات المصدر المفتوح، الحديثة، حتى وإن كانت من دون أجهزة الكمبيوتر، ومن خلال مكتب الخدمات الاستراتيجية وقيادة العمليات الخاصة، يمكن القول أن جذور استخبارات المصدر المفتوح تمتد إلى ما يقرب من قرن من الزمان.
في الواقع يمكن القول أن مقولة دونوفان صحيحة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، من بين المليارات من الوظائف والتحميلات والنشر والإعجاب (على الإنترنت) يكشف الأفراد، مرارًا وتكرارًا، مصالحهم إلى المراقبين.
بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح انضباط استخبارات المصادر المفتوحة راكدًا في معظم الوكالات الحكومية والعسكرية، حيث أصبح موظفوها من المكتبيين والباحثين، عندما أصبحت كلمة “مكتبة” مصطلحًا غير عصري في منتصف عام 2000، سعى خبراء الاستخبارات إلى العمل في هذا المجال.
على مدى عقود، كان عالم المصادر المفتوحة (في سياق تحليل الحكومة) في سبات عميق، دون أن تنزعج من الحرب الباردة أو حتى من هجمات 11 أيلول/ سبتمبر.
ولكن بعد ذلك، في عام 2009، تغير شيء ما، حيث كانت إيران على حافة “ثورة خضراء”، فقد كان العديد من مواطنيها يحتجون ضد النظام، واستعان ملايين الشبان الإيرانيين بالإنترنت لتنسيق أنشطتها، وتبادل المحتوى الذي ينتشر بسرعة لتشجيع الآخرين على المشاركة في الحملة، كانت تلك أول مرة، غُمر فيها الإنترنت بمعلومات من المواطنين، حول حدث سياسي كبير، بفضل مزيج من الهواتف الذكية والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعية، خلال الأسبوع الأول من الاحتجاجات، 60% من جميع الروابط التي تنشر على تويتر كانت حول السياسة الإيرانية.
وتجدر الإشارة إلى أن استخدام الإنترنت في إيران قفز من 34% في عام 2008 إلى 48% في عام 2009، وهي زيادة كبيرة، وارتفعت اشتراكات الهاتف المحمول من 59% إلى 72% من السكان، في ذلك الوقت، نُشر مقال في “البي بي سي” بعنوان “الإنترنت تعيد الحياة إلى إيران”، حيث قدمت شكلاً جديدًا من أشكال “صحافة المواطنة“.
خلال احتجاجات عام 2009 في إيران، وجهت واشنطن بوست سؤالاً للمعلق المعروف يفغيني موروزوف:
واشنطن بوست: في نهاية الأسبوع الماضي، كُتب الكثير حول التغطية في إيران، وحول المنظمات الإخبارية الأمريكية التي لم تقم بدورها، إلا أن تويتر وغيره من مواقع الويب المماثلة، نشرت الأخبار وتركت الناس في جميع أنحاء العالم يعرفون ما كان يدور في إيران، ما تعليقك؟
يفغيني موروزوف: لاحظنا عددًا كبيرًا، نسبيًا، من الصحفيين المواطنين يقومون بعمل ممتاز لالتقاط الصور والفيديوهات حول الاحتجاجات في طهران، وقد لعبت مواقع مثل تويتر، دورًا كبيرًا في جذب انتباه الناس لهذا المحتوى المقدم من المستخدمين، لذلك، قدم موقع فليكر صورًا رائعة، في حين أعطى تويتر أهمية كبيرة لهذه الصور.
في الواقع، كان هناك الكثير من الانتقادات لعدم وجود تغطية حول إيران على شبكة السي إن إن، لذلك نظم مستخدمو تويتر حملة كاملة للتعامل مع ما يسمى cnnfail#، أعتقد أنها كانت ناجحة، حيث كان على المديرين التنفيذيين والصحفيين، في نهاية المطاف، الإجابة على أسئلة حول هذا الموضوع.
لأول مرة، في جميع أنحاء العالم يمكن لأي شخص، أن يُثري هذه الشبكات الاجتماعية بمحتوى استخباراتي، عن طريق كتابة مقالات وتنبؤات وتقديم تحاليل ثاقبة لمعلومات استخبارية، لكن في نهاية المطاف، عندما فشلت الاحتجاجات، باستعادة النظام الإيراني السيطرة على الإنترنت بسرعة، يمكننا أن ننظر إلى الوراء ونعتبر أن الثورة الخضراء هي حدث بارز في تاريخ استخبارات المصادر المفتوحة.
