قد يتعجّب البعض من استخدامه ذلك التعبير في وصف إنجازٍ كبيرٍ كهذا! ولكن حين نعلم بأنّ الحصيلة الكليّة لفيلبس خلال مشاركاته الأوليمبيّة ال4 بلغت: 28 ميداليّةً بينها 23 ذهبيّة، فسيختفي العجب تمامًا!
كيف استطاع البطل الأسطوريّ تحقيق ما بدا مستحيلًا طيلة قرن ونيّف من الزّمان؟ وكيف مضت قصّة حياته بين طفولةٍ مضطربةٍ نُعت فيها بالفشل والغباء، وفتوّةٍ لاهيةٍ موصومةٍ بالمشاكل والحماقات؟ ومن هم أصحاب الفضل في انتشال ذلك البطل من مستنقع اليأس والضياع، وإعادته إلى منصّات التتويج والبطولات؟ هذا ما سنعرفه لدى متابعة قصّة حياة أعظم بطلٍ أنجبته دورات الألعاب الأوليمبيّة الصيفيّة على مدى تاريخها.
الدولفين البشريّ مايكل فيلبس
كشأن عباقرةٍ وعظماء من وزن توماس إديسون وألبيرت آينشتاين وبيل غيتس وغيرهم، عانى الطفل الخجول ذو الملامح الغريبة مايكل فريد فيلبس، المولود في مدينة بالتيمور بولاية ماريلاند الأمريكيّة في 30 يونيو 1985، من سخرية واضطهاد زملائه في المدرسة، فنُعت بالأبله والمعتوه، وصاحب الأذنين الكبيرتين والذراعين الطويلتين، ولم يقتصر ذلك الاضطهاد على زملائه فحسب، بل طال أساتذته ومدرّسيه، الذين لم يروا فيه أكثر من تلميذٍ بليدٍ مشاغبٍ لا يستطيع التركيز ولا يتقن القيام بشيء!
كان لهذه الكلمات والعبارات القاسيّة أثرها العميق في شخصيّة الطفل مايكل، ثالث أولاد أسرة فيلبس، المكوّنة من أبٍ يعمل في سلك الشرطة، وأمٍّ تعمل كمعلّمة مدرسة، وطفلتين تكبران مايكل ببضعة سنوات، فنشأ مشوّش الذّهن مضطرب الفؤاد، ممّا جعله طفلًا متمرّدًا مرتبك الأهواء، شيمته الطيش واللا مبالاة، وزاد الطّين بلّةً حادثة انفصال والديه وهو ابن 9 سنوات، وما تركته في نفسه من حقدٍ وغلٍّ تجاه الأب القاسي، الذي ترك زوجته وأبناءه يعاركون خضمّ الحياة دون عمادٍ يشدّ أزرهم، ولكنّ حكمة السيّدة (ديبي) والدة مايكل وقوّة شخصيّتها، حالت دون تشتّت العائلة وضياعها، كما حالت دون غرق ابنها مايكل في مستنقع الفشل واليأس المبكّر، حيث عرضته على طبيبٍ نفسيٍّ لتدرك داءه، فأخبرها بأنّه يعاني من اضطراب نقص التركيز نتيجة فرط الحركة، ونصحها باللجوء إلى الرياضة ليفرّغ من خلالها شحنته الحركيّة الزائدة.
ومع رياضة الجري كانت بداية مايكل مع الرياضة، ولكنّ النتيجة لم تكن مشجّعة، حيث لم يشعر تجاهها بأيّ شغف، فلم يُدرك الأمّ الشجاعة أيّ كللٍ أو ملل، بل أرسلته رفقة شقيقتيه (تيني وهيلاري) إلى أحد أندية الرياضات المائيّة ويُدعى (نادي شمال بالتيمور)، علّه يجد ضالّته في رياضة السباحة، وهناك التقى مايكل بمدرّبه (بوب باومان)، الذي لعب دورًا كبيرًا في حاضره ومستقبله، فقد آمن بموهبته وراهن عليه، وأوقد جذوة الأمل والرجاء لديه ولدى والدته، عندما أخبرها بأنّ لدى ابنها موهبةٌ نادرةٌ، وبأنّه مشروع بطلٍ أوليمبيٍّ عظيم!
