ترجمة حفصة جودة
“قام اثنين من اللاعبين السود من الولايات المتحدة باستعراض رديء على الملأ، مما أدى لاشتعال أحد الخلافات الكريهة في تاريخ الأولمبياد، وتحولت الدراما العالية في اللعبة إلى مسرحًا للعبث”.
هكذا وصفت جريدة التايمز المشهد العريق لتومي سميث وجون كارلوس حين قاما برفع قبضتهما عاليًا وهما يرتديان قفازات سوداء (تحية حركة “القوة السوداء” التي ظهرت لدعم حقوق السود في أمريكا)، أثناء وقوفهما على منصة استلام الميداليات مع رفضهما النظر للعلم الأمريكي.
بالطبع كان ذلك عام 1968، عقب اغتيال مارتن لوثر كينج بشهور، وكانت البلاد غارقة في الكثير من أعمال الشغب في هذا العام وقبله بعدة أعوام.
كانت تشريعات الحقوق المدنية مازالت حيز التنفيذ، بينما كانت قوانين جيم كرو للتمييز العنصري مازالت في الكتب ويتم تطبيقها في الكثير من أنحاء البلاد.
هل يعيد التاريخ نفسه؟
لقد تم استنكار ما فعله سميث وكارلوس، وفي النهاية تم طردهم من الألعاب الأولمبية، وقال المتحدث باسم اللجنة الأولمبية الدولية حينها “لقد خرقوا المبادئ الأساسية للروح الأولمبية! كيف يجرؤون على ذلك؟”.
لكن التاريخ أنصفهم بعد ذلك، فاليوم تمتلئ أمريكا بالحركات المطالبة بحياة أفضل للسود، لذا ألم يكن من الأفضل أن يتم توجيه غضب التيار الأمريكي نحو العنصرية البشعة والتمييز العنصري الذي بُنيت عليه البلاد وما زالوا يعانون منه، بدلاً من صب غضبهم على سميث وكارلوس، لكن السخرية بالطبع كانت الطريقة الأسهل، ودعوتهم بالمشاكسين والمتشددين بدلاً من التفكير في سبب احتجاجهم وتواطؤ المجتمع والمشاركة في ظلمهم.
ما مدى واقعية أن يكون حدثًا عالميًا منفصلاً تمامًا عن السياسة العالمية؟ وما هي “الروح الأولمبية” تلك، الموجودة في الفراغ والتي تختفي عندما تتجه عقول وقلوب الناس نحو العالم السياسي فجأة؟
لقد فكرت كثيرًا في هذا الحادث في الأيام الماضية أثناء الدورة الأولمبية الحالية في البرازيل، مع وجود اهتمام كبير بحادثتين بين اللاعبين العرب والإسرائليين، الأولى عندما رفض مجموعة من اللاعبين اللبنانيين الركوب في الحافلة مع لاعبين إسرائيليين، والثانية عندما رفض لاعب الجودو المصري مصافحة منافسه الإسرائيلي بعد المباراة.
سخرت وسائل الإعلام الغربية من مواقف اللاعبين العرب ووصفت أفعالهم بالصبيانية وأنها لا تتناسب مع الروح الرياضية، وكانت هناك مناقشات قليلة عن جذور المظالم وتفسير الأحداث كأعمال سياسية، وقام أحد المعلقين باستغلال تلك الأحداث لوصف العقل العربي بـ “المريض”.
إنها السياسة دائمًا
ما مدى واقعية أن يكون حدثًا عالميًا منفصلاً تمامًا عن السياسة العالمية؟ وما هي “الروح الأولمبية” تلك، الموجودة في الفراغ والتي تختفي عندما تتجه عقول وقلوب الناس نحو العالم السياسي فجأة؟
كنت أتساءل هل حدث أن قام لاعب إفريقي برفض مصافحة لاعب أبيض تعبيرًا عن التمييزالعنصري في جنوب إفريقيا؟ في الحقيقة كانت تلك الحالات محدودة جدًا لأن التمييز العنصري في جنوب إفريقيا قد تم حظره منذ الدورة الأولمبية عام 1964 وحتى سقوط نظام التمييز العنصري.
