في عالمنا العربي لازالت النظرة حيال المرض النفسي تعاني العديد من أوجه القصور، لا سيما فيما يتعلق بالحرج من الإفصاح عن الإصابة بأي عرض من أعراض الأمراض النفسية، مما يزيد الوضع تأزمًا، ويُدخل المريض في مرحلة حرجة، قد لا تفيد معها وسائل العلاج التقليدية المتبعة.
وفي مصر الوضع يكاد يكون مختلفًا عن بقية دول العالم العربي، فلازال المرض النفسي في مخيلة المجتمع يعني الجنون، حيث ارتبطت كل من مستشفى “العباسية” و”الخانكة” – وحسبما نقلت السينما والتلفزيون – بالخلل العقلي والسلوكي، لكن حين يصاب أكثر من نصف المصريين بالأمراض النفسية، فضلاً عن أن ما يقرب من 15% فقط من المرضى يتوجهون للعيادات والمصحات لتلقي العلاج، إضافة إلى أن الغالبية العظمى من المصابين بهذه الأمراض من الشباب، فلا بد من وقفة.
“نون بوست” في هذه الإطلالة السريعة يسعى لإلقاء الضوء على خريطة المرض النفسي في مصر، وأبرز أسبابه، وما سبل العلاج، إضافة إلى الكشف عن العلاقة بين التوترات السياسية والأزمة الاقتصادية التي يحياها المجتمع المصري وبين الإصابة بتلك الأمراض.
16 مليون مريض والقاهرة في المقدمة
بالرغم من عدم وجود إحصائيات رسمية حتى الآن لخريطة المصابين بالمرض النفسي في مصر، إلا أن آخر إحصاء رسمي لوزارة الصحة في 2015 يشير إلى أن ما بين 14-16 مليون شخص يعانون من اضطرابات نفسية، تختلف في نوعها وشدتها حسب كل حالة على حدة.
الدكتور هشام رامي رئيس الأمانة العامة للصحة النفسية بوزارة الصحة، أشار في تصريحات صحفية له أن 15% فقط من المرضى يراجعون العيادات الخاصة ومصحات العلاج النفسي، بما ينذر بخطر حقيقي يهدد مستقبل الملايين من الشباب المصري، إن تُرك هكذا دون علاج، وهو ما يمثل خطرًا على المجتمع، وعلى منظومته الاقتصادية والبشرية على حد سواء.
آخر إحصاء رسمي لوزارة الصحة في 2015 يشير إلى أن ما بين 14-16 مليون شخص يعانون من اضطرابات نفسية.
ووفقا لما كشفته دراسة أجريت بالتعاون بين الأمانة العامة للأمراض النفسية بوزارة الصحة، ومنظمة الصحة العالمية، على أكثر من 7400 مواطن ممن تتراوح أعمارهم 18 عامًا فأكثر، في 10محافظات، هي القاهرة والجيزة والفيوم وبني سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج وقنا والأقصر وأسوان، جاء انتشار الأمراض النفسية بنسبة 16.4% في الصعيد مقارنة بـ 18.5% في القاهرة و16.9% لمحافظات الوجه البحري، بما يعني أن المرض النفسي مثل الأمراض المزمنة الأخرى كالسكر والضغط ينتشر بين المصريين بصورة خطيرة وتستوجب من الجميع توخي الحذر والحيلولة دون انتشارها أكثر مما هي عليه الآن.
الدراسة أشارت إلى أن من بين الحالات التي تعاني من الاضطرابات النفسية 0.4% منهم فقط هم من يتلقون العلاج في حين بلاد أخرى مثل أمريكا 30-40% من المرضي مقيدين في برامج علاجية، وذلك بحسب الدكتور عماد حمدي أستاذ الطب النفسي بطب القاهرة ورئيس وحدة الأبحاث بالأمانة العامة للأمراض النفسية بوزارة الصحة والباحث الرئيسي بالدراسة، والذي نوه إلى قابلية النساء للإصابة بالأمراض النفسية أكثر من الرجل بنسبة 1.5: 1، كما يعتبر الأشخاص الأقل حظًا من التعليم أو الأقل نصيبًا في المستوى الاجتماعي أو الأقل إحساسًا بالرضي عن أحوالهم المعيشية والاقتصادية هم الفئات الأكثر استعدادًا للاضطرابات النفسية المختلفة، يضاف لهم الأرامل والمطلقات والرجال الذين يفتقدون إلى فرص العمل.
الاكتئاب والإحباط أبرز الأعراض
هناك أنواع متعددة للأمراض النفسية تتباين في شدتها وحدتها حسب أعراضها، وبحسب الدراسات وآراء الأطباء النفسيين، فإن أكثر الأمراض النفسية انتشارًا بين المصريين، “الاكتئاب”، والناتج في كثير من حالاته عن الضغوط المجتمعية التي يتعرض لها المريض، فمع تزايد تلك الضغوط وعدم توافر الوقت الكافي للاسترخاء يزداد الشعور بالتعب والتوتر، فتنعدم القوى المضادة أو جهاز المناعة النفسي، فيصبح الإنسان غير قادر على مواجهة المشكلات، ويصبح فريسة للخوف والتوتر المرضي.
