رغم إصرار المغرب خلال العقود الماضية على ترديد شعار “من طنجة إلى الكويرة”، كناية عن هيمنتها الجغرافية على حدود الدولة بالكامل، ظهرت في الأفق خلال الفترة الماضية بوادر أزمة سياسية بين المغرب وموريتانيا، حول أحقية السيادة على بلدة الكويرة، التي يتشابه وضعها إلى حد كبير مع بلدتي سبتة ومليلة، التي يهيمن عليها الجانب الإسباني سياسيًا فيما تقع جغرافيا في المحيط المغربي.
أزمة جديدة
خلال فترة الحروب الصليبية على العالم الإسلامي في القرن الخامس عشر الميلادي، برزت مشكلتي الجغرافيا والسيادة بمدينتي سبتة ومليلة التابعتين جغرافيًا للمغرب وسياديًا لإسبانيا، ولازالت حتى الآن الأزمة مستعرة بين الجانبين، وهي الأزمة التي تتشابه تمامًا مع قضية “الكويرة” التي يعتبرها المغرب جزءًا من أراضيه، لكن تسيطر عليها موريتانيا منذ نهاية السبعينات، وانتقلت إلى رفع علمها عليها مؤخرًا، وعلى الرغم من أن الوضع الإداري للمدينة لم يتغير منذ عقود، لكن ظهور الأزمة حاليًا يثير الشك حول الأطراف المستفيدة من زعزعة استقرار الجزء الغربي من الشمال العربي الإفريقي.
مع بداية الأسبوع الثاني من أغسطس الجاري لجأ الجيش المغربي إلى القيام بعملية عسكرية تمشيطية، بمنطقة “قندهار” الحدودية الحساسة مع موريتانيا، مستعملًا في ذلك الآليات العسكرية وسلاح الجو، وهدفها المعلن هو “الحد من أنشطة التهريب والتبادل التجاري غير المشروع” بتلك المنطقة، وهي خطوة رآها المحللون كرد فعل على توغل قوات عسكرية تابعة للجيش الموريتاني، مؤخرًا داخل منطقة لكويرة، ورفعها العلم الموريتاني بالمدينة.
اتفاقية مدريد وتقسيم الصحراء
يعود واقع الأزمة لنهايات السبعينات من القرن الماضي، وتحديدًا في العام 1975، حينما أقرت اتفاقية مدريد بعودة المدينة التي تقع أقصى القسم الجنوبي من الصحراء الغربية لموريتانيا عند اقتسام الصحراء مع المغرب بموجب الاتفاقية، قبل أن توقع البلدان على اتفاقية حدود في العام التالي 76 ليحتفظ المغرب بثلثي الصحراء المتنازع عليها، وموريتانيا بالثلث الآخر، بما فيها منطقة الداخلة الشهيرة، وبدت الكويرة الساحلية مهجورة اليوم بعدما كانت مزدهرة تجاريًا حتى نهاية السبعينات، لتتحول تدريجيًا في الواقع السياسي المغربي إلى سبتة ومليلية جديدة.
انقلاب موريتاني
ومع استتباب الأمور جاء انقلاب 78 في موريتانيا ضد الرئيس القومي المختار ولد داداه، بزعامة مصطفى ولد السالك، وفي أجواء جيوسياسية جديدة منها صعوبة استمرار البلاد في حرب مفتوحة ضد البوليساريو، وضغط قوي من الجزائر، تخلى الانقلابيون عن الصحراء نهائيًا، وانسحبوا منها باستثناء منطقة الكويرة، آملين في إنهاء نزاع الصحراء واختلاق دولة للبوليساريو الصحراويين، وهي الخطوة التي لاقت معارضة مغربية وقتها؛ لرفضها بشكل قاطع اختلاق دولة جديدة في حدودها مع موريتانيا، باعتبار أن الصحراء بل موريتانيا هي جزء من الأراضي المغربية اقتطعها الاستعمار الفرنسي عند تفتيت المغرب خلال فترة الاحتلال.
ومع وصول محمد ولد عبد العزيز إلى الحكم في نواكشوط ابتداءً من العام 2008، عادت أزمة الصحراء لتظهر من جديد، ومن ضمنها ملف الكويرة، وفي نهاية العام 2015 أقدمت موريتانيا على خطوة استفزازية للمغرب تمثلت في رفع علمها في الكويرة، في إشارة إلى سيادتها السياسية على المنطقة.
