ترجمة وتحرير نون بوست
كُتب هذا المقال ردًا على ما نشره موقع غايت واي هاوس في 27 تموز/ يوليو 2016 بعنوان “بداية النهاية لأردوغان“، الذي كتبه نائب الأميرال انيل شوبرا، المختص في الأمن الدولي والدراسات البحرية.
شهدت تركيا محاولة انقلاب وحشية لم يسبق لها مثيل، جوبهت بمقاومة عفوية من قبل الملايين من الناس العاديين، الذين حاولوا الوقوف أمام الدبابات العسكرية لمنعها من إغلاق الجسور فوق نهر البوسفور والسيطرة على مبنى البرلمان والمواقع الرئيسية الأخرى، هم لم يتوانوا عن فعل ذلك، على الرغم من أن الجنود أطلقوا عليهم النار، وسحقوهم بالدبابات،
بحلول صباح يوم 16 يوليو، وصل عدد القتلى إلى 240 شخصًا (باستثناء الانقلابيين) وأصيب أكثر من 2000 بجروح خطيرة، كما قصفت طائرات حربية البرلمان الوطني والقيادة العليا للجيش وقصر الرئيس وغيرها من رموز الديمقراطية في البلاد،
حلّقت تلك الطائرات على علو منخفض، وقامت بترويع السكان وتسببت في تحطم نوافذ المباني في مراكز المدن في إسطنبول وأنقرة، وقد بدا الوضع كما لو أن البلاد وقعت في قبضة حرب أهلية.
على الرغم من نجاح الشعب في الدفاع عن الديمقراطية، بقيت جلسة البرلمان منعقدة، حتى بعد إصابته بقنبلة، ومن جهته، نجا أردوغان، أول رئيس منتخب مباشرة في تركيا، بأعجوبة من الموت.
كان القضاء على أردوغان الهدف الأساسي للانقلابيين الذين كان من بينهم مئات من قادة الجيش، وقد حول فشل الانقلابيين في القيام بمهمتهم، أردوغان إلى بطل قومي، ومنذ ذلك الحين، حاول أردوغان أن يجمع قادة مختلف الجماعات المتنافسة والأحزاب السياسية في البرلمان – باستثناء زعيم الحزب الديمقراطي الشعبي الكردي -، الذي لم يتخذ مسافة من حزب العمال الكردستاني وأنشطته الإرهابية منذ تموز/ يوليو 2015، فقد حاول أردوغان توحيدهم ضد التهديد المشترك، الذي يتمثل في الحركة الغولينية “الإسلامية” التبشيرية، المتهمة بضلوعها في محاولة انقلاب.
يعتبر القيادي في الحركة، فتح الله غولن، الذي يقيم حاليًا في مزرعة بولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية، نفسه المسيح، ورفض بذلك نبي الإسلام وتحدى الأصولية الإسلامية.
هذه الحركة، التي أصبحت تسعى للسيطرة على الدولة، أفقيًا من عدة خلايا، ترتبط عموديًا بالزعيم، من خلال التسلسل الهرمي لـ “الأئمة” ومؤسسات الدولة الرئيسية، على غرار الجيش والقضاء والشرطة والبيروقراطية، وكذلك وسائل الإعلام والنقابات العمالية ومنظمات رجال الأعمال والأحزاب السياسية والجامعات.
إلى حد الآن، تم اعتقال 16 ألف شخص له صلة بغولن و6 آلاف آخرين محتجزين تبعًا لـ “حالة الطوارئ”، كما تم تعليق نشاط الآلاف أو طردهم من مناصبهم في الجيش والبيروقراطية والجامعات.
لذلك، لدى تركيا، الآن، مهمة هائلة للقيام بإصلاحات، إن لم نقل إعادة بناء المؤسسات الرئيسية، ألا وهي الجيش والإدارة وأهمها: المدارس ونظام امتحانات القبول لهذه المؤسسات والنظام القضائي والدوائر الأكاديمية.
