في الوقت الذي أعلن فيه العالم انبهاره بالتطور التكنولوجي الهائل الذي أفرز ما سمي بـ “شبكات التواصل الاجتماعي” والذي ساهم في فتح قنوات الاتصال والتواصل بين مختلف الجنسيات والأعراق والأعمار بصورة فندت وبشكل كبير جملة مارشال ماكلوهان الخالدة “العالم صار قرية كونية صغيرة”، لتحل محلها عبارة “العالم بات شاشة مصغرة”.
وسواء اتفقنا أو اختلفنا ستظل مواقع التواصل الاجتماعي واقعًا لا يمكن تغييره، فهي خلقت لتبقى، لذا كان التعامل معها بحذر، قضية قومية، خاصة لما تحمله من تهديدات ومخاطر تنسحب على كافة المجالات وليس الاجتماعية فقط كما يتوهم البعض.
“نون بوست” في هذه الإطلالة يسعى للإجابة عن السؤال التالي: هل استطاعت هذه التكنولوجيا بالفعل أن تكون وسيلة اتصال فعالة وصادقة بين أفراد الأسرة العربية أم أنها قلصت من مشاعر الاتصال وأدت إلى انفصال وتفكك في علاقاتنا ومشاعرنا الاجتماعية الحقيقية، وإلى زيادة في همومنا ومشكلاتنا اليومية بما تحمله هذه التكنولوجيا من مخاطر مستجدة؟
90 مليون مستخدم عربي
تمثل مواقع التواصل الاجتماعي وجبة دائمة الحضور على موائد الاهتمام العربي، على مدار اليوم والساعة، لا فرق هنالك بين متعلم وأمي، فقلما تجد مواطنًا لديه الحد الأدنى من القراءة والكتابة ليس لديه حساب على أي من هذه المواقع، إضافة إلى أن كثير من غير المتعلمين لديهم حسابات على هذه المواقع تم تدشينها بواسطة أصدقاء لهم، مكتفين بمتابعة الصور والفيديوهات وإجراء المكالمات الصوتية والمرئية.
وبحسب آخر إحصائيات رواد هذه المواقع في العالم العربي، هناك 90 مليون مستخدم لموقع “فيسبوك” في 22 دولة عربية، بنسبة قدرها 23% من إجمالي عدد السكان، وجاء موقع “تويتر” في المركز الثاني بإجمالي عدد مستخدمين يقدر بـ 50 مليون.
90 مليون مستخدم لموقع “فيس بوك” في 22 دولة عربية، بنسبة قدرها 23% من إجمالي عدد السكان
أما من حيث نوع وأعمار رواد شبكات التواصل، فإن عدد الذكور المستخدمين لهذه المواقع بلغ 65%، مقابل 35% من الإناث، كما تصدرت فئة الشباب التي تتراوح أعمارهم بين 15 و35 عامًا قائمة المستخدمين لتصل إلى 70% من إجمالي عدد رواد هذه المواقع في العالم العربي.
كما تتصدر مصر قائمة الدول الأكثر استخدامًا لمواقع التواصل الاجتماعي بإجمالي 21 مليون مستخدم، بنسبة 25% من إجمالي عدد الرواد العرب، يليها المملكة العربية السعودية بإجمالي 9.8 مليون مستخدم بنسبة 12%، ثم تأتي العراق في المركز الثالث بـ 8.4 مليون مستخدم بنسبة 10%، تليها الجزائر بـ 8.2 مليون مستخدم بنسبة 9.5%، ثم الإمارات بإجمالي 5.7 مليون مستخدم بنسبة 5%، مقابل 4.5 مليون بتونس بنسبة 4.5% ثم الأردن بإجمالي 3.4 مليون مستخدم بنسبة 4%.
الإحصائيات أشارت إلى تصدر الصومال وجيبوتي وجزر القمر، قائمة الدول الأقل استخدامًا لمواقع التواصل الاجتماعي، حيث بلغ العدد في الصومال 310 ألف مستخدم، وفي جيبوتي حوالي 88 ألفًا، وفي جزر القمر حوالي 41 ألفًا.
نصف العرب يثقون في شبكات التواصل
في دراسة حديثة أعدها الباحث الدكتور هشام البرجي وعنون لها بـ “تأثير استخدام تكنولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت على العلاقات الاجتماعية للأسرة المصرية”، خصص أحد فصولها لتناول واقع هذه الشبكات على الأسرة العربية بصورة عامة، مستهدفًا التعرف على مدى تأثير شبكات التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت على العلاقات الأسرية بين أفراد الأسرة العربية، والتعرف على أهم الآثار النفسية والاجتماعية المرتبطة باستخدام شبكات هذه الشبكات لدى المستخدمين من أفراد الأسرة، وأهم دوافع استخدام هذه الشبكات لدى الأطراف المختلفة.
