“كانت أمي تخبرني دائمًا، أن الملائكة تحمي الصغار من الألم، تلهو معهم لتشغلهم عن أي شيء آخر، تحملهم معها عندما يموتون لتدخلهم الجنة فورًا، لكنني أعرف أنها كاذبة، أمي المسكينة، كانت دائمًا ما تجد أي سبب يمنحها بعض الأمل في العالم”.
في الأيام الماضية انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي صورة الطفل السوري ابن الخمسة أعوام “عمران داقنيش” وهو يبدو كتمثال وينظر بعيون ذاهلة إلى الكاميرات، بعد خروجه من تحت ركام منزله الذي تعرض لغارات جوية نفذتها مقاتلات النظام السوري أو الروسي الموالي لبشار الأسد، على حي القاطرجي في مدينة حلب السورية.
تلك الصورة التي تم تداولها سريعًا وتسببت في بكاء مذيعة الـ C.N.N، وقارن النشطاء حول العالم بينها وبين صورة الطفل السوري الآخر “إيلان”، الذي غرق على سواحل تركيا العام الماضي إثر انقلاب قاربهم أثناء محاولتهم الوصول إلى جزيرة كوس اليونانية.
وتوقع البعض أن تُحرك صورة عمران قلوب العالم وتُجبرهم على اتخاذ خطوات قوية وإجبار الحكومات على إنقاذ ما تبقى من أطفال سورية، في حين رأى آخرون أن صورته ستجاور صورة إيلان وستهدأ شعلة الألم والقهر بعد ساعات من تداول الصورة عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
“هل تعذب الصغير المسكين؟ لا أعتقد، أتمنى لو لم يكن قد تعذب، ربما شعر بالرغبة في النوم وسط البحر البارد، ربما نام فورًا من دون أن يتألم”.
جحيم الكوابيس والحقيقة
في روايتها الثانية، التي صدرت عن دار الرواق في يوليو 2016، تسلط نورا ناجي، الضوء على كل القبح والسوادوية التي تجتاح العالم، لتؤلمنا ونحن نتوغل في سطور روايتها التي كتبتها بكل ما يعتمل في داخلها كـ “أم” تخشى حد الجنون على طفلتها التي جاءت هذا العالم على حين حروب دموية مستعرة، بالرغم من أن صفحاتها العشرون الأولى قد توحي للقارئ أنه أمام رواية رومانسية مستعادة، عن فتاة أحبّت بإخلاص، ثم خذلها من أحبت.
“جمع الصور الوحشية المؤثرة، هي هوايتي الغريبة، صور أطفال محترقين، نساء يحاولن مقاومة موج البحر، وهن يحملن أطفالهن الرضع الميتين”.
بدأت الكاتبة أحداث روايتها التي قسمتها لثلاثة أقسام حسب المكان (القاهرة – دبي – سيول) قبيل الثورة المصرية، واستعرضت قصة حياة “حياة” خلال 7 سنوات وما طرأ عليها من تغيرات درامية مهولة ومربكة في حكي رائق ذي لغة رصينة ومفردات قوية بعيدًا عن التحذلق، أو العذوبة الفجة التي تطغى على الكتابات النسائية في كثير من الأحيان.
الحروب تصل إلى أبعد نقطة في الأرض
تبدأ “نورا” الرواية بجولة هجومية أثناء جلسة علاج نفسي لـ “حياة” في سيول عام 2015، تستعرض فيها ما قد يسببه متابعة الأخبار حول العالم من ثقل وإرهاق جسدي ونفسي، مبررة لنفسها ولطبيبها الذي طالبها بالتوقف عن متابعة هذا النوع من الأخبار السوادوية المقطرة بالدماء والعنف ومزينة بصور الضحايا بأنه لا يوجد خبر لا ينتشر، متهمة إياه بالتظاهر بالجهل.
“الجهل مريح، الجهل يمنحك الفرصة، للنوم بضمير مستريح كل ليلة، الجهل هو ما يُفرّق بيني وبينك، الجهل لا يحولك لمعتوه مثلي، تزوره الكوابيس في فراشه، وهو نائم وهو مستيقظ”.
لا أنكر انبهاري بقدرة الكاتبة على امتصاص كل ما مرّ عليها بحكم عملها – وإياي – لفترة من الوقت في موقع إخباري وبالتحديد في قسم يهتم بمتابعة الحوادث حول العالم ورصد ردود الأفعال عليها وتعليقات النشطاء والمغردين عليها في مواقع التواصل الاجتماعي وترجمة ما قيل عنها في المواقع الأجنبية، ومن ثم إدراجه بحرفية عالية في رواية محبوكة الأحداث.
