صورتان اهتزّت لهما الضمائر مع فارق سنة كاملة تقريبًا، في البدء كان إيلان، ومن بعد ظهر عمران، وبينهما وفرة هائلة من وجوه لم تُعرف بعد أن ابتلعها البحر وأسماء لم تُكتشف بعد أن طمرتها الأنقاض، إنها أزمتنا، نحن البشر، وليست أزمة الضحايا، إذ نمارس انتقائية مذهلة في الإحساس بهم وبما يجري من حولنا ومن بين أيدينا وتحت أقدامنا، وندير في سياق ذلك مناوراتٍ نفسية للتملّص من الوعي بالفظائع حتى عندما تخالجنا في غرف الجلوس عبر شاشات وأجهزة محمولة تزعم أنها تضعنا في صميم الحدث.
الطفل المنكفئ على الشاطئ
ما الذي جعل صورة إيلان (2015)، يومها، تلامس وجدان الجماهير وتستنزف دموع من شاهدها، وهذا على نحو حصري؟
بالطبع؛ لا يتوقف تأثير صورته التي دخلت التاريخ على كونه طفلًا، فقد توالت صور الضحايا الأطفال قبله وبعده، بل ظهر بعضهم غرقى على الشواطئ دون أن يستثيروا انتباهًا أو يحركوا تعاطفًا، هذا إن حظيت صورهم أساسًا بفرص النشر لأنها جاءت صادمة غالبًا، ينعقد السرّ في أنّ معظم المشاهد الأخرى انطوت على مآسٍ جماعية، وأفصحت عن فحواها المأساوية بصفة مباشِرة، بما صدّ مشاعر التعاطف معها وعطّل التماثل المعنوي مع مَن يظهر فيها، علاوة على أنها صوّرت ضحايا فارقوا الحياة بما لم يُنشِئ إحساسًا بالقدرة على إنقاذهم.
لكن في حالة الطفل إيلان منحت الصورة للوهلة الأولى انطباعًا مغايرًا لحقيقة فحواها، فقد بدا وكأنها لطفل منكفئ على الشاطئ وحسب، على نحو أثار الفضول للتدقيق فيها، فقد ظهر إيلان بملابس أطفال ملوّنة وحذاء جديد وبدا بدنه اعتياديًا بلا علامات نفوق كالتي ظهرت على أقرانه من قبل، تكفل هذا الانطباع الأول بتحييد المناورات النفسية التقليدية لدى الجمهور الذي يحجب فرص التعاطف مع مشاهد صادمة تأتيه تباعًا.
لم يظهر إيلان، مثلًا، في هيئة طفل منتفخ على الشاطئ كما في صور سابقة لغرقى اللاجئين من الأطفال، بل أوحى وكأنه يعبِّر عن موقف ما، كمن يشيح بوجهه بعيدًا؛ معاتبًا العالم الذي تركه لمصير مأساوي، هكذا تألّق إيلان في مشهد نضح بتعبيرات الطفولة الحيّة، برمزيّتها الملوّنة بالأحمر والأزرق الداكن، وبحذاء تهيّأ للناظرين جديدًا وكأنه في يوم عيد، وهذا لأنّ موج البحر غسله ربّما من كل ما علق به من أدران النزوح والتيه.
والشاطئ في وعي الجماهير هو أيضًا مساحة لهو بريئة للأطفال، ولكلٍّ تجربته الطفولية الخاصة مع رمال البحر وألسنة الموج المنكسرة عليها، فالأذهان مستعدّة لتوقعات إيجابية عن حضور الطفولة في هذه الرقعة حصرًا، كما في ملعب أطفال أو مدينة ألعاب.