الباحث توصل في نهاية دراسته إلى أن ما يزيد عن 53.8% من الآباء لديهم ثقة كبيرة في المحتوى المقدم لأبنائهم عبر هذه الشبكات، وأن نسبة كبيرة من هذه الثقة تعود إلى المعرفة الجيدة باهتمامات الأولاد ومن ثم فهم لا يتعرضون إلا لما يتناسب مع هذه الاهتمامات.
نصف الآباء يثقون في المضمون المقدم عبر شبكات التواصل الاجتماعي
المثير للدهشة أيضًا في هذه الدراسة أن ما يقرب من 82.4% من المبحوثين لديهم قناعة تامة أن هذه الشبكات تساهم في تغيير سلوك أولادهم للأفضل مقارنة بما كانوا عليه في السابق، لاسيما فيما يتعلق بحرية التعبير عن الرأي، والاستفادة من مختلف الآراء الأخرى بصورة تنمي منظومة الوعي والثقافة لدى المستخدمين.
وفي المقابل توصلت الدراسة إلى أن ما يقرب من 55.8% من الآباء لديهم قناعة أن استخدام أولادهم لبعض مواقع شبكات التواصل الاجتماعي قد أثر على علاقاتهم الاجتماعية بالأسرة بشكل سلبي، لاسيما فيما يتعلق بإهدار الكثير من الوقت في الجلوس أمام هذه المواقع بما ينتقص من الوقت المخصص للجلوس مع أهله وأصدقائه داخل محيط الأسرة.
من خلال هذه الدراسة وما توصلت إليه من نتائج يمكن استشعار الخطر على الأسرة بصورة عامة، خاصة في ظل الثقة الزائدة لدى الآباء والتي تتجاوز النصف تقريبًا حول ما يقدم عبر شبكات التواصل الاجتماعي، في الوقت الذي يحذر فيه خبراء الاجتماع والنفس من مخاطر ما يعرض على هذه المواقع.
10 مخاطر كارثية
(بالرغم مما تحمله شبكات التواصل الاجتماعي من إيجابيات لا يمكن أن ينكرها أحد إلا أنها تحمل بين ثناياها مخاطر عدة صعب أن يغض الطرف عنها…) بهذه العبارات استهلت الدكتورة سميرة موسى، أستاذ الإعلام بجامعة كفر الشيخ بمصر، حديثها عن تأثير هذه المواقع على المستخدم بصورة عامة.
موسى في حديثها لـ “نون بوست” لخصت أبرز المخاطر التي من المحتمل أن يتعرض لها رواد مواقع التواصل الاجتماعي في عشر نقاط محورية، أبرزها انعدام الخصوصية حيث تصبح ملفات المشاركين الشخصية عرضة للجميع، بما عليها من بياناتهم وصورهم الخاصة، إضافة إلى معلومات الوظيفة والسكن وما إلى غير ذلك، وما يمكن أن يمهد ذلك الطريق إلى التجسس والمراقبة لكل تحركات وأقوال وأفعال المستخدمين، إضافة إلى تضييع ما يزيد عن 35% من وقت المستخدم أمام هذه المواقع بما ينعكس سلبًا على حياته العامة.
مستخدمو هذه المواقع أكثر عرضة للإصابة بالعزلة الاجتماعية
ومن أبرز مخاطر مواقع التواصل الاجتماعي أيضًا كما تقول أستاذة الإعلام بجامعة كفر الشيخ، نشر الأخبار المغلوطة وغير الصحيحة والكاذبة أحيانًا، وفي ظل تراجع مستوى الوعي الكافي تصبح هذه الأخبار محل ثقة لكثير من الرواد مما يترتب عليها بناء رأي عام غير حقيقي مبني على معلومات مغلوطة بما يهدد الأمن والسلم المجتمعي، إضافة إلى ما أوردته نتائج بعض الدراسات التي أجريت مؤخرًا بشأن تأثير مواقع التواصل على إنتاجية الموظفين في العمل، حيث أشارت إلى أن 51% من الموظفين الذي تتراوح أعمارهم بين الـ 25- 34 عامًا يستخدمون هذه المواقع أثناء العمل، بما يؤثر على إنتاجيتهم بصورة كبيرة.