ليس من المستغرب أن إيران موجودة في هذا العالم الجديد من استخبارات المصادر المفتوحة، حيث يتجاوز عدد المستخدمين الإيرانيين للإنترنت عدد المستخدمين في كل من البحرين والإمارات وإسرائيل والسعودية وسوريا واليمن والأردن، مجتمعين.
خلال الثورة، أعرب ماثيو ويفر في صحيفة الغارديان عن دهشته من واقع هذا العالم الجديد “ما يقوله الناس في وقت معين من اليوم، تؤكده المصادر التقليدية بعد أكثر من أربع أو خمس ساعات”.
ليس مستغربًا أن يطور الصحفيون المواطنون والمحققون (بدلاً من الحكومات) استخبارات المصادر المفتوحة، وهو الحقل الذي يتحرك بسرعة الضوء، بالاستعانة بالأدوات والتقنيات الجديدة.
بعد أقل من عام على الثورة الخضراء، انتشرت الثورات التي تشعلها مواقع التواصل الاجتماعية في العالم العربي، فقد هز مزيج من الغضب الشعبي والهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعية الديكتاتوريات في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، ووفقًا لأحد أعضاء مجلس إدارتها “كان مركز استخبارات المصادر المفتوحة ووكالة المخابرات المركزية غير قادرين على توقع تطور النشاط الاجتماعي القائم في العالم العربي على شبكة الإنترنت”.
أحد تفسيرات هذا الفشل، هو أن استخبارات الحكومات كانت منكبة على جمع المعلومات حول النخبة القوية، بدلاً من “الاستفادة من الكمية الهائلة للمعلومات مفتوحة المصدر”.
في العام الماضي، دمّر الجيش الأمريكي مصنع قنابل لتنظيم الدولة، وذلك بعد 23 ساعة فقط من نشر جهادي لصورته الشخصية، التي تكشف هيكل سطح المبنى، وهذا المثال هو الأكثر قوة لاستخدام الجيش لاستخبارات المصادر المفتوحة من أجل القيام بعمليات استهداف دقيقة.
ظهرت، في القطاع الخاص، عشرات الشركات الإعلامية مفتوحة المصدر في كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة، لتقدم خدمة لعدد من العملاء في القطاعين العام والخاص، وفي الآونة الأخيرة، كما ذكرت مجلة وايرد في أبريل 2016، تبحث مجموعة كاملة من وكالات حكومية لفهم أفضل لثروة البيانات المفتوحة على شبكة الإنترنت.
إلى أين ستذهب استخبارات المصادر المفتوحة، بعد ذلك؟
عند التفكير في هذا التاريخ القصير لاستخبارات المصادر المفتوحة، يمكن القول أن العصر الحديث هو نتيجة لتقارب التكنولوجيات، وقد بدأ هذا حوالي عام 2009، عندما وقعت ثلاثة أشياء: أولاً، كانت كتلة حرجة من الهواتف الذكية مع اتصالات الجيل الثالث، في أيدي مواطنين ساخطين، ثانيًا، يستخدم هؤلاء المواطنون عددًا قليلاً من التطبيقات لتقاسم كمية ضخمة من المحتوى حول الأحداث السياسية داخل بلدهم، ثالثًا، كانت هذه البيانات حرة ومجانية لبقية العالم من أجل الوصول إليها وتحليلها.
ومع ذلك، فإن عالم المخابرات مفتوحة المصدر لا يقف مكتوف الأيدي، وسيستمر وسيطور في تقنياته لزيادة وتغيير ممارساته، كما أن الإقبال المتزايد على البث المباشر يعرض محتوى التحديات الحقيقية جدًا للعاملين في الشرطة والأمن واستخبارات المصادر المفتوحة ، من ولاية مينيسوتا إلى دمشق.
ستكون الآلات والواقع الافتراضي المعزز والذكاء الاصطناعي، قادرة مرة أخرى، على تطوير وتشكيل استخبارات المصادر المفتوحة في السنوات القادمة.
المصدر: بيلينغكات