ويعد “الاكتئاب” أول مرحلة من مراحل المرض النفسي، ويقسم إلى درجات، وربما يصل الأمر ببعض الحالات المصابة باكتئاب مزمن، إلى الانتحار في بعض الأحيان.
ثم يأتي الإحباط في المركز الثاني من بين الأمراض النفسية الأكثر انتشارًا بين المصريين، حيث يعد من الأمراض التي غالبًا ما ينتج عنها مضاعفات لها خطورتها على المستويين النفسي والاجتماعي، كونه حالة من التأزم النفسي تأتي من مواجهة الفرد لعائق يمنعه من إشباع دافع معين أو حاجة ملحة أو تحقيق هدف ما، وأن معظم هذه الأمور، أصبحت واقعًا يعيشه جزء كبير من المجتمع المصري هذه الأيام.
60% من الحالات النفسية هي حالات عرضية، يصاب بها الإنسان جراء الضغوط اليومية التي يتعرض لها، سواء في البيت أو العمل أو الشارع
الدراسات تشير إلى أن العجز الجنسي يعد من أبرز مسببات المرض النفسي للمصريين، فهناك أدوار قد يعجز الفرد عن القيام بها، من ضمنها عجز المتزوجين عن ممارسة دورهم الجنسي بشكل طبيعي، مما قد يزيد من مشاعر الإحباط لديهم، وينتج عن ذلك “انسحاب” تدريجي وعزوف عن الممارسة الجنسية، بما يدفعه إلى الابتعاد عن الجلوس مع الأهل والأقارب، وتفضيل الوحدة، وربما قضاء معظم الوقت في أنشطة يظن المريض أنها تساعده على محاربة هذا الشعور والتغلب عليه، منها الجلوس على المقاهي أو استخدام شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى اللجوء إلى المخدرات، كل ذلك في محاولة منهم للتعبير عن رفضهم المجتمع كاملاً.
أما عن المعدلات الزمنية لاستمرار الإصابة بتلك الأمراض، أشارت الدراسات إلى أن 60% من الحالات النفسية هي حالات عرضية، يصاب بها الإنسان جراء الضغوط اليومية التي يتعرض لها، سواء في البيت أو العمل أو الشارع، وتأخذ فترة من الزمن وتظهر في شكل تغيرات في سلوكه ثم تمر ويتماسك ويعود الشخص المريض إلى حالته الطبيعية، وهناك حالات أخرى تطول فترتها ويتجاوز علاجها على مدى أطول من 6 أشهر في كل علاج نفسي على جلسات، وهناك أيضًا حالات تأخذ شكل نوبات أطول مثل الاضطراب الوجداني وأعراض القلق والاكتئاب، كما أن هناك أمراض موسمية تنتشر في فصول الربيع أو الخريف، وتأتي في صورة هوس أو اكتئاب، وتحتاج إلى علاج مكثف في وقت النوبة لمدة 3 أشهر بعد النوبة، كما يتطلب من المريض الاستمرار في العلاج.
قلة المستشفيات وغياب الدور المجتمعي
بالرغم من التكلفة المنخفضة للعلاج النفسي قياسًا بالتخصصات الأخرى، فضلاً عن تزايد أعداد المرضى النفسيين، إلا أن الإقبال على العلاج ضعيف للغاية، وهذا ما أكده الدكتور محمد المهدي الخبير النفسي وأستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر، مشيرًا أن قلة الوعي لدى المرضى وجهلهم بطبيعتهم المرض النفسي وراء ضعف الإقبال على العلاج سواء داخل العيادات الخاصة أو المصحات الحكومية.
عدد الآسرّة في المستشفيات النفسية الحكومية في مصر حوالي 7 آلاف سرير، وفي المستشفيات الخاصة ألف سرير، بما إجماله 8 آلاف سرير، علما بأن أعداد المرضى تتجاوز 14 مليون مريض، فهل هذا من المعقول؟
المهدي أشار في حديث له إلى أن المشكلة في الطب النفسي ومواجهة الحالات الموجودة في مصر يكمن في أن المستشفيات المتاحة للعلاج قليلة جدًا، ومقتصرة على مستشفى العباسية ومستشفى الخانكة، وهاتان لا تكفيا عدد الحالات مما يجعل أحيانًا إدارتهما تقوم بإخراج بعض الحالات لإيجاد مكان وأسرة لمرضى آخرين، إضافة إلى أن إقبال المرضى من القرى إلى المستشفيات في المدن يسبب ضغط على إمكانيات تلك المستشفيات في الوقت التي تعاني في الأساس من سوء الحال وتدني الخدمات والعلاج.