وفي سياق آخر فإن مستخدمي هذه المواقع أكثر عرضة للإصابة بالعزلة الاجتماعية فضلاً عن التأثيرات النفسية الأخرى التي سيرد ذكرها لاحقًا، إضافة إلى ما تحمله هذه المواقع من حملات ممنهجة قد تساهم في نشر الكراهية حال الإساءة لأشخاص بعينهم أو مؤسسات بعينها، فيتم التأثير بذلك على توجهات المستخدمين حيال هذه الأشخاص وتلك المؤسسات بما يزيد حالة الكراهية في المجتمع بصورة عامة.
واختتمت الدكتورة سميرة موسى حديثها عن مخاطر شبكات التواصل الاجتماعي بأنها أحد الأسباب الرئيسية في الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية، لاسيما وأن ما يقرب من 15% من الأعمال الإبداعية لبعض رواد المواقع قد تم سرقتها خلال العامين الماضيين فقط، في ظل غياب آلية تقنية تحفظ للأشخاص حقوق ملكيتهم الفكرية لما يقدمونه على صفحاتهم الخاصة وحساباتهم الرسمية، فضلاً عن مخاطر التعرض للقرصنة وسرقة البيانات الشخصية الموجودة على الجهاز مثل بطاقات الهوية وبطاقات البنك وغيرها واستغلالها بصورة غير قانونية.
وسيلة جيدة للتواصل
هناك خلط واضح في مفهوم تأثير شبكات التواصل الاجتماعي، وتحميلها وحدها مسؤولية ما يتعرض له المجتمع من انهيار للأخلاق، وعزلة اجتماعية، وتفكك أسري، وغياب للقيم والمبادئ ولغة الحوار، يعد تطرفًا في الفكر والرأي، لا يمكن التعويل عليه في بناء النظريات واستراتيجيات الإصلاح.
الدكتور صالح حزين أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس، يرى أن لشبكات التواصل الاجتماعي إيجابيات لا يمكن تغافلها، لاسيما فيما يتعلق بفتح قنوات الاتصال بين أفراد الأسرة الواحدة حال سفر الأب أو الأم أو الأبناء، فتقوم هذه المواقع بدور الوسيط الاتصالي الذي يقلل من مشاعر الغربة والاغتراب.
تتحميل شبكات التواصل وحدها مسؤولية ما يتعرض له المجتمع من انهيار يعد تطرفًا في الفكر والرأي ومخالفة للواقع والحقيقة
حزين أشار أيضًا في تصريحات له أن مواقع التواصل الاجتماعي أثّرت في الكثير من مجالات الحياة كالثقافة والفنون، وساعدت على التطوّر الفكري لفئة الشباب من خلال الاختلاط مع الآخر والتفاعل مع المتغيّرات، وإذابة الحواجز بين الشعوب، وهو ما يجب أن يحسب لها بعيدًا عن النقد المستمر الموجه لهذا التطور الذي لا يمكن التحليق بعيدًا عنه، ملفتًا أن وسائل التقدم التكنولوجي الحديثة سلاح ذو حدين، يتوقف تأثيره على كيفية استخدامه وتوظيفه، مطالبًا المجتمع بالقيام بدوره التوعوي في تبيان مخاطر هذه الوسائل فيتم تجنبها وإيجابيتها فيستعان بها.
كما أن هذه المواقع أثرت واقع المرأة العربية بصورة كبيرة، حيث ساهمت في زيادة مشاركة المرأة في الأحداث والتعبير عن رأيها بحرية، بعد سنوات من الكبت والتقوقع الأسري، وهو ما كان له أبلغ الأثر في ثورات الربيع العربي والتي لعبت فيها المرأة دورًا محوريًا.
تهديد للأسرة العربية
وفي المقابل شنّت الدكتورة سامية الساعاتي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، هجومًا حادًا على مواقع التواصل الاجتماعي، مشيرة أن هناك لغط كبير في المفهوم في حد ذاته، فتلك المواقع لا تعمل على التواصل الفعلي، بل هي مجرد عالم افتراضي يتلاقى فيه الأشخاص كل يعبر عما يجيش بخاطره بمفرده وبانعزالية تامة.
