يُثير مستقبل الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط تساؤلات بين أبناء هذه المنطقة الذين انقسموا بين فريقين يرى كل منهما شكلًا متوقعًا لهذا الدور مستقبليًا، ومن أهم تلك الرؤى والأطروحات القول بأفول المستقبل الأمريكي في المنطقة وصراعاتها، وأن الولايات المتحدة متجهة نحو انسحاب اختياري بعدما فقد الشرق الأوسط محوريته لدى مصالحها الاستراتيجية، وأن ثمة ما هو أهم ترتب له أمريكا في بقع جغرافية أخرى.
الاتجاه المعاكس يخالف هذه الرؤية ويرى أن الولايات المتحدة لن تستطيع الانسحاب الاختياري من المنطقة بعدما بنت تحالفات لمصالحها الاسترايجية منذ عقود، وهذا الانسحاب المفاجئ ربما يتسبب في انهيار وفوضى غير متوقعة، كما يبدو وأنه سيتسبب في تمدد قوى أخرى على حساب الدور الأمريكي.
بين هذا وذاك يجب معرفة رؤية كيان دخيل على هذه المنطقة لكنه يتمتع بقوة استراتيجية كبيرة للدور الأمريكي المستقبلي، وهو كيان الاحتلال الإسرائيلي، الذي كان تأمين زرعه في المنطقة أحد الأهداف الاستراتيجية الأمريكية الكبرى لسنوات عديدة، وهذه العلاقة بين الطرفين تعطي أهمية كبيرة لمعرفة وجهة النظر الإسرائيلية في مستقبل الدور الأمريكي بمنطقة الشرق الأوسط.
كيف تنظر دولة الاحتلال لدور الولايات المتحدة المستقبلي؟
يتفق خبراء إسرائيليين على انحسار الدور الأمريكي الفترة الأخيرة في المنطقة، وهو ما نقلته صحيفة جيروزاليم بوست العبرية، حيث لاحظت سطوع نجم قوى أخرى على حساب الولايات المتحدة في بقع الصراع المشتعلة.
الكيان الاسرائيلي ومعه مصر والسعودية وتركيا، ينظرون للجيش الروسي في المنطقة على أنه النجم الصاعد الفترة المقبلة
تقول الصحيفة نقلًا عن مسؤولين إسرائيليين إن روسيا تسعى جاهدة لضرب التحالفات الأمريكية في الشرق الأوسط، لاسيما تحالف واشنطن مع حلفائها التقليديين، وهم إسرائيل وتركيا والسعودية.
وأكدت الصحيفة أن الكيان الاسرائيلي ومعه مصر والسعودية وتركيا، ينظرون للجيش الروسي في المنطقة على أنه النجم الصاعد الفترة المقبلة، على حساب أفول التواجد والدور الأمريكي.
ونوهت إلى أن الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط لن يكون وحيدًا، إذ تسعى الصين أيضًا للاستثمار في ضعف الدور الأمريكي في المنطقة الغنية بالنفط، لتعزيز مكانتها، وهذا ما كشفته الوكالة الصينية للأنباء (شينخوا) والتي تحدثت عن تواجد وفد عسكري صيني رفيع المستوى لتقديم الدعم للجيش السوري في الحرب السورية.
كما يعتقد الإسرائيليون أن أحد مظاهر هذا الضعف الأمريكي وفي مقابله الصعود الروسي وجود الطائرات الحربية الروسية في إيران، والذي تنظر إليه تل أبيب بعين الريبة والقلق مستقبلًا.
وبالرغم من الإشارات المتكررة لدى تل أبيب وواشنطن بأنهم على دراية بأهمية تطوير التعاون بين طهران وموسكو، فإن التحالف الأمريكي الإسرائيلي التقليدي لا زال يشعر بخطر وقوة إقامة تحالف استراتيجي بين روسيا وإيران، لما له من آثار عالمية خارج حدود المنطقة.
ولكن وجهة نظر أخرى بدأت تنبت وهي معتمدة على فكرة احتواء إيران من حليف لإسرائيل كموسكو بعيدًا عن الولايات المتحدة التي تحاول هي الأخرى كسب ود إيران في المنطقة عقب إنجاز الاتفاق النووي مع الغرب والذي لم ترض عنه دولة الاحتلال الإسرائيلي تمامًا.
منطقة غير مستقرة
لا شك وأن النظام الإقليمي في الشرق الأوسط في حالة تغير مستمرة، فهذه المنطقة لم تتسم بالاستقرار نتيجة الاضطرابات الداخلية والنزاعات بين دولها، والتنافس بين القوى العظمى.