اختزن مشهد الطفل المنكفئ على الشاطئ مفاجأته المذهلة بأنه مأساويّ للغاية، ولكنها رسالة أخذت تتكشّف للناظرين بعد أن شدّهم المشهد وتسلّل مضمونه إلى وجدانهم فعجزوا عن صدِّه نفسيًا والاحتجاب المعنوي عنه لأنهم تشرّبوا به ببساطة وأسَرَهم معنويًا، هنا أجهش القوم بالبكاء العميق الذي لم يفلح غير الغريق الصغير إيلان في انتزاعه من الجمهرة، وهو امتياز لم تحظَ به أفواج الغرقى على تخوم أوروبا من الصغار وأمهاتهم، فهم أفواج وليسوا حالة مفردة، وظهروا غرقى بكل ما في ذلك من مبررات الإعراض عن المشهد والإشاحة المعنوية عنه؛ هذا إن وردت صورهم أساسًا في التغطيات والشبكات.
عمران… حيّ يُرزق
جاء مشهد الطفل عمران (2016) مختلفًا في التفاصيل عن حالة الطفل إيلان، فقد برز حيًّا يُرزق بعد إنقاذه من تحت الركام في حلب المنكوبة، وهذا أدعى لاستثارة المشاعر، ثمّ إنّ المشهد متحرك هذه المرة وليس صورة ثابتة، حتى وإن اشتهر عمران بلحظة الجلوس، أو الإجلاس على نحو أدق، التي تحولت إلى أيقونة.
جرى في المشهد الحلبيّ حمل طفل ملطخ بالدم ومعفر بتراب الأنقاض، وإجلاسه على مقعد برتقالي يسُر الناظرين، جاء مشهد الالتقاط داخل سيارة الإسعاف مختلفًا عن المألوف، فقد رأت العيون للوهلة الأولى طفلًا وديعًا مكلّلًا بالبراءة، يجلس على مقعد جلدي يكبره كثيرًا، تمّ إخراج عمران من عالم الأنقاض الذي تهاوى عليه فجأة وإدخاله في عالم الإسعاف والفُرجة الكونية التي ستطارد حركاته المحسوبة وسكناته المديدة عبر عدسات المصوِّرين.
وقد منحَه المقعد المميز رمزيات متعددة، إذ أبرز أبعاد الطفولة عبر إظهار التفاوت في المقاييس بين قامة طفل واتساع مقعد، ولكن المقعد الكبير يمنح سلطة بصرية ورمزية لمن يجلس عليه، تستند مقاعد الحكم عادة إلى ظهر أطول من المعتاد، ويبلغ الظهر طولًا قياسيًا في مقعد بابا الفاتيكان بكل ما يعبِّر عنه من سلطة يُراد لها أن ترتبط بالسماء وتكتسب منها الهيمنة على الأرض، وحتى في حالة الحكومات التي تحاول أن يظهر رئيسها وسط وزرائه، كما في نموذج حكومة الاحتلال الإسرائيلي، فإنّ مقعد نتنياهو وأسلافه من مجرمي الحرب ظل أطول ظهرًا من شركاء الحكومة، لأنه رئيسهم ببساطة وإن جلس بينهم وسط الطاولة.
وبهذا جاء مقعد عمران مع جلوسه الوقور للغاية في سيارة الإسعاف، ليمنحه ما يشبه سلطة معنوية، وهي بمثابة سلطة مساءلة للضمائر، انتصب فيها معبِّرًا عن جيل الضحايا السوريين والعرب في هذا المنعطف التاريخي المثخن بالجراح، إنها رمزية مُوْحية حفّزت ناشطي الشبكات الاجتماعية على نحت تحويرات مصورة جعلوا عمران فيها ممثلًا شرعيًا لسورية في مؤتمرات القمة، أو متوسطًا لقاء بين أوباما وبوتين، المُتهميْن أساسًا بالضلوع في عمليات القصف الوحشي على حلب ذاتها أو التواطؤ معها ولو بغض النظر عن الفتك الجماعي بالسكان، وعمران حاضر على أي حال في المشهد القيادي الأممي هذا عبر مقعده الذي لا يختلف في مواصفاته كثيرًا عن مقاعد المجتمع الدولي.
