مرة أخرى تؤكد الأصداء القادمة من تونس أن الوضع السياسي في تونس ذاهب نحو مزيد من التأزم، خصوصًا بعد تكليف وزير التنمية المحلية السابق في حكومة تصريف الأعمال يوسف الشاهد بتشكيل حكومة وحدة وطنية بمبادرة من رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي واختياره لتشكيلة وزارية تتكون من 26 وزيرًا و14 كاتب دولة، أثار معظمهم الجدل حول عدم أحقيتهم بهذه المناصب وتاريخهم الذي ظل يلاحقهم إلى اليوم وكذلك بسبب المحاصصة الحزبية الكبيرة التي تم اعتمادها في تشكيل هذه الحكومة حتى تحولت إلى مثل الكعكة التي قسمت على الجميع.
ورغم الحالة الكبيرة من الجدل التي أثارها تعيين يوسف الشاهد في حد ذاته على رأس الحكومة خصوصًا بعد تواتر الأنباء على صلة القرابة التي تربطه برئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي واعتبار ذلك عودة بتونس إلى سنوات قيل إنها خلت حيث تمنح المناصب الكبرى للأقرباء، وكذلك ما تم تأكيده من العديد من المصادر بأن يوسف الشاهد الذي اشتغل طويلاً في العهد الماضي في زمن الرئيس الأسبق بن علي كان أيضًا موظفًا لدى السفارة الأمريكية بتونس وهو ما يفتح باب الشبهات على مصراعيه حول تدخل الدول الأجنبية في اختيار أسماء المسؤولين السياسيين في تونس ودفعهم للعمل على مصالحهم.
بالإضافة إلى ما نشر من وثائق حول تلقي الشاهد للتعليمات الأمريكية سابقًا لإقناع السلطات في تونس بالمضيّ قدمًا في تبنّي وتسويق واستخدام التكنولوجيا الحيويّة في الزراعة في تونس، ورغم كل هذه الشبهات فقد استبشر البعض باسم الشاهد قائلين بأنه على الأقل تم اختيار اسم من الشباب لترؤس حكومة الوحدة الوطنية بعد سيطرة الشيوخ على السياسة في تونس وابتعادهم عن مشاكل الشباب، لكن الشاهد أبى بتشكيلته الوزارية الهجينة إلا أن يصدم التونسيين مرة أخرى ويثبت أن ما بني على باطل فهو باطل.
ويظهر ذهاب يوسف الشاهد نحو الفشل طواعية في اختياره لأسماء الوزراء وكتاب الدولة الذين سيعملون معه، فكل الأسماء التي تم اختيارها كشفت عن حالة كبيرة من الترضيات والمحاصصة وقعت من أجل استمالة جميع الأطراف السياسية والتي تم توزيعها على الوزارات دون أن تكون لها أي علاقة بأبسط أبجديات العمل فيها، فيما منحت أسماء أخرى الوزارات في شكل هدايا دون أحقية رغم تاريخها الأسود الذي يتحدث عنها.
ولعل أكثر الأسماء التي أثارت الجدل في حكومة يوسف الشاهد هو آخر من انتظره التونسيون ليكون وزيرًا في حكومة تشارك فيها النهضة وهو الذي طالما تحدث عن تورطها في اغتيال الشهيد شكري بالعيد، ألا وهو وزير الوظيفة العمومية والحوكمة عبيد البريكي، الذي جسم المثل القائل بأن الوفاء أصبح عملة نادرة مثلما قال هو ذات يوم عندما رفض المشاركة في حكومة تضم حركة النهضة، لكنه اليوم يقبل بنفس العرض، ضف على ذلك الأحاديث الكثيرة المنتشرة عن عدم جدارته بهذا المنصب وهو الذي كثيرًا ما كيلت له تهم استغلال المنصب والفساد، ومثله فعل أحد أكثر الأصوات شراسة في عداء ونقد حركة النهضة وهو سمير بالطيب الذي عين وزيرًا للفلاحة، فبعد ست سنوات من الاتهامات المتتالية لحركة النهضة بسفك الدماء أصبح اليوم شريكًا لها في الحكم، في وزارة يعتقد معظم المتابعين للشأن السياسي في تونس أن لا علاقة له بها وأنه لم يكن يومًا من المختصين فيها لكنها منحت له فقط من أجل كسب صمته.
