أعلنت الأمم المتحدة أن حلب أصبحت ساحة لأكثر الأماكن التي شهدت كوارس إنسانية في التاريخ، وذلك لشهودها على مختلف الأصعدة مشاهد دموية عنيفة ومدمرة لكل ما هو إنساني، كان آخرها مشهد الطفل عمران دقنيش في سيارة إسعاف متأثرًا بجراحه يجلس في ذهول وصمت في مشهد إنساني يهز الملايين بالضبط ليكون “إيلان” جديد يهز العالم وكبرى الصحف العالمية.
الأزمة السورية مستمرة منذ خمس سنوات، إلا أن العالم لم يتأثر بها هذا التأثر الإعلامي قبل انتشار صور الأطفال المفزعة، لم يكن يتخيل أحد أن الأمر سيسوء بهذا الشكل، ولم يكن يتصور أحد أن الأطفال سيكونوا في الواجهة، وهذا ما حدث بالفعل، صور جثث الأطفال الغرقى راسية على الشواطئ، وصور جثث الأطفال المتفحمة، وأخيرًا، اعتياد مشهد الأطفال على الدماء بجلوس الطفل عمران دقنيش ذي الخمسة أعوام في ذهول وصمت كامل بعد أن غطت الدماء وجهه عقب الغارات الجوية الروسية التي شهدتها حلب في ليلة دامية يوم الأربعاء الماضي.
الكل مباح في الحرب، هكذا هو منطق الحروب، والكل أيضًا مستهدف، لا سيما عندما يتصاعد الأمر إلى كوارث إنسانية كما هو الوضع في حلب، البشر مستهدفون، وكذلك الذكريات، ولا تخلو الذكريات من الارتباط بالأماكن، والشوارع، والروائح، والجدران والأرصفة، وكذلك أيضًا الثقافة، والتي من الممكن أن تكون أهم من كل ما تم ذكره مسبقًا.
يمكن للحرب أن تهلك البشر، ولكنها لا يمكن أن تمحيهم من التاريخ إلا بتدميرها لشيء واحد، وهي حضارتهم وثقافتهم، هكذا تُمحى الشعوب من صفحات التاريخ وكأنها لم تكن، يمكن للأجساد أن تفنى ولا يمكن للتاريخ أن يفنى بنفس السهولة، إلا أنه يحدث الآن في حلب، فلم يعد هدف الغارات الجوية البشر فحسب، بل أصبح الأماكن الثقافية والتاريخية كذلك.
مع خسارة البشر التي لا تُنسى، يخبر أهل حلب موقع ميدل إيست آي أن خسارة الأماكن الثقافية تترك بقعة سوداء في القلب تماثل خسارة البشر في الحزن، حيث خسرت حلب مركز “الورقة الثقافي”، وهو من المراكز الثقافية التي تم تدميرها بين طرفة عين والأخرى، حيث دمره النظام يوم الإثنين الماضي رأسًا على عقب.
تم التقاط هذه الصورة يوم الإثنين بعد تدمير مكتبة المركز كليًا
تم اعتماد مركز الورقة الثقافي أحد أكبر المراكز التعليمية والترفيهية في مدينة حلب منذ عام تقريبًا، وهو موجود في حي باب المقام، أحد أكثر المناطق التي تحتوي على آثار تاريخية، كما كانت تُستخدم باحته كحديقة كبيرة تُستخدم في الأعراس.
كما كان يحتوي المركز على مكتبة كبيرة تحتوي على العديد من الكتب المهربة، والتي تمت طباعتها في بيروت بلبنان، ليتم تهريبها إلى حلب عبر تركيا.
صرح مدير المركز عبدالرحمن إسماعيل لميدل إيست آي أن الحادثة لم تكن ستتوقف عند هدم المركز فحسب، بل كادت أن تتحول إلى مجزرة وكارثة إنسانية، وذلك لتواجد عدد كبير في اجتماع داخل المركز قبل قصف الطيران الروسي للمركز بساعتين، فلم يتأذ أحد من القصف غير حارسي المركز الذين أصيبا بجروح.
يقول جمعة محمد في التقرير بأنه لا يجد أي حُجة أو سبب يدعو لقصف مركز ورقة الثقافي، فهو لا يمكن اعتباره بؤرة يجتمع فيها جماعات مسلحة، فهو مركز يُستخدم لتجميع الفنانين والمثقفين من أجل مزيد من التطور الثقافي لهم وللمركز، كما كان يستخدمه جمعة في عرض صوره عن الحرب السورية في معارض للتصوير، فهو لا يرى أي سبب منطقي يجعل من الطيران الروسي يقصف تاريخ حلب الثقافي.
كما وصف سليم أبو الناصر أحد رواد مكتبة المركز لاستعارة الكتب التاريخية والأدبية في التقرير أنه لا يجب اعتبار تدمير المركز مفاجأة، فهكذا تُمحى حضارة المدن من صفحات التاريخ، فمن الواضح جدًا استهداف كل الأطراف لتدمير وإخفاء تاريخ سوريا للأبد.
إنها الطريقة التي يتبعها النظام وحلفاؤه منذ عدة أعوام، وهي ليست بجديدة على العالم لتكون جديدة على سوريا، فقد قام النظام كذلك بتدمير قلعة حلب العريقة، ولم يكن النظام وحده الملام كذلك، فكان تنظيم الدولة الإسلامي “داعش”، شريكًا في الجريمة في سبيل محو تاريخ سوريا من الخريطة، بتدميره للعديد من الأماكن التاريخية كذلك.
لن يستسلم رواد المركز عند تدميره، فهم يعدون بإكمال ما بدأوه، وسيستمرون في مسيرتهم الثقافية حتى بعد تدمير المركز رأسًا على عقب، فعلى الرغم من أن حالة المكان الآن يُرثى لها، ولا تبشر بإعادة تصليح وبناء مباشر، إلا أنهم يعدون بأنهم سيقوموا بما يستطيعوا، ولن يستسلموا.