فيلبس مع مدرّبه بوب باومان
واتّخذت حياة مايكل منذ ذلك اليوم منحىً مغايرًا، فقد لعب مدرّبه دور الأب الغائب، فتولّى نصحه وإرشاده على الصعيدين الشخصي والرياضي، فتابع ابن ال11 عامًا حياته الدّراسيّة بنفَسٍ جديد، بالتوازي مع حياته الرياضيّة، واستطاع تحقيق أوّل نجاحاته الرياضيّة مبكّرًا جدًّا، عندما سجّل رقمًا خوّله المشاركة في منافسات دورة سيدني للألعاب الأوليمبيّة عام 2000، حيث كان ابن ال15 عامًا أصغر المشاركين سنًّا في منافسات السباحة الأوليمبيّة، وبعدها بعامٍ واحدٍ فقط استطاع مايكل جذب أنظار العالم إليه، عندما توّج بذهبيّة سباق 200م فراشة، في أولى مشاركاته في بطولة العالم للسباحة، والتي كانت في فوكوكا عام 2001.
وتوالت نجاحات مايكل على كافّة الصعد، فأنهى دراسته الثانويّة بتفوّق عام 2003، دون أن يثنيه ذلك عن التفوّق الرياضي، حيث أحرز 4 ميداليّاتٍ ذهبيّةً واثنتين فضّيتين في بطولة العالم للسباحة ببرشلونة عام 2003، قبل أن يفتتح رصيده الأوليمبيّ الزاخر بشكلٍ مبهر، عندما أحرز 6 ميداليّاتٍ ذهبيّةً وبرونزيّتين في أوليمبياد أثينا عام 2004، ليبلغ الشّاب عنان السّماء وهو لم يكمل ال20 من عمره!
ويبدو أن الشهرة المبكّرة والنجاح السريع الذي بلغه الشاب مايكل، قد حرّك في نفسه نوازع الطّيش والرعونة، فأقدم على حماقةٍ دفع ثمنها غاليًا، عندما ألقي القبض عليه في نوفمبر من عام 2004، وهو يقود سيّارته مخمورًا في شوارع منطقة سالزبيري بولاية ميريلاند، وحُكم عليه حينها بغرامةٍ قدرها 250 دولارًا، فضلًا عن عقوبة الخدمة العامّة مدّة 18 شهرًا، حيث قام بإلقاء محاضراتٍ في إحدى الجمعيّات المدنيّة عن مخاطر الخمور في حياة الشّبان!
وبفضل عشقه للسباحة وشغف الشّاب المتعطّش لمزيدٍ من الشهرة والأضواء، استطاع فيلبس تجاوز كبوته سريعًا، فعاد إلى أحواض السباحة العالميّة بقوّة، ليحصد 5 ذهبيّاتٍ وفضّيةً في بطولة العالم للسباحة بمونتريال عام 2005، ويعزّزها ب7 ذهبيّاتٍ جديدةٍ في البطولة التالية بملبورن عام 2007، قبل أن يحقّق ما بدا مستحيلًا خلال عقودٍ خلت، عندما أحرز 8 ميداليّاتٍ ذهبيّةً خلال مشاركته في أوليمبياد بكّين عام 2008، كاسرًا الرقم القياسيّ العالميّ في عدد الميداليّات الذهبيّة التي حقّقها رياضيٌّ خلال دورةٍ أوليمبيّةٍ واحدة، والمسجّل باسم مواطنه السبّاح مارك سبيتز في أوليمبياد ميونيخ عام 1972.
