حركة كولن
نِشأت حركة كولن من مجموعة من أتباع فتح الله كولن، داعية ذاع صيته في السبعينيات والثمانينيات. وكان وقت انتشار الحركة وانطلاقها للعالمية في أواخر الثمانينيات والتسعينيات بعد الحرب الباردة، حيث وسعّت أنشطتها في الفضاء السوفيتي السابق بالأساس وأسست مؤتمرات ومنتديات عدة لحوارات الأديان والحضارات، وأطلقت منابر إعلامية عدة في تركيا، وكانت من أهم المستفيدين من “الانفتاح” الرأسمالي الذي دشنه رئيس الوزراء توركوت أوزال (1983-1989) في تلك الفترة.
للحركة منابر إعلامية كبيرة وكثيرة. جريدة زمان الأكبر في تركيا والتي يتجاوز قراؤها المليون، تأسست عام 1986 ويكتب بها الكثير من المحسوبين على الحركة أو المتعاطفين معها، وهناك نسخة إنجليزية منها هي “تودايز زمان”. عام 1993 انطلقت قناة سامانيولو (Samanyolu) وهي محسوبة على الحركة، ولاقت نجاحًا كبيرًا، وهي محافظة اجتماعيًا مقارنة بقنوات تركية أخرى، وتُعَد “معتدلة” في محتواها الديني، وهناك نسخة إخبارية منها ونُسخ موجهة لإفريقيا وأوربا وأمريكا انطلقت في أواخر العقد الماضي، هذا بالإضافة لقنوات “مِهتاب”، ودُنيا الكردية/الترُكية، و”يومورجاك” للأطفال، و”إبرو” لأتراك الولايات المتحدة، وكلها أطلقت خلال العشر سنوات الأخيرة. تمتلك الحركة أيضًا محطات راديو بورج (Burç FM)، و”سامانيولو خبر” و”راديو مهتاب” (Mehtap) بجانب مجلات مثل أكسيون وسِزِنتي (Sızıntı) ويَني أوميد (Yeni Ümit)، كما تملك مجلة “حِراء” العربية و”فاونتِن” الإنجليزية. كل ذلك يقع تحت ملكية مجموعة سامانيولو للنشر. عام 1994 أنشأت الحركة مؤسسة “وقف الصحفيين والكتاب”، والمؤسسة مشاركة باستمرار في منتديات حوار الحركة حول العالم، ورئيسها هو أكرم طومانلي رئيس تحرير جريدة زمان.
تمتلك الحركة اليوم شبكة عالمية من المدارس منها 140 في الولايات المتحدة، أكثر من 10 في ألمانيا حيث يوجد مهاجرون أتراك كُثُر، 29 في قازاقستان، 13 في تركمنستان، 12 في آذربيجان، 12 في قرغزستان، 6 في أفغانستان، 4 في كردستان العراق، ومدارس عدة في عشرات الدول حول العالم في أوربا وأفريقيا وآسيا (مدرسة صلاح الدين بمصر تتبع الحركة). وعام 1994 أسست الحركة جامعة فاتح في إسطنبول لتدخل مجال التعليم العالي.
بجانب المدارس، تمتلك الحركة في تركيا ما يفوق الخمسمائة “درسخانة” على أقل تقدير وقد تتجاوز الألف، والدرسخانة أشبه بالـ”سنترز” في مصر، ولكنها أكبر كثيرًا وتعد سوقًا تتنافس فيه أسماء عدة حيث تضم تركيا الآن 3690 درسخانة وفقًا لوزارة التعليم. والدرسخانة قد يصل حجمها إلى بناء كامل بحديقة على سبيل المثال وليس مجرد غرفتين أو ثلاثة أو شقة كما الحال في مصر، وهي تعدّ الطلاب لامتحانات القبول الجامعي. وعلى العكس من السنترز في مصر، فالطلاب لا يذهبون إليها لتقصير كامن في المدرسة العادية، بل لمجرد أنها تعد الطلاب لامتحان القبول تحديدًا ويتخرج منها الطالب أكثر احتمالًا للحصول على درجات أعلى فيه كما أظهرت إحصائية مؤخرًا. العاملون في تلك الدرسخانات يتقاضون راتبًا أقل من راتب معلم المدرسة، والسبب في عملهم هناك أنه من الصعب تحقيق الشروط المطلوب توافرها للحصول على تعيين في مدرسة حكومية. وعلى هذا فمدرسي الدرسخانات ليسوا هم مدرسي المدارس.
بالإضافة إلى المدارس التي تزيد عن المائتين والدرسخانات، تمتلك الحركة 6 مستشفيات معروفة بجودة الخدمة الطبية فيها وعدم الاقتصار على الربح. مستشفى سِما في إسطنبول على سبيل المثال لم تحدد أي أهداف مالية عند تأسيسها بل مجرد تقديم “الخدمة” للمجتمع بأفضل مستوى ممكن، والتعيين في المستشفى يتطلب شروطًا “أخلاقية” و”روحية” معينة تشي بالتزام متجاوز لمجرد الخدمة الطبية.
عام 1996، أنشأ رجال الأعمال المحسوبين على الحركة بنك آسيا (BankAsya) وهو أول بنك بدون فوائد في تركيا ومن أكبر بنوكها الآن، وعام 2005، تجمّعوا في تجمُّع واحد هو توسكُن (TUSKON)، رابطة رجال الأعمال والصناعيين الأتراك، على غرار توصياد (TÜSİAD) المحسوب على النُخبة العلمانية القديمة، والذي ساعد العسكر مرارًا في إدارة البلاد بعد الانقلابات، وموصياد (MÜSİAD) المحسوب على الإسلاميين منذ تأسس عام 1990.
