شاركت مليشيات عراقية طائفية إلى جانب القوات الحكومية في تحرير مدينة الفلوجة من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في شهر يونيو الماضي بدعم أمريكي جوي، رغم تحذيرات عدة منظمات حقوقية دولية من السجل الإجرامي الطائفي في المعارك السابقة لهذه المليشيات وعلى رأسها الحشد الشعبي الشيعي.
أظهر تحقيق أعدته وكالة رويترز للأنباء صحة التحذيرات التي وجهت لواشنطن وللحكومة العراقية بخصوص ملف “الحشد الشعبي”، ورغم اعتراف الجانب الأمريكي بالانتهاكات التي مارسها الحشد، إلا أنه اتضح أن ما أعلن عنه جزء يسير من انتهاكات لا حد لها تتضمن احتجازات وتعذيب وكافة أشكال الانتهاكات بحقوق عدد من المدنيين السنة يفوق بكثير ما أعلنه المسؤولون الأمريكيون كما تبين لوكالة رويترز.
فرغم التهديدات الأمريكية المتواصلة للحكومة العراقية وللحشد الشعبي بشكل مباشر، إلا أن عناصر الحشد الشعبي لم تنسحب من معركة الفلوجة، وشارك بعضها في جرائم سلب ونهب هناك، وهي الآن تتوعد بتحدي أي جهد أمريكي للحد من دورها في عمليات قادمة ضد مناطق سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
قاعدة جبل الجليد من الانتهاكات تظهر
حاولت الولايات المتحدة تحجيم مليشيات الحشد الشعبي أثناء المعركة بشتى الطرق للحد من انتهاكاتها الموثقة بحق المدنيين السنة بما في ذلك التهديد بسحب الدعم الجوي الأمريكي حسب روايات مسؤولين أمريكيين وعراقيين لرويترز، لكن لم تحدث هذه الجهود الأمريكية أي تأثير يذكر.
وقد مضت مليشيا الحشد الشعبي في مشوارها بجانب القوات العراقية، حتى ظهر الآن أنه لا يزال أكثر من 700 مدني سني – من البالغين والقصر – مفقودون بعد ما يزيد على شهرين من سقوط المدينة، دون أن يعرف أحد مصيرهم.
كما وثق تقرير رويترز قتل الميليشيات 66 مدنيًا سنيًا – على الأقل – وانتهكت حقوق ما لا يقل عن 1500 آخرين أثناء فرارهم من منطقة الفلوجة، حسب ما ورد في لقاءات أجرتها وكالة رويترز مع أكثر من 20 شخصًا ما بين ناجين وشيوخ عشائر وساسة عراقيين ودبلوماسيين غربيين.
الشهادات الحية تقول إن عناصر من الحشد الشعبي أطلقوا النار بلا تردد على رجال وصبية وضربوا آخرين بل وذبحوا البعض، فيما أعلنت رويترز أن نتائج تحقيقها من خلال هذه الروايات اتفقت مع نتائج تحقيق أجرته السلطات العراقية المحلية، وشهادات مسجلة بالفيديو وصور فوتوغرافية التقطت لناجين فور نجاتهم، واطلعت عليها رويترز هي الأخرى لمطابقتها بالشهادات الحالية.
واشنطن بين نارين
لا تخفي الولايات المتحدة علمها بجرائم الحشد الشعبي بمناطق السنة المحررة والتي لا تقل فظاعة عما تفعله داعش، كما لا تقوى السلطات العراقية الحالية على كبح جماحها بعد محاولات مواجهة عديدة مع نفوذها تارة، وأحيانًا أخرى بمحاولة استئناسها وترويضها بإعطائها صبغة حكومية تمكن السلطات من حسابها، لكن يبدو أن هذه الاستراتيجيات فاشلة حتى الآن.
حتى ظهر الآن أنه لا يزال أكثر من 700 مدني سني – من البالغين والقصر – مفقودون بعد ما يزيد على شهرين من سقوط مدينة الفلوجة، دون أن يعرف أحد مصيرهم.
