في المقال السابق من سلسلة إيران والقضية الفلسطينية الخميني والذخيرة الإسرائيلية وصلنا عند نهاية حقبة الإمام الخميني، ورأينا من خلال أربعة مقالات متتالية كيف استثمر الإيرانيون القضية الفلسطينية في حربهم ضد العراق، ومحاولاتهم جعل القضية الفلسطينية أداة للنفوذ الإقليمي، وفي المقال الذي نحن بصدده الآن، سوف نتناول السياسة الإيرانية تجاه القضية الفلسطينية في ولاية رفسنجاني الأولى والتي امتدت من العام 1989 وحتى العام 1993، حيث كان للقضية دور محوري في سياسة إيران تجاه كسر عزلتها الإقليمية والدولية.
كانت الظروف التي استلم فيها حجة الإسلام هاشمي رفسنجاني السلطة سواء على الصعيد الداخلي أم الخارجي للبلاد في غاية السوء، فالحرب العراقية – الإيرانية والتي استمرت لمدة ثمانية سنوات قد وضعت البلاد على حافة انهيار كامل، كان الاقتصاد الإيراني في حالة متردية، والبنية التحتية قد تشوهت بشكل كبير بفعل “حرب المدن” والتي استخدمت فيها الصواريخ بكثافة.
أما علاقات إيران الخارجية فقد كانت في غاية السوء، فالحرب جعلت طهران في عزلة عن محيطها العربي، بالإضافة إلى حالة الحصار والقطيعة التي فرضت عليها من قبل الولايات المتحدة على خلفية أحداث السفارة الأمريكية في طهران في العام 1979، هذا بالإضافة إلى علاقاتها المتوترة مع الكثير من دول الاتحاد الأوروبي وعلى رأسهم المملكة المتحدة على خلفية الفتوى التي أصدرها الخميني قبل وفاته بحق “السير سلمان رشدي” والتي دعا فيها إلى قتله بسبب تأليفه لرواية “آيات شيطانية”.
هذه الظروف مجتمعة كانت حاضرة في ذهن الرئيس رفسنجاني وفريقه بشكل كبير، وشكلت الإطار العام الذي حدد سياسته العامة خلال فترة توليه الرئاسة، وقد تشكلت هذه السياسة من دعامتين اثنتين رئيسيتين: أولًا، إعادة البناء (Reconstruction) وتركزت على إنعاش الحالة الاقتصادية للبلاد وترميم بنيتها التحتية، ثانيًا، إعادة الاندماج (Reintegration) وتركزت على إعادة تطبيع العلاقات مع دول الجوار والمجتمع الدولي، وقد كان واضحًا منذ البداية أن الدعامتين مرتبطتان بعضهما ببعض، فلا يمكن إعادة إنعاش الاقتصاد من غير تبني سياسة أكثر انفتاحًا على المستويين الإقليمي والدولي وهو ما حاولت إران تبنيه مطلع التسعينات.
أعادت إيران تعريف موقعها في النظام الدولي من خلال الانخراط بالمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، ومنظمة التعاون الاقتصادي (ECO) ومنظمة التعاون الإسلامي (ICO)، وحاولت فتح قنوات اتصال مع الولايات المتحدة من خلال تبنيها سياسة الوسيط المحايد في قضايا الرهائن الأمريكيين الذين تم اختطافهن في لبنان حيث حافظت طهران على نفوذ كبير على عدة فصائل مقاتلة إبان الحرب الأهلية اللبنانية، في حين أسقطت فتوى الخميني في حق سلمان رشدي من أجل تطبيع علاقاتها مع المملكة المتحدة ، وادعت بأن الفتوى رأي شخصي للخميني ولا يمثل بالضرورة السياسة الرسمية للدولة، وأخيرًا كان صعود الخوربتشوفية في الاتحاد السوفيتي عاملًا ايجابيًا لإيران حيث استطاع رفسنجاني تحسين علاقته مع موسكو، وهو ما تبدى من خلال دور إيران في أفغانستان بعد الانسحاب السوفيتي منها.
عربيًا، كان الغزو العراقي للكويت بمثابة الزلزال الذي أحدث تغيرات هائلة على بنية النظام العربي في ذلك الوقت، فبعد أن كانت إيران هي العدو الأول في نظر الكثير من الدول العربية في فترة الثمانينات، تحول العراق ليكون هو العدو الأول – أقلها عندما كانت قواته مازالت تحتل الكويت – ويشكل التهديد الأكبر للنظام العربي، الأمر الذي أفسح المجال أمام طهران لكي تمارس دور الوسيط في العديد من الملفات الإقليمية وهو ما عزز رصيدها السياسي، هذا فضلاً عن المكاسب الاقتصادية والتي تبدت بالارتفاع الكبير في أسعار النفط إبان الغزو من 18 دولارًا إلى 23 دولارًا للبرميل الواحد.