الذين استوقفتهم صورة عمران الثابتة قبل رؤية المقطع ككلّ؛ ما كانوا سيحسبون أنها مُستلّة من مآسي حلب اليومية، ومن هنا تحقق بعضٌ من استثنائيتها التي منحتها تميزًا عن تدفقات الصور والمشاهد اليومية، قدّم عمران حلب أخرى غير التي تعاقبت عليها التغطيات المصوّرة، حلب بلون برتقالي تقريبًا.
وفي المشهد، علاوة على ذلك كله، تناقضات بصرية جلية تضفي مواصفات استثنائية عليه؛ بين طفل ملطَّخ بالدم وتراب الأنقاض من جانب، وجلوس هذا الطفل على مقعد حديث من جانب آخر، ثم إنه صبي رمادي اللون بما أصابه من أثر القصف، ولكنه حاضر في صميم مشهد ملون بالبرتقالي الأخاذ، إنه فرز بصري غير اعتيادي منح الصورة قيمة مضافة، وقد ظهر عمران في هيئة رصينة للغاية، فكان ساكنًا ومؤدبًا رغم ما أصابه، وهو سكون تحت وقع الصدمة أو ربما بأثر التربية الحلبية أيضًا، وفي التفاصيل أنّ الجمهور اكتشف عمران وهو حافي القدمين، لأنّ القصف لم يمهله كي ينتعل ما يسعفه على الظهور في مشهد سيراه العالم من خلاله وسيذرف الدمع عليه.
هكذا تجلى الصبي السوري عمران للناظرين، فاستدعى مخزوناتهم الكامنة من الوعي بالطفولة، فمنهم من رأى فيه ذاته السابقة زمنيًا، أي الطفل الذي في داخل كلّ منهم، أو لمح فيه بعضُهم مَن يتماثل معه من محيطه الأسري أو نطاقه الاجتماعي القريب، فهو يحاكي ابنه في بعض التفاصيل أو يشبه شقيقه الأصغر مثلًا في حركة بعينها، وهذا من تجليات التماثل المعنوي مع الضحية في أوضح صورها.
في صورة عمران وجه ملطّخ بالدم، ولكنه وجه حيّ وتمسحه يد صغيرة بأسلوب طفولي مفعم بالبراءة، إنها جرعة الدم القصوى تقريبًا التي يمكن استساغتها، وهذا من امتيازات صورته، لو تدفّق الدم بغزارة منه مثلًا – لا قدّر الله – لاحتجب الوجدان عنها على الأرجح، يحدد الدم خطًا فاصلًا بين الإحساس وحَجْبه، فما يلامس وجدان الجمهور هي الحياة لا الأشلاء والدماء.
انتقائية الفرجة على الصور
إنّ الجمهور إذ يمارس فعل الفرجة على ما يجري في مشاهد الفواجع؛ فإنه يباشر هذا بشكل انتقائي، يلحظ الناس المشاهد البشعة أو الصادمة من بعيد، فيمتنعون عادة عن الانغماس المعنوي فيها، ويتحايلون داخليًا على وجدانهم حرصًا على نفسياتهم من أن تقلق بأثرها، ثمة محاولات نظرية وتأويلية تسعى لتفسير ما يجري، من قبيل التصورات المسماة “عالم عادل” التي تحاول إلصاق “سوء العاقبة” بصاحبها الذي “نال ما يستحقّ” لسبب ما؛ يتعلق به هو أو يتصل ببيئته وثقافته مثلًا.