هل يمكن لهذا أن يشير إلى بداية جديدة؟
كانت فكرة الحرب الجديدة من أجل التحرر من الهيمنة الغربية، مهيمنة على المسيرة من أجل “الديمقراطية وشهدائها” في يوم الأحد الموافق لـ 6 آب/ أغسطس، وكانت تشبه تلك التي قام بها مصطفى كمال أتاتورك في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية واحتلال البلاد من قبل القوى الأوروبية.
بلغ عدد الحشود التي حضرت التجمع قرابة 5 مليون شخص، وكانوا يرددون “لا” بقوة، عندما سئل أردوغان: “هل تريدون أن تكونوا عبيدًا ومذلولين؟” كانت هناك عبارات دينية، عززها شعورهم بخيانة الغرب لهم ورفضهم له.
الغرب والنخب العلمانية الغربية
انتظرت الحكومات الغربية 24 ساعة في أعقاب محاولة الانقلاب الدموي، قبل أن تتصل بالحكومة التركية، وعندما فعلت ذلك، أعربت، في المقام الأول، عن قلقها بشأن الإجراءات الحكومية ضد المشتبه في تورطهم في الانقلاب (وخاصة قادة الجيش)، ولكن لم تعط نفس الأهمية للآلاف الذين خاطروا بحياتهم للدفاع عن خياراتهم الديمقراطية ومكاسبها، في حين، كان فلاديمير بوتين أول رئيس دولة يتصل بأردوغان، مشيرًا إلى أن روسيا لن تدعم أي تطورات تنتهك الدستور، لذلك، وكما تساءل أردوغان في المسيرة، هل يمكن القول أن القوى الغربية خانت قيَمها، من خلال عدم دعم الديمقراطية في تركيا.
وفي نفس السياق، كانت تغطية وسائل الإعلام الغربية تُسلط الضوء على الاعتقالات الجماعية وعمليات احتجاز الانقلابيين، مُعربةً عن قلقها وشَكها في مشروعية الإجراءات المتخذة، وبالكاد ذكرت الوحشية التي ارتُكبت ضد المدنيين، لتشير إلى أن عملية الانقلاب كانت “مسرحية” قام أردوغان بإخراجها لتعزيز قبضته على السلطة.
يعود موقف وسائل الإعلام الغربية إلى عام 2009، عندما انتقد أردوغان السياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وبدأ بإغلاق مدارس غولن الإلزامية في تركيا، وأصبح ذلك أكثر وضوحًا بعد احتجاجات حديقة غيزي في التقسيم سنة 2013، فقد كانت برنامج احتجاجات غيزي في البداية متعلقًا بالبيئة، ثم تطور إلى حملة كراهية شاملة ضد أردوغان وقاموا بتقديمه على أنه إسلامي متعصب واعتبروه من مؤيدي تنظيم الدولة، كما اتهموه بكونه دكتاتوريًا، يعتمد على دعم جماهير دينية جاهلة، أغلبها من الوسط الريفي.
يبدو أن كلاً من الإعلام الغربي والحكومات تُفضل بدلاً من ذلك نظامًا عسكريًا، “علمانيًا” و”غربيًا” على شاكلة النظام المصري الذي أطاح بالحكومة الإسلامية المنتخبة في 2013.
كان الموقف الغربي، الذي تقوده وسائل الإعلام الحكومي والرئيسية، حول أردوغان وحالة الديمقراطية التركية يبرر مطالب النخب التركية العلمانية، سواء في الداخل أو في الخارج، وتُقر بشرعيتها، وكان ما يسمى بـ “الأتراك البيض” والعلمانيين والغربيين، يشكلون العمود الفقري لحزب المعارضة الرئيسي، وكانوا دائمًا ضد حكومة أردوغان، الذي يزعمون أنه يمثل ما هو غير مألوف والقرى الفقيرة والإسلاميين الذين تطلق عليهم تسمية “الأتراك السود”.
