في الثامن من أغسطس الجاري، وقع في مدينة “كويتا” الباكستانية، حدثًا أمنيًّا مزدوجًا يتجاوز في إطاره ومستهدفاته، الأثر السياسي والأمني المتعارف عليه في مثل هذه الأحداث التي باتت شبه يومية في أكثر من بلدٍ عربي ومسلم، ومن بينها باكستان وأفغانستان.
في صبيحة ذلك اليوم، قُتِل رئيس جمعية المحامين في بلوشستان بلال أنور قاسي، رميًا بالرصاص، وعندما توجه مئات من القضاة والمحامين إلى المستشفى الحكومي في منطقة “كويتا” الواقعة في إقليم بلوشستان غرب باكستان، للتنديد بمقتله؛ وقع تفجير انتحاري أعقبه إطلاق نار، راح ضحيته ما يقرب من مائة قتيل ومثلهم من المصابين، ومعظم القتلى كانوا من المحامين والقضاة.
إعلان المسؤولية عن الحادث، تواتر بين “حركة الأحرار” التابعة لحركة طالبان باكستان، وبين تنظيم “داعش”، بحسب وكالة الأنباء الألمانية، وموقع “بي. بي. سي. عربية”، ووكالات أنباء أخرى، بينما قال البعض إن داعش تبنت فقط عملية اغتيال قاسي، بينما التفجير وإطلاق النار على المحامين والقضاة من تدبير جهات أخرى.
إلا أن تصريحات مسؤولين عسكريين ومدنيين باكستانيين، ألقت بعض الأضواء على جوانب جديدة للعملية المزدوجة التي تمت.
من بين هؤلاء، رئيس أركان الجيش الباكستاني الجنرال راحيل شريف، ورئيس الوزراء المحلي لإقليم بلوشستان، بالإضافة إلى رئيس مجلس الشيوخ رضا رباني، واتهموا المخابرات الهندية بالتورط في الأمر.
شريف أشار إلى أن الهند تريد تخريب مشاريع اقتصادية ضخمة تبلغ قيمتها 46 مليار دولار بدأتها الصين في إقليم بلوشستان، وتخشى نيودلهي أن تؤثر سلبًا على اقتصادها، وقال: “محاولة لزعزعة الأمن في الإقليم واستهداف لمشروع الممر الاقتصادي بين باكستان والصين”.
وفي حقيقة الأمر، فإن الأحداث التي جرت في بلوشستان مؤخرًا، فتحت المجال أمام أحد أهم ملفات صراعات المصالح في العالم، والذي أطرافه تتجاوز الصين والهند، أكبر دول العالم سكانًا، وأحد أكبر الأمم الصاعدة في عالم اليوم في مجال الاقتصاد والتقنية، إلى آفاق أخرى عبر أوروبا والأطلنطي، في عواصم التحالف الأنجلو ساكسوني.
أزمة بلوشستان وتفكيك الدولة الباكستانية
في هذا الحدث، نحن أمام صورة معقدة، حيث الأمر لا يتعلق بصراع مصالح بين أكبر أمم العالم، ويدور على أرض باكستان، أو أن هذا البلد المسلم الكبير هو أحد أطرافه، وإنما هو يرتبط كذلك في شقٍّ منه بمصير الدولة الباكستانية ذاتها، حيث ترتبط التفجيرات الأخيرة بأزمة أكبر، وهي الحركة الانفصالية الموجودة في هذا الإقليم، والذي يشكل ما يقرب من نصف مساحة البلاد، ويحوز ما يقرب من ثُلثَي سواحل باكستان على بحر العرب.
الخريطة توضح الأهمية الفائقة للإقليم ضمن جيوسياسية باكستان على كل المستويات
فالمحامي القتيل بلال أنور قاسي، كان من أهم المطالبين بانفصال الإقليم، وكذلك من راحوا في التفجير الذي وقع أمام المستشفى الحكومي في ذلك اليوم، كانوا من أهم المطالبين بذلك.