ولهذا التأويل المُستتر غرض جوهري هو حجب التماثل المعنوي مع الضحية لطمأنة النفس من قلقها الوجودي باحتمال أن تلقى المصير ذاته، فتبقى الضحية هي “الآخر” وليس “أنا” أو “نحن”، هي مناورات نفسية تتفاعل في دواخل الناس عندما يلمحون حادث سير مروع، أو لدى تلقِّيهم موعظة عميقة تسعى لتذكيرهم بهادم اللذات مثلًا، فمن يروق له أن يتصوّر نفسه وقد آل إلى قدره المحتوم أو أهيل عليه التراب؟
تمتلك بعض المشاهد الاستثنائية قدرة على تحريك الجمهور على نحو جارف، لكن فقط إن نجحت في تجاوز جدار نفسيّ حاجب فتتسلّل بالتالي إلى وجدان الأفراد وتغمسه في عالمها، لا يتوقف نجاح صور إعلامية كهذه على محتواها التقريري، بل يتعداه إلى ما هو أهم، وهو تحقيق المعايشة مع ما يأتي فيها، والإحساس بالتفاصيل الكامنة فيها، وهو ما يشبه الفارق بين استدعاء حقائق ومعطيات إحصائية جافة، والإحساس بما يكمن خلفها من قصص ووجوه وأسماء.
إن النشرات الإخبارية التي يتطاول فيها تعداد الضحايا اليومي بين جبهات الحرب والتفجير والنحر الجماعي، تتسبّب بتحريض الجمهور على اختزال القيمة المعنوية للأفراد، الذين يتم تعريفهم كمعطيات عددية، بالعشرات وبالمئات أحيانًا، مع نزع الروح عن ذِكرهم، فهم أعداد وإحصاءات وحسب، وفي سياق كهذا نكون جميعًا بحاجة إلى إيلان أو عمران وقد بِتنا نعرف لكليهما اسمًا ورسمًا، كي يمنحا الضحايا وجهًا إنسانيًا نتماثل معه، فيظهران معبِّريْن عن طوابير الذين يسقطون صباحًا ومساءً دون أن نمنحهم دمعة واحدة نذرفها أو التفاتة عطف نوْمئ بها.
وما يتماثل معه الجمهور معنويًا هي القصة المفردة غالبًا وليس الكم الإجمالي، فالناس يتخطون جموع الضحايا واللاجئين والغرقى على كثرتهم، وتتعلّق أفئدتهم بطفل واحد أو أم بمواصفات مخصوصة، وهذا ما يدركه مصممو الحملات بعناية، ومنهم أولئك الذين يطلقون مناشدات التبرع لصالح “المحتاجين” لكنهم يقدِّمون في حملاتهم وجهًا واحدًا فقط، سعيًا لأن يُشعِروا كل فرد بالمسؤولية عن هذا الذي يظهر في الصورة، ولمنح الجمهور الإحساس بالقدرة على تحسين واقعه بما تيسر من تبرع، خلافًا لمشاهد تظهر فيها حشود غفيرة من الملهوفين وذوي الحاجة فيحسب المتبرع أنه عاجز عن إغاثتهم جميعًا.
وقد رأى الناس في حالة إيلان طفلًا وحيدًا مُلقى على الشاطئ، فأشغلهم على نحو لم يتحقق لسفن مكدّسة بالبشر وهي تجنح بمن فيها في عرض البحر، وكان مذهلًا أن الناس في مشهد عمران قد رأوه هو فقط، ولم يكترثوا بطفليْن آخريْن تم إجلاسهما تباعًا بعده في مشهد سيارة الإسعاف، يا لها من انتقائية!
معضلات في إدراك الصور والمشاهد
ثمة معضلات تعترض سبيل التعاطف، منها النمطية الاعتيادية التي قد تفتك بالصورة كما قد تقتل الخبر مع تكرار الوقائع ذاتها، فلو تجدد مشهد الطفل عمران مع نظير له – لا قدّر الله – فلن يستأهل الموقف على الأرجح اكتراثًا به كما تحقق لما أدركته الأبصار حدثًا أوّل مع عمران، هناك في سيارة الإسعاف عمران واحد، وسيبقى كذلك، وعلى الشاطئ الممتد ما زال إيلان في وعي الناس منكفئًا، وسيبقى في عيون الجماهير ضحية الغرق وحده، ولا تبديل له.