هذا لا يعني أن طهران كانت تنظر بعين الرضا لتحركات واشنطن في المنطقة، حيث كانت متوجسة منذ البداية من فكرة الحضور الكثيف للقوات الأجنبية في منطقة الخليج والتي رأت فيها تهديدًا لمصالحها الإقليمية، خصوصًا وأن علاقاتها مع الولايات المتحدة – التي باتت القطب الأوحد في النظام الدولي – كانت ماتزال حتى ذلك التاريخ متوترة، وهو ما يعني أن المكاسب التي يمكن أن تجنيها من الهيمنة الأمريكية على منطقة الخليج تكاد تكون معدومة، وفي نهاية المطاف فإن استبدال عدو ضعيف (العراق) بعدو قوي (أمريكا) أمرٌ لا يبعث على الطمأنينة.
انتصرت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة على القوات العراقية وأخرجتها من الكويت، ومع انهيار الاتحاد السوفيتي، كانت النشوة الأمريكية في أوجها، وخرج الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الأب في حينها يروج للنظام العالمي الجديد الذي تحتل فيه أمريكا مركز الزعامة بلا منازع، رأت إدارة بوش أن الظروف الإقليمية والدولية مواتية لوضع حد للصراع الأطول والأعقد في الشرق الأوسط والدائر بين العرب وإسرائيل، دعت لمؤتمر سلام دولي في مدريد في تشرين ثاني من العام 1991، وتمت التجهيزات على الفور، وأُرسلتْ الدعوات لحضور المؤتمر إلى جميع الدول في المنطقة إلا إيران – وهنا المفاجأة – فقد استبعدت.
تفاجأ الإيرانيون من هذا الاستبعاد وشعروا بخيبة الأمل، فقد أمِلوا أن تشكل سياساتهم البناءة منذ استلام الرئيس هاشمي رفسنجاني السلطة رافعة لإعادة اندماجهم في المجتمع الدولي خصوصًا وأنهم باتوا يشعرون بأهميتهم الإقليمية بعدما تحرروا من ويلات الحرب، لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، فقد تم استبعاد الإيرانيين أيضًا من الترتيبات الأمنية لمنطقة الخليج ما بعد تحرير الكويت، لطالما أصر الإيرانيون وطوال عهودهم السابقة على حقهم في المشاركة في أي ترتيبات أمنية وسياسية تخص منطقة الخليج التي يشكلون فيها الدولة الأكبر والأكثر قوة من بين جميع دول.
تم إنشاء مجموعة 6+1 (دول مجلس التعاون الخليجي وسوريا ومصر) لمنظمة أمنية للحفاظ على أمن الخليج، واعتبر الإيرانيون هذا الأمر محاولة من الدول العربية لإضافة الصفة العربية على منطقة الخليج ككل، وفسروا ذلك على أنه اعتداء على المصالح الإيرانية السياسية والأمنية.
لم تصمد مجموعة 6+1 طويلاً، فقد بدأت كل من مصر وسوريا بسحب قواتها من الكويت والسعودية في أيار من العام 1992، ولكن هذا لم يجلب الطمأنينة للإيرانيين، فسرعان ما ذهبت الممالك الخليجية إلى توقيع معاهدات أمنية مع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، بما يضمن وجودًا كبيرًا للقوات الأجنبية على أراضيها.
كانت النتائج التي توصل إليها الإيرانيون واضحة، فقد اعتبروا أن عملية السلام بين العرب وإسرائيل، والترتيبات الأمنية بين العرب والولايات المتحدة تهدف إلى عزل إيران، لم يشعر الإيرانيون بالأمن في ظل تشكل نظام جديد في الشرق الأوسط بغيابهم، هذا بالإضافة إلى أن إيران كانت في حاجة ماسة للاستثمارات من أجل دفع عجلة اقتصادها، وما لم تنخرط في هذه الترتيبات السياسية الجديدة، فإن مستوى هذه الاستثمارات سيكون متدنيًا، وفي ظل أوضاع اقتصادية متردية، كان القادة الإيرانيون من أصحاب العمائم في خشية حقيقية على مصيرهم.
أما وقد تم استبعادهم، فقد وصل الإيرانيون إلى قناعة بأن الطريقة الوحيدة التي من شأنها إخراجهم من العزلة تكمن في تخريب عملية السلام، وقلب الطاولة على الجميع، وبما أن القضية الفلسطينية هي العمود الفقري لعملية السلام، فلا بد إذن من البدء بها، فكيف كانت المقاربة الإيرانية في تخريب عملية السلام باستخدام القضية الفلسطينية كأداة؟! هذا ما سوف نعرج عليه في المقال القادم من هذه السلسلة.