لذلك اعتبر “الأتراك البيض” أن الانقلاب العسكري هو وسيلة لإزالة الإسلاميين من السلطة واستعادة إرث أتاتورك، وعلاوة على ذلك، من شأن الانقلاب العسكري أن يعيدهم إلى أماكنهم السابقة في السلطة الاجتماعية والسياسية، ومع ذلك، فإن العنف الذي حدث في 15 تموز/ يوليو، أثار غضب بعض “الأتراك البيض”، وخاصة في وسائل الإعلام، لأنهم لم يتوقعوا تلك الطريقة في الاستحواذ على السلطة، وهو ما قد جعل كمال قليتش دار أوغلو، زعيم حزب المعارضة العلماني (حزب الشعب الجمهوري أو حزب الشعب الجمهوري) يشارك في مسيرة يوم 6 آب/ أغسطس، التي استضافها الرئيس أردوغان.
ومن جهة أخرى، لم يكن الموقف الغربي دائمًا سلبيًا تجاه أردوغان وحزب العدالة والتنمية، نظرًا لأن أردوغان كان في وقت سابق نموذجًا للإسلام المعتدل الموجهة نحو اقتصاد السوق، وفي الواقع كان أردوغان وحزب العدالة والتنمية مسؤولين إلى حد كبير على صنع اقتصاد السوق الناجح جدًا، الذي بدأ لأول مرة في منتصف الثمانينات، بعد الانقلاب العسكري الذي وقع في سبتمبر 1980.
اعتمدت تركيا في البداية إصلاحات السوق، التي قدمها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، في أعقاب الانهيار المالي في البلاد في عام 2001، ثم واصلت مع الإصلاحات في إطار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتحولت تركيا، في ظل حكم حزب العدالة والتنمية منذ عام 2002، جذريًا من اقتصاد نامٍ إلى اقتصاد صاعد بالاعتماد على القطاعات الصناعية والخدمية الهامة، وكان يغلب عليها الطابع الحضري الذي وصل إلى 75% مع اتساع الطبقة الوسطى وارتفاع عدد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في المدن الكبرى ومراكز المحافظات، وكانت لديهم إمكانية الوصول إلى الأسواق العالمية ومصدري المنتجات الصناعية والزراعية والمستثمرين في مشاريع البناء الضخمة، تم تسهيل هذه الأنشطة، إلى حد كبير، من خلال المبادرات الحكومية وتحركات السياسة الخارجية.
تم تركيز الاهتمام على الطبقات الوسطى والدنيا في المناطق الحضرية، بما في ذلك سكان القرى الفقيرة حول المدن الكبرى، وخاصة إسطنبول، وقد أصبحوا الآن أصحاب شقق في مواقع مختارة، مع إمكانية الوصول إلى خطوط مترو جديدة، وكان كل ذلك بفضل المبادرات الحكومية، وتعد هذه المجموعات أيضًا المستفيد الرئيسي من الخدمات الطبية العالمية الجديدة، وتزامن ذلك مع برامج للتواصل مع العاطلين عن العمل والمرضى والمعاقين وغيرهم، الذين يشكلون الدائرة المركزية لحزب العدالة والتنمية (أكثر من 50% من مجموع الناخبين).
وتجدر الإشارة إلى أن شعبية أردوغان الحالية، في أعقاب محاولة انقلاب، توجت برحلة إلى روسيا بعد أسابيع قليلة لاستعادة العلاقات الاقتصادية مع هذا البلد، بما في ذلك استئناف الصادرات التركية من السلع الصناعية والزراعية، وإعادة تدفق السياح الروس.
انقطعت هذه العلاقات منذ نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بعد إسقاط طائرة مقاتلة روسية من قبل تركيا، وقد أسفر ذلك عن مقتل طيارين، لانتهاكهما المجال الجوي التركي على الحدود السورية.
تشمل الطبقات الوسطى الجديدة، أيضًا، الأكراد، ومن بينهم المهاجرين إلى المدن الكبرى في غرب تركيا، وخاصة في إسطنبول، كما تهيمن البرجوازية الكردية على قطاع النقل، وقد رفعت التنمية الاقتصادية التوقعات الكردية في شرق وجنوب تركيا، حيث قدمت مشاريع البنية التحتية بخلق فرص عمل للشباب الكردي، وفتحت فرص استثمارية لرجال الأعمال الأتراك والأكراد.