معضلة أخرى تتمظهر في منح أفضليات لمنسوب التعاطف، فالطفل الأنيق مثل إيلان، أو ذو الشعر المسرّح بعناية مثل عمران، هما أجدر بانتزاع التعاطف من طفل انطبع البؤس في تفاصيل وجهه واستولت الفاقة على هيئته، إنه التحيز الوجداني الذي يتجلى شاخصًا في تفاوت الاكتراث بالضحايا بين عالم تنتمي إليه نيويورك وباريس مثلًا، ودنيا غازي عنتاب وداريّا، ولكنها فجوة لا يمكن تفسيرها فقط بتفاوت الحظوة والسعة والثراء وما يُعتبر تقدّمًا، فهي تعود أيضًا للنُدرة التي تعني أن سقوط ضحية في بلد آمن ومستقرّ يبقى استثناءً، بينما لم يكترث العالم تقريبًا بملايين الضحايا في إفريقيا خلال تسعينات القرن العشرين، لأن أعدادهم هائلة ببساطة، ولأنها إفريقيا تحديدًا، أي القارة الواقعة في مساحة معتمة من الوعي الأممي، ولأن الصور غابت عن مشهدها إلى حد كبير أو جاءت بصفة إخبارية جافة وفي هيئة لم تكن أمينة في التعبير عن الواقع الإنساني على الأرض، ثم إنها خضعت فوق ذلك لتحيزات نفسية وثقافية متجذرة في وعي الجماهير، وربما عنصرية أيضًا بحق القارة السمراء.
الصورة وتحيزاتها
لا تغيب التحيزات عن عالم الصورة عمومًا، فالتحيز قد يبدأ مع اقتطاع جزء من الواقع لتصويره بالكاميرا، جزء بعينه وليس غيره من الأجزاء، وقد يعبر التحيز عن ذاته في مواصفات الصورة وزاوية الالتقاط أيضًا، ولا يمكن إعفاء تقاليد صنعة التصوير الصحفي من التحيزات التي ترمي لإنتاج صورة أكثر تأثيرًا وأقدر على مخاطبة جمهور له تحيزاته في الإدراك والفهم أيضًا، وليست جميعها تحيزات سلبية على أي حال.
ثمة تحيز آخر في مجال النشر والبثّ، فلا تكتسب الصور والمشاهد المنسوب ذاته من الاهتمام عند وسائل الإعلام جميعًا، ولا تأتي التحيزات لنشر الصور بريئة دومًا، فهي قابلة لأن تتحول إلى مادة استعمالية لحملات سياسية وعسكرية وتوسعية، كما في صور البرقع الأفغاني التي سبقت الحملة الحربية التي قادتها الولايات المتحدة على أفغانستان (2001)، ولكنها قد تحرض على تشغيل الضمائر وتحريك المواقف الأخلاقية، وقد اتضح شيء من ذلك في صور مثل الاغتيال العلني بالمسدس في سايغون عاصمة فيتنام الجنوبية (1968)، كما في صورة طفلة النابالم في فيتنام أيضًا (1972).
ومن التحيز أن تُوضَع الصور في سياق مُفتَعل وتُسقَط عليها تأويلات لا تنسجم مع الواقع الذي اجتُزِأت منه، وقد يكون التحيز بحجب التفسيرات اللازمة لفهم المشهد، فصورة جموع مسلمة غاضبة في بلد ما تتلقفها وسائل إعلام شعبوية على جانبي الأطلس بدون توضيح سياقاتها الكاملة التي تعين على فهم مبررات الغضب، مثل الإحساس بالإذلال الجمعي بعد إساءة إلى المقدسات أو الشعور بالحنق الجارف بعد اقتراف مجازر جماعية، فتحسب قطاعات من الجمهور أنها شعوب غاضبة ببساطة لأنها رأت الصورة مجرّدة ولم تدرك واقعها وخلفياتها.
