الأممية الموقفية “Situationist International” هي حركة ثورية في الميادين السياسية والفنية في النصف الثاني من القرن العشرين، بدأت في عام 1957، وظلت نشطة في أوروبا حتى عام 1972 في مسيرة طمحت إلى التغيّرات السياسية والاجتماعية.
رفضت الحركة رفاهية الرأس مالية واعتبرتها مصطنعة، حيث رفضت فكرة ظاهرة نجاح الرأسمالية مثل التقدم التكنولوجي والزيادة في الدخل، وكذلك الرفاهية المجتمعية، ولم تؤمن باستطاعة الرأسمالية التغلب على الخراب المجتمعي الذي تسببت فيه في ذات الوقت.
كان لأتباع الحركة اسم “الموقفيين الدوليين”، وهم من أسسوا نظرية “المشهد” أو “situationist theory”، وهي النظرية التي تنقد الرأسمالية نقدًا ملموسًا، حيث رأى الموقفيون الدوليون بأن الرأسمالية قد انحرفت عن المبادئ الأولية المكتوبة لكارل ماركس، على الرغم من أن تحليل ماركس للرأسمالية كان صحيحًا بالنسبة إليهم، إلا أن بالنسبة إليهم انحرفت الماركسية انحرافًا شديدًا عن المبادئ المكتوبة، وتمثل ذلك فيما اسموه بـ “شهوانية المنتجات”.
اعتبر الموقفيون الدوليون شهوانية المنتجات بداية لخراب مجتمعي وثقافي، فتبادل المنتجات يؤدي إلى اختلال الحياة الإنسانية، واعتبروا أن هناك العديد من البدائل لإشباع الحاجات الإنسانية غير شراء المنتجات وتبادلها، فاعتبروا أن التجارب الفردية بدورها تشبع الرغبات الأصلية وبطريقة مباشرة، ولكن الاهتمام الملحوظ بالمنتجات الناتج عن الرأسمالية هو أساس الخراب الاجتماعي والتي أطلق عليها الموقفيون الدوليون اسم “التغريب الاجتماعي”.
تختلف حركة الموقفية الدولية عن أغلب الحركات التمردية في كونها ركزت على الفن، حيث حاول الموقفيون الدوليون تحويل الفن إلى واقع يعيشه المرء يوميًا، ليتحول من مجرد عالم خيالي، إلى عالم حقيقي وأصلي ومفعم بالحيوية، لذا تم وصف الحركة بأنها الحركة الثورية الفنية المتمردة في السياسة والمجتمع.
لم يكن هدف الموقفيين الدوليين القيادة أو التزعم أو السعي وراء السلطة والتملك، بل كان هدفهم التمرد والتغيير، ولكن بطريقة فنية، فلم يطلقوا على أنفسهم حركة ثورية، بل كانوا مجموعة من الفنانين والكتاب نقدوا الاستهلاكية في الحركات الشرائية حول العالم عن طريق الفن، وذلك عن طريق التعبير عن مواقف حياتية تعبر عن الفرد.
قام الموقفيون الدوليون منذ عام 1957 وحتى عام 1972 بنشر المقالات، ورسم اللوحات وتصميم المشاريع الفنية، وإخراج الأفلام ونشر الكتب، كما كانوا هم من بدأوا ثقافة الاعتراض والتمرد عن طريق فن الجرافيتي على الجدران في أوروبا، كما كانوا أول من شجع حركة التمرد الشعبية من قِبل الشباب في أحداث الشغب والمظاهرات في فرنسا في مايو عام 1968، عام الإضراب العام في فرنسا، في فترة عنيفة من الاضطراب المدني سادتها الإضرابات العامة والاعتصامات في المصانع والجامعات في أنحاء الجمهورية الفرنسية بدفع من الطلبة والعمال والاشتراكيين والشيوعيين.
“لأننا لن نكون قادة للعالم، فسنسعى على الأقل لتغيير العالم”
هذا هو المبدأ الذي سار عليه الموقفيون الدوليون، وهذا ما تم نشره في كتاب مجمع عام 1957 بعنوان “المذكرات” وهو أول كتاب يجمع فيه الأعمال الفنية للموقفيين الدوليين ويشرح فيه فكرهم التمردي على الرأسمالية في العالم، تم تجميع أعمالهم في هذا الكتاب من صفحات الجرائد والمعارض والصور الملصقة على الجدران، وكذلك من الرسومات الكرتونية “فن الكوميكس” من الصحف والمجلات والإعلانات.
فن الكوميكس المتمرد في كتاب المذكرات
قام الموقفيون الدوليون بالترويج لمفاهيم جديدة، مثل “وحدة التمدين” أو بالإنجليزية ما يدعى بالـ “unitary urbanism” وهي ببساطة ما يعني المدنية الواحدة، أو في سياق علمي نفسي آخر “الجيوغرافية النفسية”، وهي ألعاب صممها الموقفيون الدوليون أنفسهم ليتم لعبها مجانيًا في المدن، يقوم أتباع حركة الموقفية الدولية من خلالها بالتقاط ردود أفعال البشر تجاه مفاهيم سياسية معينة، ويقومون بعكاسها بطريقة فنية في مشاريعهم.
استطاعت الحركة من خلال ألعاب “الجيوغرافية النفسية” السابقة من تأليف كتاب يدعى “The Society of the Spectacle” أو “مجتمع المشاهد”، وهو كتاب يجمع 221 رسالة بحثية تضم الفلسفة النقدية للماركسية، وهو من أهم الكتب للحركة الموقفية الدولية، يشرح فيه تطور المجتمع الحديث، واستبدال الحياة الاجتماعية الأصلية بكل ما هو اصطناعي، كما يروي فيه عن استعمار السلع الاستهلاكية الحياة الحديثة للمجتمع، حيث يبين فيه العلاقة بين الروابط المجتمعية وعلاقات الأفراد بالسلع، مع غياب الأصالة في وجود الحداثة، ووضع كل العوائق أمام الفكر النقدي، والذي يتبناه أتباع الحركة.
يمكنك مشاهدة فيلم (The Society of the Spectacle)، لمعرفة المزيد عن حركة الموقفية الدولية، وهو الفيلم المقتبس من الكتاب بنفس الاسم للكاتب جاي ديبورد، أحد المؤثرين في حركة الموقفية الدولية، والذي يستخدم فكرة الكتلة التسويقية “mass marketing” ودورها في حداثة المجتمع.
مقطع من مقاطع الفيلم
على الرغم من عدم استكمال الحركة حتى يومنا هذا، إلا أنه كان لها تأثيرًا قويًا على مختلف الأصعدة الفنية، لازال مسموعًا ومرئيًا حتى اليوم، وذلك عن طريق استخدام الصور التي قاموا برسمها، أو الشعارات التي استخدموها في مسيرتهم في الحركات التمردية أو الثورية الآن، ليس هذا فحسب، فيمكن أن تراها مستخدمة في الإعلانات اليومية، أو في الأفلام السينمائية كذلك، كما وُجدت مفاهيم الموقفية الدولية في الأدب العالمي، وكذلك في الأغاني التي أُنتجت في أواخر السبعينات.