وقد يتصور البعض أنه طالما الحال كذلك، فإن الحكومة الباكستانية قد تكون هي من يقف وراء الاغتيال والتفجير اللذَيْن وقعا في ذلك اليوم، باعتبار أن القتلى هم صفوة حاملي لواء الانفصال بهذا الإقليم الاستراتيجي عن البلاد.
إلا أنه لو تأملنا مختلف جوانب الصورة؛ لوجدنا أن هذا التعامل من جانب الحكومة الباكستانية، سوف يفاقم الأزمة، ويقود إلى حالة من عدم الاستقرار في الإقليم، قد تقود إلى تفكيك فعلي للدولة، في ظل معاناة باكستان من وجود حركات انفصالية وجماعات مسلحة في أقاليم أخرى من البلاد، تتحين الفرصة لأي موقف ضعف تمر به الحكومة الباكستانية، من أجل تحسين موقفها، وتمترسها بالأقاليم التي تتحرك فيها.
ولفهم الأمر، نلقي نظرة على الوضع الجيوسياسي للإقليم.
يُعتبر إقليم بلوشستان من الأقاليم الإشكالية في هذه المنطقة التي تُعتبر إقليم بارود مشتعل دائمًا، فالإقليم تسكنه غالبية موحدة عرقيًّا ومذهبيًّا، وهو البلوش السُّنَّة، بجانب أقليات أخرى، أكبرها البشتون، ولكن هؤلاء يعيشون على الجانب الباكستاني والأفغاني من الإقليم الذي يمتد في ثلاث دول، وهي: باكستان وأفغانستان وإيران، إلا أن غالبيته العظمى تقع في باكستان وإيران، وهو أحد ستة أقاليم يسكنها سُنَّة تطوق الحدود الإيرانية من كل الجهات: ثلاثة منها يسكنها فُرس سُنَّة، والثلاثة الأخرى، هم البلوش والأكراد والتركمان.
خريطة توضع موضع إقليم بلوشستان الغربي في إيران ضمن أقاليم السُّنَّة الستة في هذا البلد
وفي العام 2005م، ظهرت حركة انفصالية مسلحة ضد إيران، وهناك تقارير تشير إلى أنها كانت مدعومة من بعض الأطراف في الخليج العربي، بالتعاون مع باكستان، مثلما تفعل السعودية في الوقت الراهن مع عرب الأحواز في إقليم عربستان أو الأهواز بالفارسية.
إلا أن السحر لم يلبث أن انقلب على الساحر؛ حيث كان الدعم الباكستاني الخليجي للحركة الانفصالية في إيران، تستهدف منه إسلام أباد، ضم باقي أراضي إقليم بلوشستان الواقعة في إيران، إلا أن الذي حدث هو أن الحركة الانفصالية امتدت إلى باكستان بعد أن قام الإيرانيون بضبط الأوضاع في الجانب الواقع عندهم.
وفي الأصل، كان القرار خاطئًا كغالبية قرارات الحكومات العسكرية التي أدت إلى فشل الدولة في باكستان.
فإقليم بلوشستان باكستان في الأصل غير مستقر في تبعيته للدولة الباكستانية، فبعد استقلال باكستان عن الهند، عقدت باكستان اتفاقًا مع حاكم إقليم بلوشستان الشرقية أحمد الزاهي، وهو آخر ملوك بلوشستان الشرقية، يتم بموجبه ضم الإقليم إلى السيادة الباكستانية، على أن يكون شكل العلاقة في صورة إقليم ذاتي الحكم، فتختص الحكومة المركزية في إسلام أباد بشؤون الدفاع والخارجية، فيما يحكم البلوش الإقليم بأنفسهم.
