في مؤشر جديد على تحليق سلطنة عمان خارج السرب الخليجي، ها هي الخارجية الإيرانية تعلن رسميًا عن زيادة صادراتها لمسقط خلال الأشهر الماضية بزيادة لم يشهدها تاريخ التبادل التجاري بين البلدين.
مسقط لم تضع في الاعتبار حالة الاحتقان والتوتر بين طهران وبقية دول الخليج لاسيما في سوريا واليمن، فضلاً عما تمثله من تهديد إيديولوجي وعقدي، وباتت – كالعادة – تبحث عن مصالحها الخاصة، والتي ارتأت أنها في تحالفها وتعاونها مع الشريك الإيراني حتى ولو كان على حساب الأشقاء الخليجيين.
“نون بوست” في هذه الإطلالة السريعة يسعى لإلقاء الضوء على النمو غير المسبوق في حجم التجارة بين البلدين، وما يحمله من مؤشرات على مستقبل العلاقات بين مسقط والخليج.
مسقط وسياسة مسك العصا من المنتصف
منذ تولي السلطان قابوس مقاليد الحكم في البلاد عام 1970، وبدأت سلطة عمان في انتهاج سياسة “الحياد” و”مسك العصا من المنتصف” دون النظر إلى مآلات هذه السياسة وانعكاساتها على علاقتها بدول الخليج، وهو ما كشفته التحديات التي واجهت منطقة الخليج خلال الفترة الأخيرة، حيث وقفت دول مجلس التعاون الخليجي صفًا واحدًا ضد كل المخاطر التي هددت أي جزء منها، بدءًا بغزو العراق للكويت، مرورًا بموقف التحالف العربي في مواجهة انقلاب الحوثيين في اليمن، وصولاً إلى مناهضة إيران في توجهاتها الاستعمارية التي تسعى من خلالها إلى تمديد الفكر الصفوي داخل دول المنطقة، لكن كان لسلطنة عمان رأي آخر، حيث ارتأت لنفسها الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف المتنازعة، فلا تقف مع أحد ضد أحد أيًا كان حجم الكارثة، وكان ذلك هو الوجهَ البارز الذي شكل سياسة عمان الخارجية وطبيعة علاقاتها مع جيرانها.
حينما اتخذ مجلس التعاون موقفًا واضحًا حيال قضايا تهم دول المجلس كانت عمان تلزم الصمت والهدوء في مواقفها
والقارئ لسير الأحداث ومواقف دول الخليج حيال القضايا الإقليمية المصيرية يجد أن سياسة “الحياد” فرضت نفسها على القرار العماني في كثير من الأحيان، فحينما اتخذ مجلس التعاون موقفًا واضحًا حيال قضايا تهم دول المجلس كانت عمان تلزم الصمت والهدوء في مواقفها، وعدم الخوض سياسيًا فيما يجري، مع الحفاظ على العلاقات مع الدول الأطراف، وهو ما يفسَّر بشكل آخر بـ “التعاطي البراغماتيكي” في علاقاتها الخارجية مع الدول، على خلاف بقية دول المجلس، فما جرى من دعم خليجي للعراق في حربه ضد إيران لم يسمح لعمان أن تكون ممولاً لطرف ضد آخر، فظلت مبقية على وضع علاقاتها مع إيران والعراق في الوقت نفسه، ومحتفظة بخطوط اتصال حتى لو لم تكن لها مصالح مباشرة، وتكرر الحال مع غزو العراق للكويت؛ إذ لم تشأ سلطنة عمان الاصطفاف المباشر ضد العراق، فحالت سياستها الهادئة دون قطع العلاقات مع العراق، ومع تجدد حالات الاضطراب في المنطقة بعد الربيع العربي تمسكت عمان بخيارها السياسي الذي اقتضى ألا تعادي أو تقرب أي طرف على حساب أطراف دولية أخرى.
التقارب الإيراني العماني
لم تكن سياسة الحياد العمانية مقلقة للخليجيين بشكل كبير، إذ إنها تأتي في إطار القاعدة الفقهية “لا ضرر ولا ضرار”، ومع ذلك لم تكتف مسقط بتلك السياسة التي قبلتها دول الجوار على مضض، بل سعت إلى بناء علاقات قوية مع العدو الأول لأشقائها الخليجيين، وبالرغم من حساسية الموقف ما بين السلطنة ودول الخليج فيما يتعلق بعلاقاتها مع إيران، إلا أن العلاقات العمانية الإيرانية انتقلت في الآونة الأخيرة من إطار السرية والخفاء إلى العلن وتبادل الزيارات والتصريحات الودية بين الجانبين.
فالدور العماني غير المعلن والمستمر لسنوات في محاولة الوصول إلى اتفاق إيران مع الغرب قد آتى أُكله، حيث شكل مسارًا مخالفًا لما كانت تتوجس منه دول الخليج تجاه إيران وبرنامجها النووي، فإيران لم تكف يدها إلى اليوم عن استفزاز دول الخليج والتدخل في بعض شؤونها الداخلية، فضلاً عن دعمها لحركات الاضطراب في اليمن والبحرين، وهو ما تجاهلته مسقط بصورة كاملة، متمسكة بعلاقاتها مع طهران مهما كان الثمن.