أثمرت سياسات الحكومة بحصول حزب العدالة والتنمية على نسبة جيدة من الأصوات الكردية في الانتخابات العامة، لكن ذلك لم يدم طويلاً، حيث توترت العلاقات بين حزب العمال الكردستاني والحكومة، مع بداية الهجمات الإرهابية لذلك الحزب، وتسبب ذلك في إشعال حرب بين حزب العمال الكردستاني والجيش التركي في جنوب شرق تركيا في تموز/ يوليو 2015.
- إذًا لماذا تغيرت وجهة نظر الغرب تجاه أردوغان وحزب العدالة والتنمية؟
حقق أردوغان نموًا مستمرًا في الاقتصاد التركي، وبدأ يطمح في بناء تركيا كقوة إقليمية، تبحث عن أسواق للمستثمرين والصادرات التركية في أفريقيا وفي منطقة الشرق الأوسط وتقدم المساعدات للمحتاجين والمظلومين في الصومال وفي غزة.
وقام أيضًا بما لا يمكن تصوره في المنطقة، حيث انتقد سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين، وكان ذلك عكس سياسات الحكومات التركية السابقة بولاءاتها غير المشروطة لإسرائيل والموقف الغربي في الشرق الأوسط، بدلاً من ذلك، وكجزء من استراتيجيته لتصبح تركيا قوة إقليمية، دعم أردوغان الحكومة الإسلامية المنتخبة في مصر وأقام العلاقات الاقتصادية مع منطقة الحكم الذاتي الكردية في شمال العراق، وتلقى دعم زعيمه مسعود بارزاني، عند بدء عملية السلام مع الأكراد في تركيا، كانت عملية السلام خطوة شجاعة، حيث تحدى أردوغان المشاعر القومية في تركيا، التي تغذيها ذكريات الحرب المؤلمة مع حزب العمال الكردستاني، والتي كلفت حياة 30 ألف شخص في التسعينات، ولتشكيل الرأي العام حول هذه العملية، استعان أردوغان بمثقفين، بما في ذلك بعض أدباء العلمانية الرائدة، الذين ذهبوا إلى مناطق مختلفة من تركيا لإجراء محادثات مع الناس حول هذه العملية.
تغيرت قواعد اللعبة بالحرب الأهلية السورية وبتزايد التدخل الأمريكي في ذلك الصراع مع تصاعد الأنشطة الإرهابية لتنظيم الدولة في أوروبا والولايات المتحدة، ونتيجة لذلك، انتهى الانفتاح على الأكراد عندما بدأ حزب الاتحاد الديمقراطي أو الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، في القتال من أجل الأمريكيين، ضد تنظيم الدولة في سوريا، وإحياء الآمال في إنشاء مناطق كردية مستقلة في جنوب شرق تركيا.
بالنسبة للحزب السياسي الكردي، يرجع الفضل في وجوده إلى الإصلاحات السياسية في ظل حزب العدالة والتنمية، ولكنه لم يستطع أن ينأى بنفسه عن حزب العمال الكردستاني، الذي طغت عليه طموحات استقلاله وضمان حقوق ورفاه الأكراد داخل تركيا، وبدعم من قطاعات واسعة من اليسار، أصبح الحزب جزءًا من المعارضة الشرسة ضد أردوغان في الانتخابات الرئاسية في عام 2014.
استأنف حزب العمال الكردستاني الأنشطة الإرهابية في تركيا في تموز/ يوليو عام 2015، وتسبب الهجوم الكردي في نكسة خطيرة لحزب أردوغان في انتخابات عام 2015، حيث أصبح للقوميين اليد العليا، كما خسر حزب العدالة والتنمية صوتا مقابل الحزب الكردي.
لام القوميون أردوغان بكونه “ناعمًا” مع الأكراد، مما دفع بالقوميين ليصبحوا شرسين وعدوانيين في مواجهة إرهاب حزب العمال الكردستاني.
تجاهلت الحكومات الغربية ووسائل الإعلام الأجنبية، إلى حد كبير، عملية السلام الكردية والإصلاحات السياسية التي مكنت الأكراد من التحدث بلغتهم بحرية ومكنتهم من حزب سياسي خاص بهم، لكنهم كانوا ينتقدون ردود فعل الحكومة التركية “غير المتناسبة” في مواجهة الهجمات الإرهابية الكردية، متهمين الحكومة بانتهاك حقوق الإنسان وسيادة القانون، ويصورون أردوغان على أنه ديكتاتور ومستبد.