لأكتشف بعد قراءة الرواية أن الكاتبة التي كانت تهرب في كثير من الأحيان من تكليف الكتابة عن أخبار تخص أطفال غرقى أو محترقين أو معذبين أو مفقودين تحت ركام منازلهم بفعل القصف، وتعلن لنا بوضوح في “جروب الخاص بالقسم” أنها لن تكتب عن الخبر أو تجمع مادته من الإنترنت حتى لا تطالع الصور والقصص، كانت تعود بعيدًا عن مهام العمل، لتقرأ هذه القصص وتتمعن في ملامح الأطفال وتبكي بشدة ينخلع لها قلبها، لتزداد هواجسها ورعبها الشخصي من أن العالم مكان موحش ومخيف، تخشى على طفلتها الصغيرة منه.
الجدار
فبطلة الرواية والتي هربت من القاهرة إلى دبي بعد التنحي بشهور قليل، بسبب صدمة عاطفية مؤسفة، تجد عملاً لها كمحررة صحفية في سيول – أو أبعد نقطة في العالم كما تحب الكاتبة أن تُسمي المدينة – لتقوم بترجمة الأخبار والكوارث الخاصة بالشرق الأوسط من العربية والإنجليزية إلى الكورية، ثم تتماهى مع الأحداث الرهيبة، فتقوم بتجميع صور كل المفجوعين حول الأرض، وتطبعها ومن ثم تعلقها على “جدار” مواجه لسريرها.
لا تعرف حياة لماذا تفعل ذلك، لكنها تواصل هذا الفعل بدأب ودون ملل أو كلل، كأن تجميع هذه الصور التي لا تنضب هو لعنتها السيزيفية، تجلس في الظلام كل ليلة، وتُخرج كشافها الصغير وتسلطه على صور بعينها، ليخرج لها أصحاب الصور، ويشاركونها قصصهم بتفاصيلها البشعة المؤلمة، وتجبرنا “نورا” على معرفة هذه التفاصيل إن كان سبق لنا وغضضنا البصر عنها.
“أطفال بحفاضاتهم، أطفال من كل الأعمار، مصفوفون على الأرض، يبدون وكأنهم نائمين، لكنهم زرق البشرة، الأزرق يغطي وجوههم، أجسادهم، شفاههم، ماتوا نيامًا، هم وآباؤهم، وأمهاتهم، وإخوانهم، وأجدادهم، ماتوا هم وألعابهم، وقططهم، وملابسهم الجديدة، ماتوا واستمر العالم في الحياة بشكل عادي، وكأنهم هباءٌ منثور”.
ليبدو لنا أن البطلة أرادت أن تتطهر مما مرّ بها في المواقع الإخبارية، بوضع صور هؤلاء الضحايا على الجدار، وكأن ممارسة فعل الحياة، بعد بشاعة رحيلهم، إثم يتوجب عليها التطهر منه، وها هي بفعلتها هذه تربت على أيديهم وتُخبرهم أن هناك في مكان ما، من يعرفكم ويأسف لرحيلكم ويُخلّد ذكراكم.
نهاية سعيدة لعالم بائس
لم تقفز الكاتبة بنا من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب كما يفعل البعض حين يُقرر أن يتخلى عن سوداوية ما يكتب في آخر فصل من العمل، بل بدأت روايتها بلقاء البطلة مع طبيب نفسي، وحاولت الكاتبة أن تشد من أزر البطلة وتُخلّصها مما تنوء به، خلال فصول الرواية التي جاءت غير متتالية الأحداث، لتبدو لنا النهاية كقراء، طوق نجاة مما أُجبرنا على الخوض في تفاصيله.
لتقتنع البطلة أن كل هؤلاء الضحايا، في مكانٍ أفضل، وأن الموت ليس نهاية بشعة كما تتصور، على العكس، الموت يضع نهاية لنيران القصف والأمواج العاتية الباردة، وصوت القنابل والانفجارات، أما ألم الموت، فأظن أن البطلة، صدّقت – أو أرادت أن تُصدّق – ما سبق وأن قالته أمها: الملائكة تحمي الصغار من الألم، تلهو معهم لتشغلهم عن أي شيء آخر، تحملهم معها عندما يموتون لتدخلهم الجنة فورًا.