إلا أن إسلام أباد لم تلتزم بذلك الاتفاق، ومارست سيادتها كاملة على الإقليم من دون شراكة من جانب البلوش، وهو ما دعم دعاة الانفصال في الإقليم في العقد الماضي، وتحولت الأمور إلى حركة مسلحة صريحة، فرضت على الحكومة الباكستانية وضع عشرات الآلاف من الجنود في حالة تأهب في الإقليم، وهو ما أنهك الحكومة الباكستانية التي تحارب في أكثر من جبهة داخل البلاد، ولعل أهمها إقليم وزيرستان، وإقليم خيبر بختنوخوا، في ظل وضع اقتصادي سيء.
فتش عن الغرب؟!
الطرف الذي يقف وراء العملية يعلم تمامًا هذه الظروف التي تمر بها باكستان، وتهدد فعليًّا بتفكيك الدولة فعليًّا، حتى ولو ظلت موحدة اسميًّا.
ويميل البعض إلى فرضية تورط بعض الأطراف الغربية والولايات المتحدة والتحالف الأنجلوساكسوني على وجه الخصوص، وهم الطرف الذي بدأ قبل بضعة عقود بالفعل في مخطط إفشال الدولة الباكستانية.
وتم ذلك من خلال فرض منظومة من القرارات والسياسات على الحكومات العسكرية المتعاقبة فيما يخص التعامل مع الملف الأفغاني، وكذلك الجماعات الإسلامية المسلحة في الداخل الباكستاني، بما أدخل الدولة الباكستانية في حالة صراعية دائمة مع مواطنيها، حيث الجماعات الإسلامية هي جزء أصيل من مكوِّن المجتمع الباكستاني.
وهو ما أدى إلى تصدع بنيان الهوية الوطنية للمجتمع الباكستاني، بحيث بات الجيش الباكستاني هو المؤسسة الوحيدة القادرة على ربط أطراف الدولة تحت سيادة الحكومة المركزية، بينما حكومات الأقاليم غير قادرة على فرض سيطرة الحكومة المركزية على هذه الأقاليم، وخصوصًا الأقاليم المتمردة.
ننتقل الآن إلى أحد مكونات الموضوع، وهو المشروعات الصينية في إقليم بلوشستان الشرقية، الباكستاني، وهو ربما يكون صُلب الأزمة الجديدة التي تمس الأمن القومي لهذا البلد المسلم.
منذ فترة بدأت باكستان في توسيع نفوذها في بحر العرب، ولأجل ذلك أخذت سلسلة من الإجراءات من بينها تعبيد بعض المناطق الجبلية، وتوسيع نطاق المنطقة المحيطة بميناء يُعرف بميناء جوادر، ويقعل على بحر العرب، وفي سبتمبر 2013م، خاطبت إسلام أباد لجنة الأمم المتحدة المعنية بإدارة شؤون المياه الدولية، من أجل الحصول 50 ألف كيلومتر مربع إضافي من مياه بحر العرب، لضمها للمياه الإقليمية التابعة لها، للاستفادة من مواردها الطبيعية.
وهو هدف ظلت باكستان تسعى إليه منذ العام 2005م، وفي 2013م، وافقت اللجنة الأممية على تشكيل لجنة متخصصة للنظر في الطلب المقدم من جانب باكستان في هذا الصدد.
ولأجل ذلك، فقد تبنى البرلمان الإقليمي لبلوشستان في ذات الفترة تقريبًا، قرارًا طالب فيه بإعادة إطلاق مسمى “بحر بلوشستان” على الجزء المقابل لسواحل الإقليم على بحر العرب.
وشملت إجراءات الحكومة الباكستانية في ذلك، تحسين الوضع الأمني في إقليمَيْ بلوشستان الذي يضم الميناء المذكور، والسند الذي يضم ميناء كراتشي، الذي يقع في ثاني أكبر المدن الباكستانية، ويحمل الميناء اسمها.
وفي ذات التوقيت قامت الحكومة الباكستانية بتقديم شكوى لنظيرتها الهندية، ثم للأمم المتحدة من أجل وقف تدخلات الهند في إقليم بلوشستان.
وفي مارس 2015م، حصلت باكستان على موافقة الأمم المتحدة بالفعل في موضوع توسيع حدودها الملاحية، بـ50 ألف كيلومتر مربع، في بحر العرب.
مكَّن ذلك باكستان من إتمام سلسلة من الاتفاقيات الاقتصادية بلغت حوالي 51 اتفاقية ومذكرة تعاون، خلال زيارة الرئيس الصيني شي جين بينج، إلى باكستان، في أبريل 2015م؛ حيث قام رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف، بوضع حجر الأساس لخمسة مشاريع في إطار الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني.
هذا الممر يبدأ من مدينة كاشي الصينية، وينتهي في ميناء جوادر الباكستاني، ويمر بأراضٍ متنازع عليها بين الصين والهند، واستولت عليها الصين في الحرب التي وقعت بين البلدَيْن في أكتوبر ونوفمبر من العام 1962م.
خريطة تبين مسار مشروع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني ويبدو أهميته في استراتيجية التوسع الصينية
مشروع الممر الاقتصادي هذا شمل 30 اتفاقية من بين الـ51 المشار إليها، وتبلغ قيمتها حوالي 46 مليار دولار، من بينها 28 مليارًا لمشاريع بُنية تحتية، تتضمن تمويل قيمته 4.3 مليار دولار قدمه البنك الصناعي والتجاري الصيني، لبناء محطة طاقة كهروضوئية بقدرة 900 مليون واط مع شركة “زد. تي. إي” للطاقة، وكذلك مد شبكات طرق وسكك حديدية وخطوط أنابيب للنفط.
هذه الملابسات جميعها تضع الكثير من المشتبه بهم في الصورة، فهناك الهند التي تنافس الصين في هذه الأصقاع، ولم تنس لها أبدًا أنها قد استولت على إقليم التبت في حرب الستينات.
وهناك الغرب الذي يسعى جاهدًا إلى تفكيك باكستان، أول دولة مسلمة تمتلك سلاحًا نوويًّا، وتشكل ضمانة مهمة للغاية للأمن القومي لدول الخليج العربي السُّنِّية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية التي استثمرت الكثير في الجيش الباكستاني، وفي برنامجه النووي.
ولعل بواعث الغرب أكبر في هذا الملف، فبجانب تفكيك الدولة الباكستانية، هناك كذلك تنافسه الشديد مع الصين على المصالح الحيوية في مجال الطاقة والنقل البري والبحري، تمثل مشروعات الممر الصيني الباكستاني، أحد أهم صور القلق الغربي منها، فمن شأنها أولاً منح الصين موطئ قدم في مناطق نفوذ أنجلوفونية، وترى فيها الولايات المتحدة مجالاً حيويًّا لها لا يجوز الاقتراب منه.
كما أنه من شأنه دعم مركز الصين في مناطق جنوب آسيا، بحيث لو جمعنا بعض الأجزاء البعيدة للصورة، متمثلة في الأزمة القائمة بين بكين وواشنطن بشأن توسع الصين في مناطق شرقي آسيا، وأهم ملامحها أزمة بحر الصين الجنوبي، حيث قامت بكين بتعزيز تواجدها العسكري في بحر الصين الجنوبي، وخصوصًا في البحر والمجال الجوي حول جزر سبراتلي المتنازع عليها بين عدد من دول الإقليم والصين، ضمن مناطق أخرى هناك، ردًّا على حكم أصدرته هيئة تحكيم في لاهاي، في 12 يوليو الماضي، في طعن تقدمت به الفلبين في حق الصين في استغلال الموارد الطبيعية في تلك المناطق، وهو ما انتقدته الولايات المتحدة علنًا.
وبشكل عام لا ينفصل ما جرى في “كويتا” قبل أيام، عن هذا الأمر، لكن لهذا قصة أخرى نرويها في موضع لاحق!