مازالت الروح الأولمبية سياسية نوعًا ما، ففي عام 1980 قاطعت الولايات المتحدة دورة الألعاب الأولمبية إبان غزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، واليوم تقوم إسرائيل بالفصل العنصري الاستيطاني الاستعماري، مما حوّل ملايين الفلسطينيين إلى لاجئين ومواطنين من الدرجة الثانية وشعب عديم الجنسية يعيش تحت رحمة الاحتلال العسكري.
تقوم الدول الغربية بدعم هذا الاستعمار بكل إخلاص، وفي الوقت نفسه تسخر من الاحتجاج العربي ضد إسرائيل في دورة الألعاب الأولمبية.
في عام 1970، كانت هناك حملة ملصقات لمناهضة التمييز العنصري في لعبة “الكريكت” تطالب بألا يكون لاعبي فريق الكريكت في جنوب إفريقيا جميعهم من البيض، وكان شعار الحملة يقول “إذا كنت ترغب في رؤية الرياضة الوطنية، فربما لست مهتمًا بمشاهدة الكريكت”، ظهرت هذه الكلمات فوق صورة لأحد عناصر الشرطة وهو يضرب أحد المواطنين السود، فأين الروح الأولمبية في ذلك؟
روح الأولمبياد الحقيقية
في فلسطين، كانت روح الأولمبياد حاضرة في النفوس المفعمة بالأمل، لكن الاحتلال الإسرائيلي قام بقمعها عن طريق بعض الإجراءات والسياسات الباطلة، أنا متأكد من أن الروح الأولمبية كانت موجودة في نفوس أولاد بكر: الأطفال الصغار الأربعة الذين كانوا يلعبون كرة القدم على شواطئ غزة قبل أن تقوم البحرية الإسرائيلية بقصفهم، لقد كانت موجودة أيضًا في نفوس الفلسطينيين الذين تجمعوا لمشاهدة المونديال ثم قام صاروخ إسرائيلي بإنهاء حياتهم.
كانت هذه الروح موجودة في الفتاة الفلسطينية – 8 أعوام – من الخليل، والتي ربما كانت لتمثل فلسطين الحرة يومًا ما في رياضة ركوب الدراجات، حتى قام جندي إسرائيلي برمي دراجتها بعيدًا وتركها تبكي، لأنها كانت تسير بالقرب من أحد الشوارع التي لا تستطيع دخولها لأنها ليست فتاة يهودية.
كانت موجودة أيضًا في محمود بدران البالغ من العمر 15 عامًا، والذي أحب ريال مدريد وأحب كرة القدم، وكان يسبح مع أبناء عمومته في بركة محلية – ربما كان ليسبح يومًا ما من أجل الميدالية الذهبية – لكن حياته انتهت عندما قام جندي إسرائيلي بإطلاق النار عليهم أثناء عودتهم إلى المنزل تلك الليلة، دون أي سبب.
أستطيع أن أفهم الرغبة في وجود الروح الرياضية، كعاشق للرياضة أقدرها كطريقة لتجاوز الانقسامات، باعتبارها لغة إنسانية.
ما لا أستطيع فهمه أو قبوله، هو هذا الغضب من أعمال الاحتجاج البسيطة تلك، دون الغضب من سبب تلك الاحتجاجات – الحرمان الشامل لملايين الفلسطينيين من حقوق الإنسان الأساسية -.
إذا كانت هذه هي فكرتك عن الروح الأولمبية، فأنا لا أرغب أن أكون جزءًا منها، وكما أنصف الزمن سميث وكارلوس، فسوف يأتي اليوم الذي يقوم فيه هؤلاء الذين يغضبون من الاحتجاج ضد إسرائيل أكثر من غضبهم من معاملة إسرائيل للفلسطينيين، بطأطأة رؤوسهم خجلاً.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية