شهدت إستراتيجية حزب الله، في السنوات الثلاثة الأخيرة من الحرب السورية، تغييرا جذريا، انتقل فيه الحزب اللبناني من إستراتيجيته التقليدية المتمثلة في حرب العصابات، التي ميزت المعارك التي خاضها في العقود الأخيرة، إلى إستراتيجية الحرب المباشرة التي تعتمد عليها الجيوش النظامية.
وسمحت القوات النظامية للجيش السوري لمجموعات حزب الله في الحرب السورية، باستغلال الدبابات والأسلحة الثقيلة، خلال المعارك الإستراتيجية، وتشير بعض التقارير إلى أن عناصر الحزب تمتلك أيضا بعض مدرعات 75 الخاصة بها.
أصبح بعض النقاد يميلون إلى الاعتقاد بأن حزب الله “قد تحول إلى جيش بكل ما تحمله الكلمة من معنى”، على حد تعبير الكاتب في صحيفة هآرتس، آموس هارل. بينما ذكر نور سماحة، الكاتب في صحيفة فوراين بوليسي “أن إسرائيل لديها ما يكفي من الأسباب لتشعر بالقلق من استعمال حزب الله للمهارات التي تلقاها في سوريا خلال أول مواجهة قادمة له مع إسرائيل”، ومحاربة الجيش الإسرائيلي بالطرق التقليدية.
يبدو الاحتمال الأخير مستبعدا، فإسرائيل لا زالت تتمتع بقوة عسكرية أكبر من حزب الله، ولذلك لن يتوقف هذا الأخير عن اعتماد إستراتيجية حرب العصابات التي أثبتت نجاحها في مواجهة القوة العسكرية الكبيرة للجيش الإسرائيلي. وإذا دخل حزب الله في مواجهة عسكرية تقليدية مع إسرائيل، فإن ذلك سيؤدي، حتما، إلى هزيمة الحزب الشيعي.
وشارك حزب الله في الحرب السورية منذ بدايتها تقريبا في سنة 2011، ولكن بداية من سنة 2013، قام الحزب بتغيير إستراتيجيته التقليدية التي أصبحت تقتصر على مواجهة المعارضين السوريين.
ثم دخل حزب الله في حرب مفتوحة في سوريا، لعب فيها دورا رئيسيا على الخطوط الأمامية، للسيطرة على المناطق الإستراتيجية والتصدي لهجمات خصومه. وشارك في مناورات مشتركة مع القوات الإيرانية الخاصة والقوات الروسية والسورية، وقد قاد بعض عناصر حزب الله معارك عديدة على الأراضي السورية.
وبالرغم من أن حزب الله اكتسب مهارة وقوة متزايدة خلال مشاركته في الصراع السوري، إلا أنه لا زال غير قادر على تعديل موازين القوى العسكرية بينه وبين إسرائيل في المنطقة. وقد أكد الجيش الإسرائيلي رغبته في استغلال “هذا التباين الشديد في القوى بالطريقة المثلى” من أجل تحقيق النصر على المجموعة التي استعصت عليها في الماضي.
إن الخطة الجديدة التي سيتبعها الجيش الإسرائيلي خلال المواجهة القادمة مع حزب الله اللبناني، تدعى “طريقة جدعون”، التي تقوم على النشر السريع والمباشر للقوات البرية والجوية والبحرية، بالتوازي مع القيام بهجمات افتراضية.
وتعتمد الإستراتيجية الجديدة لإسرائيل على التدخل السريع واقتحام مناطق حزب الله بهدف ضرب بناه التحتية، وتقوم، في نفس الوقت، بتوجيه ضربات سريعة ضد أهداف إستراتيجية تابعة لحزب الله.
يدرك حزب الله جيدا حقيقة التفاوت في القوى والإمكانيات العسكرية بينه وبين إسرائيل، ولذلك فإن قياداته لم تفكر أبدا في الدخول في حرب عسكرية تقليدية ضد إسرائيل. ولهذا، أصبح الصراع بين دولة الاحتلال وحزب الله اللبناني، أصبح خاضعا لمعايير جديدة. فنجاح هذا الأخير في الصمود ضد القوة العسكرية لإسرائيل وقدرته على قتالها تعني “انتصاره عليها”.
دخل حزب الله في مواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل في مناسبتين رئيسيتين. الأولى، عندما قامت إسرائيل باحتلال الجنوب اللبناني بين سنتي 1985 و2000، نجح حزب الله، حينها، في فرض قواعد اللعبة والحد من الخيارات العسكرية لإسرائيل، خاصة في المناطق التي يقل فيها عدد المدنيين اللبنانيين. ولذلك قام حزب الله بتطوير عقيدة حرب العصابات التي تتكون من 13 نقطة تهدف إلى “قهر” القوة العسكرية للجيش الإسرائيلي، من بينها عناصر المفاجأة والدقة وضرب نقاط ضعف العدو، الذي لديه حساسية كبيرة من المدنيين والعسكريين.