الساعاتي في حديثها لـ “نون بوست” حذرت من مخاطر شبكات التواصل على الأسرة العربية بصورة عامة، مشيرة أنه وبحسب دراسات علماء النفس والصحة النفسية فإن الإصابة بالأمراض النفسية والمجتمعية والتي تبلغ نسبة الإصابة بها حوالي 50% من العرب، تعود في جزء كبير منها إلى زيادة فترات الجلوس أمام هذه المواقع، ملفتة أن النسبة العظمى لظهور أعراض المرض النفسي باتت من نصيب الشباب الأكثر نشاطًا على شبكات التواصل، وهو ما يجب الوقوف عنده بعناية ودقة.
النسبة العظمى لظهور أعراض المرض النفسي باتت من نصيب الشباب الأكثر نشاطًا على شبكات التواصل
الساعاتي حذرت أيضًا من مخاطر شبكات التواصل على العلاقات الأسرية، مشيرة أنها من أكثر أسباب اتساع الفجوة بين أفراد الأسرة بصورة زادت من معدلات التفكك الأسرى في الآونة الأخيرة، منوهة أن علاقة المواطن العربي مع هذه المواقع باتت أقرب لـ “الإدمان” الذي يمثل خطورة على نسيج الأسرة وعلاقات أفرادها، فضلاً عما تتسبب به في تهديد تماسك المجتمع حين تقوم بتفتيت الجمهور وتقليص العلاقات الحية الواقعية الحقيقية بين الأفراد إلى العلاقات الافتراضية.
شبكات التواصل تفتت الأسرة وتفكك الكيان المجتمعي
وفي سياق آخر حذر الدكتور إمام حسين، الباحث بمركز البحوث الاجتماعية المصري من وقوع المواطن العربي في فخ الغزو الثقافي الفكري بسبب عشرات الساعات التي يقضيها يوميا أمام شبكات التواصل الاجتماعي، مؤكدًا أن هناك مخططات غربية ومؤامرات تستهدف الأسرة العربية وتفككها بما يسمح بإضعاف النسيج المجتمعي الدافئ الذي كان يمثل عصب المجتمع العربي قديمًا.
حسين أضاف في تصريحاته لـ “نون بوست” أن تراجع مستوى الوعي لدى المواطن العربي جعله لقمة مستساغة في فم المتربصين بالأمة من أعدائها في الشرق والغرب، حيث يتم بث السموم الفكرية والعقدية والمجتمعية بما يؤثر على البنيان الفكري العربي، ويعيد تشكيله وفق الرؤية الاستعمارية الجديدة دون الحاجة إلى غزو مسلح أو الدخول في حروب لا طائل من ورائها، حتى يصبح المواطن العربي “عجينة” سهلة التشكيل في أيدي أعداء الأمة يحققون من خلاله أهدافهم الخبيثة بأقل مجهود، وهو ما يعيشه المجتمع العربي هذه الأيام من ذوبان لمنظومته الثقافية والقيمية، وانبهار غير مسبوق بالغرب في كل شيء، على حد قوله.
تراجع مستوى الوعي لدى المواطن العربي جعله لقمة مستساغة في فم المتربصين بالأمة
الباحث في مركز البحوث الاجتماعية ناشد الحكومات العربية بمختلف مؤسساتها الثقافية والفكرية والمجتمعية بضرورة القيام بدورها المنوط بتوعية المواطن العربي بهذه التهديدات التي تستهدف الكيان العربي برمته، والعمل على إحياء فكرة الأسرة المترابطة من جديد بكل ما تتضمنه من لقاءات، واجتماعات، وحميمية في العلاقات، عبر سبل التربية والتنشئة الاجتماعية المختلفة، والاحتكاك والتفاعل بين مختلف الأجيال، فالتواصل الإنساني لا يضاهيه أيّ تواصل إلكتروني، حفاظًا على المجتمع العربي من التفتت وعلى الأسرة من التفكك.
مما سبق يتضح أن المجتمع العربي أمام تحد خطير لا يمكن تجاهله، فبالرغم مما تمثله هذه الشبكات من متنفس حقيقي للمواطن للتعبير عن أرائه ومعتقداته وفكره بحرية تامة، فضلاً عن كونها مساحة جيدة لتوسيع دائرة العلاقات والمعارف، إضافة إلى إثرائها لمنظومة الفرد الثقافية والتوعوية، إلا أنه وفي نفس الوقت تمثل خطرًا وتهديدًا مباشرًا للأسرة العربية، فهل تعي الحكومات هذه المخاطر وفق آلية ممنهجة للتعامل معها بصورة بحثية علمية مجتمعية؟ أم تكتفي بدور المشاهد إلى أن تحدث الكارثة ونجد أنفسنا أمام مجتمع لا يملك من العربية إلا هويته الشخصية المدفونة بين أوراق محفظته؟