“أنا قلق، وأعاني من هواجس، واضطراب في التفكير”، كلها أعراض يخلط العامة بينها، ويعتقدون أنها تصب في النهاية إلى خلل معين في طريقة التفكير، أو لمعاناة قصيرة لما بعد صدمة معينة، إلا أن ما يحدث في الواقع نتيجة للثقافة الشعبية الخاطئة حول الأمراض العقلية أنه يتم إهمال المصاب الحقيقي بالمرض العقلي، ويتم تشخيصه على أن ما يحدث له من أعراض هي أعراض مؤقتة فقط.
لا يقل المرض العقلي خطورة عن المرض النفسي، ربما يكون أكثر جدلية، لأنه ليست له أعراض ملموسة كالمرض العضوي، ولا يسهل تشخيصه، وتختلط فيه الأعراض ببعضها كثيرًا، ويحتاج وقتًا طويلًا للتشخيص، كما يحتاج وقتًا أطول للعلاج، حيث تكون كل مرحلة بداية من التشخيص إلى العلاج هي مرحلة ذات تأثير جذري على المريض، إما بشفاؤه، أو بتطور مرضه بطريقة سريعة، حتى يصعب كليًا السيطرة عليه أو خضوعه للعلاج.
تكمن المشكلة في المرض العقلي بالنسبة للمصاب هو عدم إدراكه الحقيقي للمشكلة، وهذا يختلف عن المرض العضوي، وهذا ما يجعل من المرض العضوي مشكلة قابلة للمناقشة والحل، لأن المريض مرضًا عضويًا يدرك المشكلة بالفعل، أما في حالة المرض العقلي، فستجد المريض في حالة من عدم الاتزان المستمر، وذلك لعدم إدراكه الحقيقي بالمشكلة، وعدم فهمه للدافع وراء تصرفاته المرضية مع الآخرين، كما لا ننسى هنا الجهل بثقافة الأمراض العقلية لدى العامة، يثقل من عبء المرض عليهم وعلى المريض نفسه.
المرض العقلي لا يتضمن الاكتئاب فقط
على الرغم من أن الاكتئاب هو المرض الأكثر شيوعًا من بين الأمراض العقلية، باختلاف درجاته من البسيطة إلى الاكتئاب المؤدي للانتحار، إلا أنه ليس الوحيد على قائمة الأمراض العقلية، ومن الخطأ الشعبي الشائع كذلك هو تبرير أي مشكلة نفسية على أنها اكتئاب، ولا يجوز كذلك، الاستهانة بالاكتئاب مهما كانت درجاته، فهو من الأمراض التطورية، التي تتطور أطوارها في فترات قصيرة مع الإهمال المستمر للمريض، مما قد يؤدي به إلى الانتحار.
يُعد مرض الذهان أو ما يُسمى بمرض الوسواس القهري، وهو اضطراب واختلال في وظائف المخ، وهو المرض الذي يَسبب هلاوس للمريض واضطراب في التفكير، ومن الممكن أن يكون أحد النتائج المتطورة جدًا لمرض الاكتئاب، كما يعد مرض الذهان من أكثر الأمراض سيئة السمعة بين العامة، وهذا لتصويره بشكل أكثر بشاعة مما هو عليه حقًا في الأفلام السينمائية، فينال هذا المرض معاملة تختلف عن معاملة العامة للأمراض العقلية الأخرى، وهو المبرر الرئيسي لمرتكبي حوادث القتل الجماعي، وبخاصة في الولايات المتحدة، ففي النهاية يكون مرتكب المذبحة مضطربًا ذهنيًا، ولهذا لا يشارك كل من يصاب بالمرض قلقه حول مرضه مع أي شخص، وذلك بسبب جهل العامة بالمرض، وربطهم له بالحوادث الإرهابية فقط.
لا يتم توظيف أي شخص له تاريخ مرضي في مصحة الأمراض العقلية والنفسية في الولايات المتحدة، وهذا ما يدفع البشر عامة إلى تصنيف المرضى وكأن لهم تصنيف خاص بهم لا يجب أن يمتزج بالمجتمع العادي، وهذا ما يدفع المرضى أيضًا لإخفاء أمر مرضهم أو معالجتهم عن البشر.
لازالت بعض المجتمعات، وأكثرها المجتمعات العربية، تعتقد بأن المرض العقلي يعني الجنون، وأن الإنسان المريض بمرض عقلي لا يستطيع التفكير كما يفعل بقية البشر، إلا أنه لم يبق الوضع متاحًا للفرضيات التي تتحكم فيها الأعراف والتقاليد التي تعود لمئات السنوات، بل يتحكم في الأمر الآن الحروب التي تحتل أغلب المناطق الواقعة في الشرق الأوسط.
المرض العقلي الأكثر شيوعًا في الشرق الأوسط
واحد من بين كل عشرة يعاني من اضطراب عقلي في المناطق المضطربة والمتنازعة في الشرق الأوسط، كما ترتفع النسبة إلى واحد من كل ستة في المناطق التي تعاني من حروب مستمرة على الأرض بحسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية، حيث يعاني الأفراد قاطني تلك المناطق من اضطرابات ما بعد الصدمة، تؤدي بهم إلى الاكتئاب الحاد، وما يزيد الطين بلة في تلك الحالات، هي أنه لا يوجد سبيل لتلقي العلاج أبدًا، فما كان منها في الماضي تم تدميره بالفعل، وما يكون مختص بتلك الحالات في الحاضر يصعب الوصول إليه بسبب الظروف الخطيرة المحيطة.
العلاج بالصلاة
على الرغم من أن الشرق الأوسط كان من أوائل المراكز التي تبنت علاج الأمراض العقلية في القرن الثامن والتاسع عشر عن طريق الموسيقى، إلا أن الآن يميل العامة في الشرق الأوسط إلى اعتبار المرض العقلي هو مس من الشيطان، ولا يتم التخلص منه إلا عن طريق الدجالين البارعين في التخلص من مسّ الجن للإنسان، كما يميل البعض إلى الاستعانة بالشيوخ، والعلاج عن طريق الصلاة.
من الخطأ أن يتصور البعض أن المرض العقلي لن يؤثر على حياته، فهناك في الولايات المتحدة على سبيل المثال، واحد من كل 25 فردًا عانى في حياته من مرض عقلي كانفصام الشخصية، أو اضطراب في الشخصية، أو اكتئاب حاد، كما يحتل الانتحار المرتبة العاشرة في قائمة أسباب الوفاة في الولايات المتحدة، كما هو الحال في الشرق الأوسط مع أعداد المرضى المتزايدة عقب أحداث العنف المتتالية في أغلب بلاد الشرق الأوسط.
يمكن للإهمال المتعمد للمشكلة أن يكون السبب الرئيسي في تفشيها في المجتمع بشكل متوحش وغير قابل للسيطرة، وهذا ما يحدث من أغلب العامة في أغلب الثقافات، إلا أن الثقافة العربية تترأس الجهل تجاه هذا الأمر بالتحديد، بل والاستمرار في تجاهل مشكلة المرض النفسي وخطورته مثل المرض العضوي، وهذا ما يمكن أن يتسبب في تنشئة أجيال كاملة تعاني من اضطرابات ما بعد الصدمة، فلا يمكن لطفل في الخامسة أن يواجهة خطر الغرق في قارب تهريب، أو لطفلة تتفادى رصاص القناصة بحركات عشوائية، أن ينضج ويستمر في الحياة مثله كمثل طفل مستقر ذهنيًا في بيئة مسالمة، فالبقاء على قيد الحياة لا يعني دائمًا النجاة.