اتساع رقع المعارك في العراق، والاستعداد لأهم معركة قد تخوضها العراق أمام معقل تنظيم الدولة الإسلامية هناك “مدينة الموصل” جعل الجميع يصم آذانه ويغلق عينه أمام جرائم العنف الطائفي التي تحدث على هامش كل معركة.
الآن تضع واشنطن مع الحكومة العراقية خطة استعادة مدينة الموصل الأكبر حجمًا من تنظيم الدولة، ومع إطلاق العمليات التمهيدية لتطهير المناطق الواقعة خارج المدينة الاستراتيجية منذ أشهر تتعاظم المخاوف من نتائج هذه المعركة على المستوى الطائفي.
حيث يخشى الزعماء السنة في هذه المناطق ذات الأغلبية السنية، وتحذر المنظمات الدولية من ارتكاب الحشد الشعبي الشيعي انتهاكات جديدة بحق المدنيين، يتوقع البعض أن تكون أسوأ بكثير مما حدث في المعارك الأخرى وآخرهم الفلوجة.
إذ إن الموصل ثاني أكبر مدن العراق ذات الأغلبية السنية الواقعة تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” يعني أن رقعة الانتهاكات الطائفية ستكون أكبر وأشد عنفًا وشراسة، إذا ما ظلت مليشيات الحشد الشعبي دون رقابة، وهو الأمر الذي يثير قلق المسؤولين الأمريكيين الذين قلت قدرتهم على السيطرة على العنف الطائفي بعد أن أطلقوه منذ غزوهم للعراق.
وما بين الاستعداد لمعركة الموصل الفاصلة والعجز أمام مليشيات الحشد الشعبي، يبقى مصير مئات الآلاف من المدنيين السنة معلقًا، وهو ما قد يُصعب بالأساس من عملية استعادة المدنية خشية من انتقام المليشيات الطائفية التي تتعامل مع سكان المدن الواقعة تحت سيطرة داعش بعداوة غير مبررة باعتبارهم حاضنة شعبية للتنظيم.
وثق تقرير رويترز قتل الميليشيات 66 مدنيًا سنيًا – على الأقل – وانتهكت حقوق ما لا يقل عن 1500 آخرين أثناء فرارهم من منطقة الفلوجة
كما يقول مسؤولون أمريكيون إنهم يخشون أن تقضي انتهاكات الحشد الشعبي إن تكررت في الموصل على فرص المصالحة بين سنة العراق وشيعته للأبد، وقد صرح مسؤول بارز بإدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في حديث خاص لوكالة لرويترز قائلًا: “في كل حديث دار بيننا فيما يتعلق بتخطيط الوضع في الموصل، وفي كل حديث أجريناه مع العراقيين، كان هذا فعليًا موضوعًا محوريًا”.
تجاهل منذ البداية
هذا في الوقت الحاضر تعترف الولايات المتحدة بالمشكلة أما سابقًا مع توارد روايات الناجين على وسائل الإعلام والمسؤولين العراقيين ومنظمات حقوق الإنسان عن انتهاكات الفلوجة قلل المسؤولون الأمريكيون في واشنطن في البداية من شأن المشكلة ولم يكشفوا عن فشل المساعي الأمريكية لتحجيم تلك المليشيات الطائفية.
لكن بعد وقوع جرائم وحشية موثقة بحق المدنيين السنة في الفوجة؛ أبدى بريت مكجيرك المبعوث الأمريكي الخاص للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد الدولة الإسلامية قلقه مما وصفه بأنه “تقارير عن أعمال وحشية منفردة” ضد السنة الفارين.
لكن الحقيقة على عكس ما وصفه المسؤول الأمريكي بالأعمال “المنفردة”، إذ إن صهيب الراوي محافظ الأنبار أبلغ قبل ذلك السفير الأمريكي بأن هناك مئات المفقودين حول الفلوجة بعد أن احتجزتهم المليشيات الشيعية.