قبل الانقلاب، كان الغولينيون مصدر غضب أردوغان كما لو كان له هاجس غير صحي، عزله حتى عن الأفراد والجماعات داخل حزبه، وكان حزب العدالة والتنمية في البداية حليفًا مع منظمة غولن، التي وفرت الموظفين المتعلمين ليشغلوا مناصب إدارية في الحكومة الجديدة.
ماذا حدث؟ في عام 2013، كانت هناك محاولة فاشلة لانقلاب مدني من قبل القضاء، الذين زُعم أنهم موالون للتنظيم الغوليني، وقد وجّهوا تُهَمًا بالفساد ضد أردوغان وعائلته وكذلك أربعة من وزرائه.
كانت الحكومة قد أغلقت في وقت سابق المدارس الإلزامية الخاصة التي قامت بإعداد الطلبة لامتحانات دخول الدولة في الجامعات والمدارس الثانوية والبيروقراطية، وكذلك الجيش، وكانت هذه المدارس تدار من قبل منظمة غولن، تحدث غولن علنًا وكان ضد موقف أردوغان تجاه إسرائيل، والتحالف مع المعارضة العلمانية في تركيا في الانتخابات الرئاسية عام 2014 التي فاز فيها أردوغان.
وعلى الرغم من مناشدات أردوغان لتسليم غولن ولفت الانتباه إلى التهديد الغوليني، واصلت الولايات المتحدة تجاهلها وركز مسؤولو الاتحاد الأوروبي، من جهتهم، على تنظيم الدولة والهجمات الإرهابية في أوروبا، كما وجهوا انتقادات حول ردة فعل أردوغان “غير المتناسبة” ضد النشاط الإرهابي لحزب العمال الكردستاني في تركيا.
وكانت تغطية وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية للهجمات الإرهابية في المدن التركية، إما عن طريق حزب العمال الكردستاني، أو التي زُعم أن تنظيم الدولة قد قام بها، في أحسن حالاتها، وعلاوة على ذلك، كثفت وسائل الإعلام من هجماتها على أردوغان على خلفية التدابير التي اتخذتها الحكومة ضد الغولينيين ووصفتها بأنها انتهاكات لحقوق الإنسان، كما اشتبهت في تقديمه للدعم لتنظيم الدولة عند شن هجمات عسكرية قاسية ضد حزب العمال الكردستاني.
فيما يخص غولن
فتح فشل الانقلاب الباب على مصراعيه لحرب باردة ولتشابك ما بعد الحرب الباردة وتدخل حلفاء تركيا الغربيين وحكوماتهم وأجهزة الاستخبارات، على حد سواء، في منطقة أوراسيا الوسطى وتركيا.
كانت قصة غولن الشخصية الملحمية حول الطرق التي تم بها بناء النظام العالمي بعد الحرب، فقد بدأ إمامًا في قرية بالقرب من أرضروم بشرق تركيا، وتلقى تعليمه من قبل جهاز المخابرات التركية ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية في الستينات، ثم شكل جماعته الخاصة من الأتباع في أزمير في تركيا الغربية، كان السعيدي النورسي مصدر إلهامه وهو سني وحداثي إسلامي في القرن الـ 20، انطلق من السلفية الأصولية، ودعا إلى إدخال تدريس العلوم الغربية في المدارس الدينية الغولينية والتمسك باقتصاديات السوق والحوار بين الحضارات، داعيًا مجتمعهم للتحالف، والدعوة إلى الاستيلاء على سلطة الدولة لتحقيق غاياتهم.
في الواقع، يُقدم غولن كزعيم ديني في المنشورات العديدة والندوات والمؤتمرات التي تعقد في الولايات المتحدة وأماكن أخرى، متجاوزًا بذلك كل الأعراف والأديان، وكانت له رؤية جديدة لخليفة العصر الحديث مع العمل على تعزيز النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة.