تسري التحيزات على منطق الإضاءة على صور والإعتام على غيرها، كأن يجري تجاهل صور ومشاهد تختزن في ذاتها قدرات إيحائية عالية، لقد جرى ذلك بوضوح في “انتفاضة القدس” مثلًا، التي اندلعت مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 2015 واختطّت لذاتها مسارًا مختلفًا نسبيًا عن انتفاضات فلسطينية سابقة، من فيْض ما جاء وقتها، مشهد شيخ خليلي أعزل تحدّى جنود الاحتلال وصاح بهم بجسارة ردًّا على تهديدهم الفتية بالقتل، ثم توالى إطلاق النار عليه من بنادق آليّة إسرائيلية بأسلوب وحشي.
كما ظهر الطفل أحمد مناصرة في مشاهد كانت قادرة، نظريًا، على تحريك موجة تفاعل واسعة، بدءًا من مشهد تركه فيه الإسرائيليون يتألّم وينزف أرضًا في حضرة التشفِّي الجمعي وشتائم مجتمع المحتلين وهتافاتهم الفاشية نحوه، وصولًا إلى مقاطع التحقيق المروِّع معه واقتياده مصفّدًا إلى جلسات المحاكمة وغيرها.
لكن مخزون هذه المشاهد من التأثيرات المحرِّكة تبدّدت سريعًا، كما تلاشت قدراتها الكامنة على ملامسة الإحساس الجماهيري خارج بيئتها، وهذا بالطبع تحت وطأة القصور والتجاهل والإهمال، والتحيّزات أيضًا.
هكذا عانت “انتفاضة القدس”، غير النمطية أساسًا، من تجاهل بصري وتحيزات إعلامية علاوة على أعراض القصور المركّب في التفاعل الإعلامي التضامني معها، لكنّ “انتفاضة الأقصى”، التي سبقت باندلاعها مطلع هذا القرن، جاءت محمولة ابتداء في الوعي الجمعي بمشهد استثنائي تحركت له المشاعر وهبت له الجماهير، ظهر فيه الطفل محمد الدرة بين ذراعيْ والده، حتى لحظة قنصه بدم بارد بنيران جنود الاحتلال الذين قست قلوبهم على طفولة فتكوا بها من خلاله ومن بعده.
عاطفة الجمهور… استثارة مشروطة
يحدِّد وعي الجمهور مواصفات مخصوصة للصور كي يمنحها، بصعوبة بالغة، امتياز استثارة العاطفة وملامسة الوجدان وتحريك التفاعل، يريد الجمهور أن تظهر الضحية وحدها تقريبًا، وأن يكون هذا أنيقًا أو وسيمًا على الأرجح، بمواصفات غير صادمة للوهلة الأولى، وأن تظهر عليه آثار الحياة وإن كان ميتًا، وكلما انتمى إلى رقعة لها قيمة معنوية أعلى سيحظى باهتمام أكبر، وحبذا لو كانت نيويورك أو لندن مثلًا وليس داريا أو الفلوجة أو تعز أو إفريقيا الوسطى أو قرى الروهينغيا، بالطبع بوسع صور أبسط أن تحرز تفاعلًا، ولكن ذلك يحتاج إلى مصوِّر حاذق يدرك ما في الواقع من مخزونات كامنة ومُهملة، علاوة على ضرورة كسب التفاعل الإعلامي والشبكي مع الصور الملتقطة.
أما الجمهور فلا تستوقفه وفرة هائلة من الصور التي يتجاوزها بلا اكتراث تقريبًا، بينما تشدّه صورة مخصوصة، قد تأتي أخيرًا بعد طول انتظار، وقد لا تأتي، وهي إن غابت ستطمس معها واقعًا عريضًا وغائرًا في العمق؛ واقعًا لن تشعر به المجتمعات ولن تأبه به بالتالي.