وتابع البطل الشاب تسطير ملاحم أسطورته، فأحرز 5 ذهبيّاتٍ وفضّيةً في بطولة العالم للسباحة بروما عام 2009، وأتبعها ب4 ذهبيّاتٍ وفضّيّتين وبرونزيّةً في شنغهاي عام 2011، ليرفع رصيد مشاركاته في بطولات العالم للسباحة إلى 33 ميداليّةً، بواقع 26 ذهبيّةً و6 فضّياتٍ وبرونزيّة، قبل أن يكمل معالم رسم أسطورته بإحرازه 4 ميداليّاتٍ ذهبيّةً وفضّيتين خلال مشاركته في منافسات أوليمبياد لندن عام 2012، رافعًا رصيده الأوليمبي من الميداليّات البرّاقة إلى 22، ومتخطّيًا رقم أسطورة الجمباز السوفييتيّة لاريسيا لاتينينا، الذي حقّقته في ستينيّات القرن الماضي، والبالغ 18 ميداليّةً أوليمبيّة.
وبعد نهاية مشاركته الأسطوريّة في لندن عام 2012، أعلن فيلبس اعتزاله السباحة بقوله: (لم يعد لديّ ما أقدّمه للرياضة فقررت التنحّي)، ومع اعتزاله انغمس مايكل تمامًا في حياة اللهو والعبث التي لم يكد يفارقها، فأصبح زبونًا دائمًا لخمّارات بالتيمور، كما نشرت له بعض الصحف صورًا وهو يتعاطى مخدّر الماريجوانا، قبل أن تقع الطّامّة الكبرى في سبتمبر من عام 2014، حين تعرّض فيلبس للاعتقال مرّةً أخرى، وذلك عندما ضبطته الشرطة وهو يقود سيّارته مخمورًا، حيث قضى ليلتين في التوقيف، قبل أن يخرج بكفالةٍ ويوضع تحت المراقبة.
لم تكن المصيبة في الحادثة بحدّ ذاتها، بل كانت في الآثار النفسيّة الرهيبة التي سبّبتها لفيلبس، الذي يقول عن ذلك:
(لقد كانت المرّة الثانية التي أخيّب فيها ظنّ من أحبّوني بمشاكلي وحماقاتي، وقد شعرت بأنّها الضربة القاضية ورأيت أنّ أفضل ما يمكنني القيام به هو إنهاء حياتي!)
فيلبس بصحبة صديقه لاعب الكرة الامريكية رين لويس
نعم صدّقوا! لقد كان الانتحار هو النهاية المأساويّة التي تنتظر البطل الأسطوري، لولا وقوف صديقه الحميم وابن مدينته لاعب كرة القدم الأمريكيّة الشهير (رين لويس) بجانبه، حيث استطاع لويس بمساعدة أمّ مايكل ومدرّبه، إقناعه بأن يلجأ للعلاج في منشأةٍ لإعادة التأهيل بمدينة فينيكس، وهناك قضى فيلبس 45 يومًا خضع خلالها لجلسات علاجٍ نفسيٍّ مكثّفة، كما ساعده كتابٌ أهداه إياه صديقه الوفيّ رين لويس بعنوان (الهدف من الحياة)، في العودة إلى جادّة الصواب، حيث فتح صفحةً جديدةً من حياته بعيدًا عن حياة اللهو والمجون، وقريبًا من الأشخاص الذين أحبّوه ووقفوا معه في محنته، لينتفض البطل من جديد، ويوقظ المارد الذي في داخله، معلنًا عودته عن الاعتزال ونيّته المشاركة في أولمبياد ريو دي جانيرو عام 2016.
فيلبس يحيّي الجماهير بتأثرٍ بعد إعلانه الاعتزال النهائي في ريو
وفي الريو، لم يتوقّع أشدّ المتفائلين بفيلبس أن يعود بتلك القوّة، وهو الذي كان على حافّة الانتحار يأسًا قبل أقلّ من عامين! ولكنّ الإرادة تصنع المعجزات! والشغف لا يعرف المستحيل! وإصرار مايكل على كتابة السطر الأخير من مسلسل أسطورته بأحرفٍ من ذهب، أنسى عشّاقه هفواته السابقة وكبواته الماضية، وتوّجه في أعينهم بطلًا استطاع الانتصار على نفسه قبل أن ينتصر على خصومه، فاستحقّ أن يكون أسطورةً خالدةً يُحتذى بها.