والثانية، سنة 2006، حينما لم تعد إسرائيل تمتلك وجودا فعليا في الجنوب اللبناني. لكنها لم تتردد في استهداف حزب الله في المناطق المدنية التي تخضع لسيطرته في الجنوب اللبناني. رغم هذه التغييرات في الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، فإن الدولة العبرية لم تستطع أن تتفادى حساسيتها للضحايا العسكريين، وهو ما دفعها إلى عدم التدخل، عن طريق نشر قوات برية في لبنان خلال الحرب الأخيرة، لكن ذلك جعل مواطنيها عرضة لهجمات حزب الله.
قامت إستراتيجية حزب الله، في كلا المواجهتين ضد إسرائيل، على إجبار هذه الأخيرة على الاختيار بين تعريض أراضيها للهجمات الصاروخية لحزب الله أو تكبد خسائر عسكرية كبيرة من خلال اقتحام الأراضي اللبنانية، ما سيؤدي حتما إلى اندلاع حرب طويلة المدى. وهو ما يمثل هاجسا حقيقيا بالنسبة للجيش الإسرائيلي، لأن ذلك سيؤدي إلى منعه من استغلال نقاط قوته الأساسية، مقابل تعريض الإسرائيليين لخطر هجمات حزب الله.
إن إستراتيجية حزب الله في مواجهة إسرائيل خلال الحربين الأخيرتين كانت واضحة، واعتمدت أساسا على الحد من الفترة الزمنية التي يحتاجها الجيش الإسرائيلي، لنشر جنوده، وبالتالي الحد من الضرر الذي يمكن أن يسببه لقوات حزب الله.
يعتمد حزب الله على هذه الإستراتيجية للحد من الضرر الذي يمكن أن تسببه القوات الجوية والبحرية الإسرائيلية ضد مواقعه الإستراتيجية. ولذلك فإن اعتماد مقاتليه على الأسلحة الخفيفة والأضواء غير الساطعة يساعده على الحفاظ على قدرته على التخفي وقت الدخول في مواجهة مع إسرائيل. وقد قام حزب الله بتقسيم قواته إلى وحدات قتالية مستقلة وسرية، بهدف تشتيت قوة الجيش الإسرائيلي الذي يصبح أكثر نجاعة عند الدخول في مواجهات مباشرة مع قوة عسكرية كبيرة. وهو ما بدا واضحا خلال حرب تحرير الجنوب اللبناني، عندما اعتمد حزب الله على توجيه ضربات قوية بمجموعات صغيرة، دون أن تتمكن طائرات الهيلكوبتر والمدفعية الإسرائيلية من كشف مواقعهم بدقة. ولذلك فإن الهدف الأبرز لحزب الله تمثل في حرمان قوات الجيش الإسرائيلي من تفوقها الاستراتيجي.
إن إستراتيجية نكران الهدف التي تعتمدها إسرائيل أثبتت عدم جدواها في مواجهة حزب الله، سواء خلال عملية “تصفية الحساب” في سنة 1993، أو عملية “عناقيد الغضب” في سنة 1996، أو الحرب الأخيرة في سنة 2006، وهو ما دفع الجيش الإسرائيلي إلى القيام بهجمات جوية ومدفعية محبطة.
أدت العمليات الأخيرة للجيش الإسرائيلي في لبنان إلى سقوط عدد كبير من الضحايا اللبنانيين بما في ذلك عدد مهم من المدنيين، بينما وقف حزب الله عاجزا عن حماية السكان العزل، لكنه تسبب في أضرار كبيرة للجيش الإسرائيلي، الذي يفتقر للمرونة الكافية في التعامل مع إستراتيجية حزب الله القتالية.
يريد حزب الله أن تكون الحرب القادمة مع إسرائيل قصيرة الأمد، لكن الجيش الإسرائيلي أثبت غالبا تفوقه في المعارك القصيرة والحادة والعنيفة، وهي خاصية عملت إسرائيل على دعمها من خلال مذهب جدعون.
سوف يحتاج حزب الله خلال المواجهة القادمة مع إسرائيل إلى حماية مواقعه الإستراتيجية لحرمان الدولة العبرية من القدرة على استغلال ميزاتها العسكرية المتعددة، ما قد يعني حتما انتصارها عليه. لكن حزب الله لا يملك سوى توظيف إستراتيجية حرب العصابات خلال مواجهته القادمة مع إسرائيل، ولن يكون في استطاعته توظيف تجربته في الحرب السورية.
المصدر: ويكلي ستاندرد