يذكر أن عدد الآسرّة في المستشفيات النفسية الحكومية في مصر حوالي7 آلاف سرير، وفي المستشفيات الخاصة ألف سرير، بما إجماله 8 آلاف سرير، علمًا بأن أعداد المرضى تتجاوز 14مليون مريض، فهل هذا من المعقول؟
فتش عن السياسة
الإنسان – جسد وروح – هو عامل مؤثر في البيئة التي يعيش فيها، يؤثر فيها ويتأثر بها، ولا يمكن أن يعزل الإنسان نفسه عن محيط مجتمعه، فهو يتأثر بكل ما يدور حوله من أحداث سياسية واقتصادية واجتماعية، تلعب دورًا كبيرًا في تحديد خارطة حالته النفسية، وهذا ما أشار إليه الدكتور هاشم بحري أستاذ الطب النفسي، والذي أكد على فقدان الإحصائيات الرسمية الحديثة لأعداد المرضى النفسيين في مصر على مدار السنوات الأخيرة، إلا أن ما اتفق عليه الجميع أن هناك تزايد هائل في عدد المرضى.
بحري أرجع التزايد الملحوظ في عدد المرضى النفسيين إلى الأحداث السياسية التي مرت بها مصر خلال الخمس سنوات الأخيرة، مشيرًا أنه قبل الثورة كانت نسبة الاضطراب العقلي في مصر تصل إلى 2% أي مليون 800 ألف مريض ذهني ليس لديهم قدرة على التفكير السوي، بل وليس لديهم تصور أو قناعة بأنهم مرضي، أما الأمراض العصبية الخفيفة في المجتمع المصري تصل نسبتها 30% والثقيلة 20%، لكن بعد الثورة وعلى مدار السنوات الماضية ارتفعت بصورة غير متوقعة، إذ إن من الطبيعي أن تزيد هذه النسب وتتضاعف لأن الأمراض العصبية تتأثر بالضغوط النفسية المحيطة في المجتمع سواء كانت على المستوى التربوي والتعليمي والديني والاجتماعي والأمني والسياسي.
قبل الثورة كانت نسبة الاضطراب النفسي عند المصريين 30% والآن وصلت إلى 50% بسبب التوترات السياسية
خبير الطب النفسي أشار في تصريحات له إلى أن هناك ثلاثة أنواع لشخصية الإنسان، الأول: القادر علي التعامل مع الأزمات والتكيف معها، الثاني: من كان قويًا لكن مع زيادة الأزمات والصدمات التي تعرض لها أصيب بكسر في مقاومته فأصيب باضطراب نفسي نتيجة الظروف التي تمر بها البلاد من أزمات سياسية في الآونة الأخيرة تسببت في زيادة الضغوط النفسية على المواطنين، الثالث: غير القادر على التعامل مع الأزمات وهذا يصاب بخلل ذهني شديد قد يؤدي إلى الانتحار في كثير من الأحوال.
ومن الملاحظ أن طبقة المثقفين والطبقة الوسطى هم أعلى الطبقات تعرضًا للأمراض النفسية، نظرًا لما لديهم من وعي أكثر من ذويهم بما يدور حولهم من أحداث وأزمات، ومن ثم فتفاعلهم وتأثرهم بهذه الأجواء أكثر من غيرهم من غير المثقفين والطبقات الفقيرة.
وبنظرة مدققة حين نرى ارتفاع أعداد المرضى النفسيين في مصر من 30% قبل ثورة يناير 2011، إلى ما يقرب من 50% حسب إحصاء 2015، فلا بد من إعادة النظر في رؤية المجتمع للمرض النفسي، إضافة إلى ضرورة توعية المواطنين بحقيقة الأزمات السياسية التي تواجهها البلاد، فما بين ثورة استبشر بها الجميع في حياة كريمة وعدالة اجتماعية، تم سرقتها من قِبل المجلس العسكري وبعض التيارات المنتفعة، مرورًا بسوء إدارة الإخوان لعام الحكم المدني الوحيد في تاريخ مصر، وصولاً إلى الانقلاب على كل مكتسبات الثورة، كل هذا كان له مفعول السحر في إصابة المصريين بالجنون وليس أعراض نفسية عادية.
تلك المعدلات الجنونية في إصابة المصريين بالأمراض النفسية التي تهدد المجتمع مقلقة، وذلك حسبما أشار بعض أساتذة علم الاجتماع النفسي، محذرين من زيادة معدلات الجريمة داخل المجتمع المصري خلال الفترة القادمة، تزامنًا مع سوء الأحوال الاقتصادية، حيث إن هذه الظروف تتعادل طرديًا مع معدلات الجريمة في مصر، بكل أنواعها، وهو الأمر الملاحظ حاليًا من زيادة معدلات جرائم الاغتصاب والتحرش والقتل والسرقة بالإكراه.
فمتى يعي المصريون خطورة المرض النفسي وحقيقته؟ فالمرض النفسي مثله مثل بقية الأمراض الأخرى، عرض وعلاج، ولا بد من التعامل معه على هذه الكيفية، دون حرج أو امتعاض، تجنبًا للوصول إلى مرحلة خطيرة قد لا يفيد معها العلاج النفسي حينها، ومتى يتوقف الساسة والحكام والأنظمة والحكومات عما يمارسوه من أفعال وسلوكيات وقرارات وممارسات أصابت الشعب بالجنون؟ تحملنا عوراتكم ومساوئكم التي أهدرت كرامتنا، وأضعفت أجسادنا، وهددت مستقبل أولادنا، لكن لن نحتمل أن تسلبوا منا عقولنا.