وبحلول موعد الإفادة الصحفية بالبيت الأبيض كان مسؤولون عراقيون ومحققون معنيون بحقوق الإنسان والأمم المتحدة قد جمعوا أدلة على إعدام العشرات وتعذيب المئات من البالغين والقصر واختفاء أكثر من 700 آخرين حتى اللحظة.
وبعد حوالي ثلاثة أسابيع وفي الثامن والعشرين من يونيو شهر المعركة، تفوه مكجيرك بكلمات محسوبة خلال شهادة أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، قال إنه تم تلقي تقارير عن حدوث انتهاكات في الأيام الأولى من العملية “كثير منها تبين أنها لم تكن جديرة بالتصديق لكن بعضها بدا جديرًا بالتصديق”.
ويعني كل ما نقله تحقيق وكالة رويترز في هذا الصدد أن الولايات المتحدة كانت على علم منذ أول يوم بما يجري على الأرض، لكنها آثرت ألا تصدق التقارير الواردة، حتى انتهى الأمر بقتل وتعذيب العشرات، واختفاء المئات إلى اللحظة دون معرفة مصيرهم.
كلمة السر مع إيران
منذ تأسيس هذه المليشيات التي وصل عددها الآن أكثر من 30 مليشيا شيعية يتلقى أعضاؤها رواتب من الحكومة، وتشغل قيادات من الجماعات الرئيسية فيها مناصب في الحكومة ومقاعد في البرلمان، وتحاول الحكومات العراقية المتوالية فرض السيطرة عليها، إلا أنها تصر على المضي وحدها بشعاراتها وأعلامها، وتنتهك بهما كل ما تريد.
لكن “فليق القدس” الإيراني هو من يملك شفرة هذه الجماعات كلها، وهو القوة الإيرانية الخاصة المسؤولة عن العمليات خارج الحدود الإيرانية، وبمعنى أوضح وضعت إيران منذ الغزو الأمريكي للعراق وبداية حقبة الاقتتال الطائفي هذه الشوكة في العراق، ولم يستطع الأمريكان ولا الحكومة العراقية حتى اللحظة نزعها.
بل وتورد تقارير ازدياد قوة هذه المليشيات بصورة غير مسبوقة منذ العام 2005 بعد الاستيلاء على معدات عسكرية أمريكية متطورة باعتها الولايات المتحدة للعراق في إطار إعادة بناء الجيش العراقي.
الانتهاكات المتزايدة بحق السنة المدنيين في معارك تحرير المدن من داعش، جعلت مراجع شيعية كبرى من فداحتها للخروج إلى العلن والدعوة لحماية المدنيين.
وقد أوردت وكالة رويترز في تحقيقها شهادات مروعة لناجين تتحدث عن فظائع ما ترتكبه هذه المليشيات بحق الفارين من المعارك، من قتل وتعذيب واعتقالات عشوائية، وانتهاكات في مقار احتجازات غير آدمية، وهو ما وثقته الأمم المتحدة ومنظمة هيومن رايتس ووتش في تقارير عدة.
منذ تأسيس هذه المليشيات التي وصل عددها الآن أكثر من 30 مليشيا شيعية يتلقى أعضاؤها رواتب من الحكومة
واليوم يُطالب الحشد الشعبي بدور أكبر في معركة تحرير الموصل، فيما لا تتحرك الولايات المتحدة لوقف هذه الجرائم المتوقعة بحق عدد أكبر من المدنيين، بينما تكتفي بالإدانة أثناء اتفاق زعماء الحشد الشعبي مع حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي على دور الحشد في الحملة القادمة على المواصل.
واكتفى العبادي بإعلان من مكتبه بأن لجنة ستحقق في “مزاعم” انتهاكات الفلوجة، ومن غير المؤكد ما إن كان التحقيق سيحمل أحدًا المسؤولية باستثناء حفنة قليلة من المشتبه بهم الذين أعلن العبادي عن القبض عليهم في 13 يونيو الماضي وهم من الفئات الدنيا في الحشد الشعبي.