بعد عام 1976، كانت الحركة الغولينية تملك مواردًا كبيرة ومداها غير معروف، ولكن يتأتى معظمها من المساهمات والتبرعات من رجال الأعمال الأثرياء، وقد ركزت الحركة أنشطتها على التعليم – من رياض الأطفال إلى الجامعة – فقد قامت بتأسيس أكثر من 1000 مدرسة في جميع أنحاء العالم، منها 300 مدرسة في تركيا وحدها، وكانت تسيطر أيضًا على جامعات وشبكة من المؤسسات التي أعدت الطلاب للامتحانات الرسمية.
وقد أنشئت هذه المؤسسات في 160 بلدًا، بما في ذلك الدول غير المسلمة، مثل بوليفيا وكولومبيا في أمريكا الجنوبية، وقد وصلت المدارس الغولينية، لأول مرة، إلى جمهوريات آسيا الوسطى والاتحاد الروسي حيث اكتسبت سمعة في تدريس الرياضيات والعلوم التطبيقية، وأقامت بذلك علاقات قوية مع النخب التي تعلم أبناءها.
وتتحكم الحركة أيضًا في حوالي 130 مدرسة خاصة في الولايات المتحدة، 36 منها توجد في ولاية تكساس وحدها، ازدهرت مدارس الحركة الخاصة في الولايات المتحدة في وسط يغلب عليه العداء ضد المسلمين.
من المهم لفت الانتباه إلى، الجانب العقلاني العملي جدًا للمنظمة الغولينية، وعدم اعتبارها حركة دينية متعصبة، مقابل ولائهم المطلق ومساهماتهم، تمكن المنظمة أتباعها من التمتع بالتعليم الجيد، وتمنحهم المهارات في الرياضيات والعلوم، المتوافقة مع متطلبات الاقتصاد العالمي الحالي.
ولكن في الوقت نفسه، للمنظمة القدرة على الوصول إلى شبكات في البيروقراطية والجيش والسياسة وعالم الأعمال، ويعود تفوقها في بناء هذه الشبكات، من خلال اختراق مؤسسات الدولة عن طريق سرقة أسئلة الامتحانات وتمرير الإجابات لأتباعهم ومن خلال الوصول إلى النخب في مختلف البلدان عن طريق مدارسها، أو من خلال العمل الاجتماعي والثقافي لتنظيم الندوات والمؤتمرات، ودعوة النخبة ومكافأتها على حضورها.
لعلاقات غولن الشخصية مع رؤساء وقادة الدول والعالم الديني أهمية محورية في عملية بناء الشبكات، وكان الهدف بناء نظام عالمي متماسك بديل، مع القدرة على توفير فرص لأعضائها، وتمثل هذه الشبكات نقطة وصل بين ما هو محلي وعالمي، وهي تهب المنظمة القدرة على توجيه تصرفات الأفراد وتوظيفها في خدمتها، وبالتالي هي تخدم أغراضها.
ظهرت هذه التعبئة للشبكات في الجيش والبيروقراطية وعالم الأعمال، مع كل امتداداتها العالمية، مرة أخرى، في محاول شهر تموز/ يوليو في عام 2016، في تركيا، ولكنها لم تنجح.
في هذه اللحظة، خرج أردوغان فائزًا، لكن زاد عنف الانقلاب من مخاوفه بشأن تنظيم غولن وجعله ذلك يعتمد لهجة التحدي ضد الغرب، الذي لم يكن يدعم الحليف الاستراتيجي الأهم في الشرق الأوسط في وقت الحاجة، وكذلك لا يرغب، في الوقت الحاضر في تسليم غولن، لأنه قلق بشأن عمليات التطهير الحالية، وخاصة التي شملت القيادة العليا للجيش، التي ستضعف أحد أقوى جيوش حلف شمال الأطلسي في جانبها الجنوبي.
ومع ذلك فمن غير المحتمل أن تركيا ستنأى بنفسها عن الغرب، على الرغم من أنها نقطة حساسة، فقد كانت “تنتظر عند باب أوروبا” لقبول عضويتها لمدة 50 سنة أو نحو ذلك، باعتبار أن أوروبا هي سوق التصدير الأكثر أهمية في تركيا، وتملك تاريخًا طويلاً من التعاون المالي والسياسي والعسكري مع أوروبا والولايات المتحدة، بما في ذلك عضويتها في حلف شمال الأطلسي.