في حين تشهد الآن المنطقة دخول لاعبين جدد إلى حلبة هذا الصراع كالقوتين التركية والإيرانية، وهو ما سينعكس بتأثير عميق على المعادلات السياسية في المنطقة، وكذلك على الفواعل الإقليمية التقليدية.
ربما تستعين دولة الاحتلال في هذا الأمر بـ “سياسة أمريكية صرفة”، وهي الجمع بين المتناقضات بسهولة، وإدارتها، والتعامل بمرتكزات سياسية غير معلنة
وبالتزامن مع هذا تنظر دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى تدهور المكانة الدولية لدول المنطقة في ظل كثرة الصراعات والحروب، وظهور فواعل في الإقليم على هيئة جديدة من غير الدول بشكل المليشيات وجماعات الضغط التابعة لأجندات إقليمية.
وعليه فإن هناك تخوف لدى الإسرائيليين مع كل هذه الطوارئ التي تعيشها المنطقة أن تتغير جذرية مسألة “حفظ أمن إسرائيل” في السياسة الأمريكية الجديدة التي ستتعامل مع الإقليم، فمن المعروف أن “أمن إسرائيل” بمفهوماته المتعددة كان حجر زاوية أمريكي في المنطقة في وقت ما، ومع الارتباك الحادث تريد إسرائيل أن تضمن هذا “الأمن” ولو بإقامة تحالفات أخرى بعيدة عن الحليف الأمريكي التقليدي.
وربما تستعين دولة الاحتلال في هذا الأمر بـ “سياسة أمريكية صرفة”، وهي الجمع بين المتناقضات بسهولة، وإدارتها، والتعامل بمرتكزات سياسية غير معلنة، كأمر التعاون مع الأسد في سوريا أحيانًا من خلال وسيط روسي، وفي نفس الوقت تحجيم سلاح حزب الله وإنهاكه في الحرب السورية، لذا يمكن اعتبار التعامل الإسرائيلي مع الأزمة السورية بداية سياسة إدارة المتناقضات بعيدًا عن واشنطن.
من سيقود المنطقة خلفًا للولايات المتحدة؟
النمط القيادي الأكثر ترجيحًا في المنطقة من وجهة نظر إسرائيلية هو غياب بروز دولة أو مجموعة دول (قطب) تهيمن علي الشرق الأوسط بسبب عدم توافر أغلب مقومات القوة في دولة بعينها، إلي جانب عدم رغبة وقبول كل دولة بصعود دولة أخرى، وقيادتها للمنطقة.
والواقع يؤيد ذلك، وليس انحسار الدور الأمريكي في المنطقة يعني أنها ستتخلى عن دور الكابح لكل طموح إقليمي مستقل، لأنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تكون في الشرق الأوسط قوة مستقلة استراتيجيًا عن المنطق الأمريكي، وهذا ما تدركه إسرائيل جيدًا، وعليه تقوم بعقد تحالفات على حسب أوزان القوة مع الدول المختلفة في الإقليم، وتحييد وتقزم دول أخرى كما يحدث مع مصر.
إسرائيل تتعامل مع المستقبل الأمريكي الجديد، بلعب دور قوي في قيام هندسة شرق أوسطية تنافسية تحيد فيها الدول الأخرى
كما ترى أنه يمكن أن تقبل بهندسة إقليمية جديدة لا تكون الولايات المتحدة فيها فاعلًا رئيسيًا، ولا يعني هذا في نفس الوقت السماح بصعود قوى إقليمية تتجاوز السقف الأمريكي القديم، لأن المصالح الأمريكية والإسرائيلية لن تختفي في المنطقة، وستبقي مؤثرة في مستقبل تعامل الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط للحسابات التقليدية نفسها (ضمان تدفق النفط، وأمن إسرائيل، ومكافحة الإرهاب).
وعليه فإن إسرائيل تتعامل مع المستقبل الأمريكي الجديد، بلعب دور قوي في قيام هندسة شرق أوسطية تنافسية تحيد فيها الدول الأخرى، بالتزامن مع تحول الولايات المتحدة الاستراتيجي من الشرق الأوسط نحو آسيا والمحيط الهادي، وهو ما لا يعني مطلقًا التخلي الكلي عن الاهتمام بالمنطقة، كما يمكن قراءة التقاعس الأمريكي الحالي تجاه المنطقة بالتقاعس الظرفي الذي ينتهي بترتيب النظام الإقليمي الشرق أوسطي، والكيان الإسرائيلي يحرص على ألا يؤثر هذا التغيير الأمريكي عليه بشكل كبير.