كما أن مسقط وخلال الخمس سنوات الأخيرة بشكل خاص، لم تتوقف لحظة عن دعم طهران في شتى ملفاتها الإقليمية بالرغم من الضغوط الخليجية، وهو ما دفع بعض المحللين إلى القول أن السلطنة تعيش بمنأى ومعزل عن دول المجلس، وأنها أكثر تبعية لإيران منها للخليج، مطالبين بخروج عمان من مجلس التعاون.
مسقط وخلال الخمس سنوات الأخيرة بشكل خاص، لم تتوقف لحظة عن دعم طهران في شتى ملفاتها الإقليمية بالرغم من الضغوط الخليجية
الرئيس الإيراني حسن روحاني، وصف العلاقات بين بلاده وعمان بـ “أنها ودية واستراتيجية”، مؤكدًا ضرورة رفع مستوى التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين بما يوازي مستوى العلاقات السياسية بينهما، واصفًا العلاقات بين البلدين والمبنية على أسس الصداقة والإخوة والثقة المتبادلة، بأنها علاقات نموذجية ومثالية في المنطقة وأن طهران ترحب بتنمية وتعميق التعاون الاقتصادي مع مسقط، على حد قوله.
روحاني لم يخف كما فعل قابوس الدور العماني في الملف النووي، مشيدًا بسياسات عمان في مسار ترسيخ السلام والاستقرار في المنطقة، لاسيما مواقفها وتعاونها في سياق حل الملف النووي، ملفتًا إلى أهمية أن يستفيد البلدان من الفرص المتوفرة في أجواء ما بعد الاتفاق النووي لتعزيز التعاون المشترك خاصة في المجالات الاقتصادية.
روحاني طالب بضرورة رفع مستوى التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين بما يوازي مستوى العلاقات السياسية بينهما
الرئيس الإيراني أشاد أيضًا بفرص التعاون بين البلدين في مجالات الاستثمار والطاقة والتبادل التجاري، معربًا عن استعداد بلاده لتوفير التسهيلات للمستثمرين والتجار العمانيين، إضافة إلى تذليل العقبات أمام التجار من البلدين لتبادل الزيارات والتعاون فيما بينهما.
وفي المقابل أشاد وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي، بمبادرة الرئيس الإيراني، متعهدًا بتوسيع ورفع مستوى التعاون مع طهران، ومؤكدًا أن الإمكانيات والطاقات الاقتصادية لإيران وعمان يمكن استخدامها في مسار تعزيز العلاقات بينهما.
الوزير العماني أشار أيضًا إلى أن التسهيلات الممنوحة للتجار الإيرانيين تسمح لهم ببناء عشرات المشروعات والبرامج الاقتصادية والاستراتيجية داخل البلاد، مختتمًا حديثه بأن اقتصاد البلدين مكمل أحدهما للآخر، وهو الأمر الذي يوفر الأرضية لتطوير التعاون المشترك في سياق مصالح الشعبين.
161% زيادة في حجم الصادرات الإيرانية لعمان
بالرغم من ارتفاع درجات التوتر في ترمومتر العلاقات الإيرانية الخليجية، لاسيما بعد التعنت الإيراني في اليمن وسوريا، إلا أن مسقط أبت إلا أن تواصل التغريد خارج السرب، حيث كشف مساعد مؤسسة تنمية التجارة الإيرانية محمد رضا مودودي عن زيادة حجم صادرات إيران لسلطنة عمان بنسبة 161% خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي، مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، وهو ما كان مفاجأة للكثيرين من المحللين الخليجيين.
مودودي لم يكتف بهذه الزيادة التاريخية فحسب، بل عبر عن أمله في الحصول على حصة أكبر في السوق العمانية نظرًا إلى الطاقات الموجودة لتنمية التعاون مع هذا البلد، وتنفيذ خطة العمل المشترك الشاملة، بحسب وكالة الأنباء الإيرانية “إرنا”.
صادرات إيران لسلطنة عمان زادت بنسبة 161% خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي
كما أعلن رسميًا عن زيارة وفد تجاري إيراني للعاصمة العمانية مسقط خلال الشهر المقبل بهدف البحث عن فرص استثمارية جديدة وآليات تنمية الصادرات الإيرانية والتسويق لمنتجات بلاده هناك، لاسيما وأن هذه الزيارة تتزامن مع إقامة المعرض الدولي الـ11 للمنتجات الغذائية وإدارة الفنادق والمعرض السادس والمؤتمر الدولي للأجهزة والخدمات الطبية في مسقط، بما يمثل فرصة كبيرة للقطاع الخاص الإيراني للاستفادة من الطاقات الموجودة في صناعة السياحة خاصة السياحة الطبية، معتبرًا أن سلطنة عمان “السوق الأنسب” للمنتجات والصناعات الغذائية الإيرانية في الفترة القادمة، على حد قوله.
ويبقى السؤال: في ظل تضييق الخناق الخليجي على إيران لاسيما فيما يتعلق بالتعاون الاقتصادي، هل باتت مسقط هي السوق الأفضل لطهران لتسويق منتجاتها وصادراتها، بما يساعدها على الإنفاق لدعم الحوثيين في اليمن ونظام الأسد في سوريا؟ وما انعكاسات هذا الدعم العماني المتواصل لإيران على مستقبل العلاقات مع دول الخليج؟