قدم التقارب الحالي مع روسيا، بوتين على أنه صديق في أوقات الحاجة، وذلك لا يعني بالضرورة، التوجه إلى الشرق، وحتى خلال الحرب الباردة، كانت لتركيا، العضو في التحالف الغربي، علاقات اقتصادية وثيقة مع الاتحاد السوفياتي، آنذاك، لذلك يعد الاستئناف الحالي للعلاقات بعد انقطاع قصير، مجرد عودة للعمل كالمعتاد.
ومع ذلك، سيحاول أردوغان استخدام تجدد العلاقات مع روسيا والوضع الحالي الموالي في السياسة الداخلية، لدفع جهود العضوية الأوروبية إلى الأمام، وللحصول، على الأقل، على امتياز السفر بدون تأشيرة في الاتحاد الأوروبي للمواطنين الأتراك.
الاقتصاد التركي كبير جدًا والمخاطر في العلاقات الاقتصادية والسياسية مع أوروبا والولايات المتحدة مرتفعة للغاية، لتحول جذري لموقعها في الاقتصاد والسياسة العالمية، لذلك، قال أردوغان إنه لن يجازف بأي تحرك من شأنه أن يؤثر على الاقتصاد التركي في الأسواق العالمية، مثل توقف تدفق الائتمان أو رأس المال أو فرض عقوبات على الصادرات.
وكانت لهجة أردوغان دائمًا أكثر احتواءً وهو يدعو دائمًا إلى إدماج المسلمين والفقراء في مجال اقتصاد السوق.
هذا لا يعني أن أردوغان قد لا يستخدم ما لديه من ثقة مكتسبة حديثًا لاستكشاف أسواق جديدة للمستثمرين الأتراك في الأسواق غير الأوروبية، مثل الهند والصين، وسيكون هذا أكثر من ضرورة لتنويع منافذ السوق من رد فعل غير محسوب، فقد عانى الاقتصاد التركي، بشكل كبير، بسبب اعتماده على أسواق التصدير الأوروبية والشرق أوسطية، التي ضربتها أزمات اقتصادية وسياسية متتالية.
وعلاوة على ذلك، قد تجد تركيا أكثر تعاطفًا من شركائها في الشرق في نضالها من أجل الديمقراطية وسياسة الاحتواء في الحكومة، ويعني ذلك معالجة التوترات لتحقيق النمو الاقتصادي وضمان التوزيع العادل لثمار هذا النمو في السوق العالمية، لكن نموذج الحكومة في اقتصاديات السوق العالمية، المقترح من قبل الغرب، مبني على سياسة الإقصاء.
أشارت التجارب المؤلمة، سواء في الشرق الأوسط، بعد احتلال العراق من قبل قوات التحالف الغربي في عام 2003 وفي مرحلة ما بعد الأزمة في الاتحاد الأوروبي، إلى إفلاس هذا النموذج السياسي الإقصائي الذي يكشف عجز الديمقراطية الخطير، غير أن القوى المجتمعية في مختلف أشكال التطرف، على غرار أتباع ترامب في الولايات المتحدة والحركات اليمينية، سيكون عليها إيجاد طرق للتعبير عن أنفسهم أو اتخاذ إجراءات ضد ما يرونه تهديدًا لحقهم الأساسي في العيش، والبقاء على قيد الحياة.
مقاومة الناس العاديين في تركيا هي نضال ضد احتمالات حكمهم من قبل جهات فاعلة ذات أجندات عالمية مشكوك فيها، فهم يريدون التأكيد على أولوية خياراتهم واختيار من يحكمهم، وهذا ما يفقده الغرب، حيث كان يتجاهل نضالهم من أجل الديمقراطية، ويبدو أنه يفضل أشكال غير ديمقراطية لحكومة تركية أكثر مطواعة للمخاوف الغربية في المنطقة.
المصدر: غايت واي هاوس (المجلس الهندي للعلاقات الخارجية)