ورغم كل هذه الحساسيات التي سيحدثها تشارك أعداء الأمس في الحكم وحجم العرقلة الذي ستتسبب به لحكومة الشاهد إلا أنه ضرب بكل تلك الحسابات عرض الحائط وفكر فقط في نيل أكبر رصيد من رضى مختلف الأطراف السياسية، وتجاهل كل متطلبات المرحلة الصعبة التي تمر بها تونس على مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتي تقضي بتكوين حكومة تضم وزراء رائدين في مجالهم يقضون على المشاكل التي تغولت في كل القطاعات، لكن ذلك بقي مجرد شعارات رنانة ألقاها الرجل المقرب من السبسي ورائه، ومثال ذلك تعيينه لاسم ماجدولين الشارني وزيرة للشباب والرياضة فقط لأنها أخت أحد شهداء الإرهاب في تونس من قوات الأمن، حيث يتهمها الكثيرون بأنها لا تملك في سيرتها الذاتية شيئًا غير صفة أخت الشهيد التي ظلت تتاجر بها للحصول على أكبر قدر من المناصب، فبعد أن كانت في السابق كاتبة دولة لدى وزير الشؤون الاجتماعية مكلفة بملف شهداء الثورة وجرحاها لم تنجح حتى في ضبط قائمة نهائية لشهداء وجرحى الثورة، وأصبحت اليوم وزيرة للرياضة بقدرة قادر.
ولم يحاول يوسف الشاهد حتى مجرد التخلي عن بعض الوزراء الذين أثبتوا فشلهم في الحكومة السابقة، فعوض التخلي عنهم واصل الاعتماد عليهم في نفس خططهم أو في خطط جديدة مثل وزيرة السياحة سلمى اللومي التي رغم إقرار الجميع بفشلها في الإشراف على وزارة السياحة فإن الشاهد حافظ عليها على رأس هذه الوزارة متجاهلاً كل الانتقادات والدعوات لإقالتها.
وحتى وزير التربية ناجي جلول الذي تؤكد كل المؤشرات أنه كان أحد الأسباب في ضرب قطاع التعليم وتهميشه وتصعيد المواجهة مع النقابات فإنه حافظ على تواجده على رأس هذه الوزارة، ومثلهما حافظ أمين عام حركة النهضة زياد العذاري على تواجده في الحكومة من بوابة جديدة بعد أن كان وزيرًا للتشغيل ليصبح وزيرًا للطاقة والتجارة، رغم أن العذاري لم يثبت أي استحقاق بمنصبه طوال عمله على رأس وزارة التشغيل، فلا أرقام العاطلين انخفضت ولا مواطن الشغل زادت، وعوض التخلي عنه قرر الشاهد مكافأته بمنصب وزير على وزارتين وقع إدماجهما في وزارة واحدة (وزارة الطاقة ووزارة التجارة) فقط من أجل المحافظة على التوافق المزعوم بين حركة النهضة ونداء تونس.
ولم تتوقف مشاكل حكومة يوسف الشاهد عند أسماء الوزراء، فحتى الأسماء التي حظيت بمناصب كتاب الدولة لم تخل من الشخصيات المثيرة للجدل، حيث قام يوسف الشاهد بتعيين كاتب دولة مكلف بالتجارة كان آخر أمين مال لمنظمة طلبة التجمع الدستوري المنحل في تونس زمن النظام السابق، كما أن ذات الاسم متهم في قضايا فساد مالي وهو فيصل الحفيان، مما أسال الكثير من الحبر خصوصًا أن هذا الاسم هو أحد المستشارين المقربين من رئيس الجمهورية الحالي الباجي قايد السبسي صاحب مبادرة حكومة الوحدة الوطنية التي كونها الشاهد، بالإضافة إلى اسم آخر وهو رضوان عيارة والذي عين كاتب دولة للشؤون الخارجية مكلف بالهجرة والتونسيين بالخارج والذي كان يشغل منصب كاتب عام لجنة تنسيق التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل بمدينة ألمانية.
ومما لا يدع مجالاً للشك أن رئيس الحكومة المكلف يوسف الشاهد قد اختار تجاهل كل الانتقادات حول الأسماء التي عينها حيث أراد فقط ترضية مجمل الأحزاب في البلاد من أجل ضمان فترة حكم بأقل أصوات معارضة دون أن يأخذ بباله أن حكومة غير متجانسة لن يكتب لها النجاح أبدًا، لكنه رغم ذلك يواصل في سياسة المحاصصة وتوزيع الكعكة دون اهتمام بما يقوله المتابعون للشأن السياسي في تونس ورغم علمه بكل هذه الحسابات إلا أنه اختار أن يكون “شاهد ما شفش حاجة”.