حشود وحشود مضادة
الأزمة لم تتوقف عند هذا الحد، فتزامنًا مع العمليات العسكرية المغربية، أقدم الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز، على اتخاذ قرارًا بنقل سلاح المدفعية والصواريخ إلى شمال البلاد، بمنطقة “الشامي”، الواقعة بين العاصمة نواكشوط، ونواذيبو، فيما منعت السلطات الموريتانية القنصل المغربي من دخول منطقة الكويرة، الأمر الذي قابلته المغرب بحشد مئات الجنود والآليات العسكرية، قرابة الخطوط الحدودية بمنطقة “الكويرة” لتبدأ الأزمة في التصاعد من جديد، وبينما يراها عدد من المحللين تحركات أمنية روتينية، يعتبرها آخرون تعكس مدى التوتر السياسي والحدودي بين الرباط ونواكشوط، خصوصًا بعد امتناع المغرب عن تسجيل حضوره الرسمي، في القمة العربية الأخيرة، المنعقدة في 25 يوليو الماضي، التي احتضنتها نواكشوط، حيث اتهمته الأخيرة بمحاولة التأثير على حضور بعض الزعماء العرب للقمة، وقامت بترويج ملصقات لخريطة البلدان العربية، تظهر فيها المغرب دون الصحراء! ما أثار المخاوف من وقوع خطوة غير محسوبة، من أحد الطرفين، وسط الأجواء المشحونة بالتوتر، في المنطقة الحدودية، يجعل الأمر يتطور إلى أكثر من مجرد مناوشات وحشود.
لماذا الآن إذا لجات موريتانيا لخطوتها الاستفزازية للمغرب برفع علمها على الكويرة وأججت المغرب قواتها المسلحة على الحدود؟
الإجابة ليست صعبة فموريتانيا تدرك تمامًا أن المغرب لم يسبق أن مارس سيادته على الكويرة، وأن الاتفاقية الموقعة بين البلدين عام 1976 تعترف للمغرب فقط بثلثي الصحراء، بل وجرى إلغاء الاتفاقية بعد اتفاقية البوليساريو وموريتانيا عام 1979، حيث تعترف نواكشوط للبوليساريو بالسيادة على كامل الصحراء الغربية، لكن نقطة الكويرة تعتبرها نواكشوط جزءًا من الأمن القومي الموريتاني لأن في هذه المنطقة الجغرافية توجد نواذيبو التي تعد أهم ميناء موريتاني.
ما يدعم تلك الخطوة الموريتانية هو قرار المغرب بناء ميناء في مدينة الداخلة، بالقرب من ميناء نواذيبو؛ لتحويله إلى محطة هامة للاقتصاد مع دول إفريقيا الغربية مثل ساحل العاج وغامبيا والسنغال، ما يعني تهديدًا مباشرا للأمن الاقتصادي الموريتاني.
خلفية قومية
ليس هذا فحسب، فخلفية الرئيس الموريتاني الحالي القومية العسكرية، ترفض فكرة التفريط الموريتاني في الصحراء باتفاق مدريد الأول الذي حصلت بموجبه المغرب على ثلثي الصحراء، وبالتالي تشكل منطقة الكويرة نقطة إثبات الذات والسيادة الصحراوية بالنسبة له، كما أنه يفضل نشوء دولة في الصحراء تفصل بلاده عن المغرب أو إقامة حكم مثل الفيدرالية أو الكونفدرالية للصحراويين تحت مظلة أممية، كنوع من التأمين، حيث ترى نواكشوط أن المغرب ما يزال يرى أرضها كامتداد حيوي لمجاله، خاصةً وأنه لم يعترف بنشأتها، كدولة مستقلة حتى سنة 1969، واليوم الخارجية الموريتانية تمنع الصحفيين ووسائل الإعلام المختلفة من القول بأن الحدود الشمالية للبلاد هي مع المغرب!
والآن باتت المنطقة بين رحى خلافات مستعرة تهدد بإحراق الجميع، وبين لحظة وأخرى يمكن للوضع أن ينزلق إلى صراع مسلح، وقوده النزاع الحدودي المتشابك بين المغرب، وموريتانيا، وجبهة البوليساريو، والجزائر.