تمتلك الحركة أيضًا واحدة من أكبر مؤسسات الإغاثة وهي “كيمسه يوق مو؟” (Kimse Yok Mu)، وقد نشأت في أعقاب زلزال 1999 الذي هز مدينة إذميد، ونشاطها الآن عالمي، إذ ساهمت في إغاثة المتضررين من تسونامي إندونيسيا، وتساهم الآن مع اللاجئين السوريين، كما أن لها أنشطة في أفريقيا.
تُعرَف الحركة بكفاءة كوادرها في مجالاتهم، وبالالتزام الأخلاقي العالي المتجاوز للأرباح المادية. وتلك الشبكة الاقتصادية متجذرة في، ومتشابكة مع، دوائر اجتماعية عدة، بما يجعلها نسيج تكافلي قوي جدًا في تركيا. والقضاء على الحركة ليس مجرد أمر شبه مستحيل، بل هو أمر مضر، فالنموذج من أنجح النماذج إن لم يكن أنجحها على الإطلاق في العالم الإسلامي من الناحية البنيوية. فعلي سبيل المثال، مدارس الحركة من أكثر المدارس منحًا للمِنَح، أيضًا العاملين بمدارس كولن حول العالم لديهم خصم 80% للعلاج في مستشفياتها الست في تركيا.
والحركة لا مركزية تمامًا، وكل من مؤسساتها الإعلامية والتعليمية والاقتصادية يُدار بشكل مستقل فعليًا، إلا أن أعضاءها تربطهم رابطة الانتماء للحركة. فالجذور التي تقوم عليها الحركة هي جذور صغيرة للغاية تُسمى الدوائر المحلية، والدائرة هي عبارة عن مجموعة من الأفراد في حي ما منتمين للحركة، يجتمعون أسبوعيًا لمناقشة ما يُراد فعله، مثل تخصيص أموال لطالب فقير، إلخ. والقدرات المادية التي تسخرها الحركة من اشتباكها بالسوق عبر آلاف الشركات هي ما يذلل لها أي صعوبات.
الحركة رأسمالية بحتة، ومعادية لليسار تمامًا، وإن كانت قد دعمت أي حكومات مالت لليسار مثل حكومة بولنت أجاويد من باب سياستها المعروفة في دعم السلطة أيًا كانت. ومواقف كولن شديدة المحافظة فيما يخص الدولة، فقد دعّم انقلاب 1980، وحين اضطربت الأمور أثناء حُكم أربكان نصحه بالاستقالة. وقد أشاد أجاويد به في أواخر التسعينيات، وكانت آنذاك حركته آخذة في الاتساع في آسيا الوسطى والبلقان وشرق أوربا، وهو ما ارتآه الكثيرون أمرًا مهمًا لتركيا.
الحركة “إسلامية”. وهي إسلامية بمعنى أنها من ضمن آلاف الحركات التي نشأت خلال المائتي عام الماضية إثر اشتباك الحداثة بالإسلام. إلا أنها ليست إسلامية كما نفهم في العالم العربي على سبيل المثال. وإن كنت تعد حركة صناع الحياة التابعة لعمرو خالد مثلًا حركة إسلامية، فيمكنك أن تعد حركة كولن حركة إسلامية بهذا المعنى. فالحركة أفرادها مسلمون، ويستلهمون من الإسلام أخلاقهم التي تشكل لُب نجاح الحركة في شتى المجالات، وهي أساس “الجيل الذهبي” الذي أراد كولن أن يؤسسه في تركيا. عدا ذلك ليس هناك ما هو إسلامي في الحركة، فالحركة ترفض تمامًا الإسلام السياسي، أو أي حراك سياسي على أساس تصور مستلهم من الإسلام، فهي تؤيد الدولة العلمانية على النموذج الأنغلوساكسوني، أي ما لم تكن الدولة معادية للدين كما في النموذج الكِمالي. وترفض الحركة أن يكون لها أي وجود سياسي، واختياراتها السياسية لم تكن تميل للأحزاب الإسلامية سوى في حالة واحدة هي دعمها لحزب العدالة والتنمية طوال العقد الماضي. والحركة ضعيفة الوجود في العالم العربي مقارنةً باهتمامها بالدول ذات التعداد التركي أو التي تمتلك شعوبها جذورًا تركية، وكذلك بالدول الغربية، فاستثمارات توسكُن على سبيل المثال منصبة على الولايات المتحدة وأوربا والفضاء السوفيتي السابق، في حين الموصياد معروف باهتمامه بالعالم الإسلامي بشكل أساسي. رغم ذلك، فمن المعروف أن المنتمين أو المتعاطفين مع الحركة استطاعوا أن يصلوا إلى مناصب مهمة في الدولة في القطاعات غير التنفيذية تحديدًا، وأبرزها القضاء.
كم عدد أعضاء الحركة؟ وكم يمثل ذلك من كتلة تركيا التصويتية التي تبلغ حوالي خمسين مليون؟ تتفاوت الأرقام بين 3% منهم (أي مليون ونِصف) إلى 8% أي (أربعة ملايين)، والتقدير المتوسط يذهب إلى أنهم لا يزيدون عن مليوني ونِصف، وهي كتلة مؤثرة في الانتخابات بلا شك. بحوالي 5% من كتلة تركيا التصويتية، ومليوني ونِصف من الكوادر المهمة في مختلف المجالات في تركيا، وبتكتل اقتصادي ثقيل، ما هو رصيد حزب العدالة والتنمية إذا؟ أهو مجرد حزب؟