ترجمة وتحرير نون بوست
حصل فتح الله غولن، العقل المدبر للمحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا في شهر تموز/ يوليو الماضي، على حق الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة الأمريكية تحت بند “أجنبي ذو قدرات خارقة للعادة”، حسبما قررت محكمة أمريكية في عام 2008.
وهذا نوع من الإقامة يمنح للأشخاص الذين يظهرون قدرة غير عادية في حقلهم الأكاديمي أو في المجال المهني الذي يختارونه.
هل كان القرار الأمريكي نابعا من القدرة على التنبؤ؟
منذ فشل المحاولة الانقلابية ما فتئت التفاصيل تتوالى حول الكيفية التي مارس غولن وشبكته الإرهابية الدموية من خلالها نشاطاتهم على مدى الأعوام الماضية، بفضل اكتسابه لذلك الوضع المفضل في أمريكا.
كيف يعمل غولن.. تقرير مبدئي
أنشأ غولن كيانه الكوني الـ(لا) قانوني عبر السنين، مستخدما “قدراته الخارقة للعادة”، ومن خلال استخدام التقنيات المعقدة والبسيطة في الآن ذاته. مصدر التعقيد في الأمر أن الشبكة نظمت نفسها من خلال عقلية شبكة الاستخبارات السرية، ولكنها كانت في الوقت ذاته بدائية؛ لأن الذي كان يحفزها هو عنصر إغراء واحد لا غير، ألا وهو أنها كانت تقدم لكل شخص ما لا قبل له بمقاومته.
إنها ذلك النوع من الشبكات التي كان بإمكانها أن تذهب إلى أكثر البلدان تخلفا وأشدها جوعا، والتي لا تجد حتى الأمم المتحدة سبيلا إلى الوصول إليها، فتمد يد العون، وتقدم الخدمات لها، بما في ذلك منح أرقى مستويات التعليم الخاص.
لا يوجد بلد عادي واحد بإمكانه أن يرفض مثل هذا العرض. ومنذ اللحظة التي يتم فيها قبول هذا العرض، تبدأ الآلة الغولنية بالعمل، وتخط السير باتجاه تحقيق هدفها والوصول إلى غايتها.
وخلال فترة تتراوح ما بين ثلاثة وأخمسة أعوام، بإمكان عائلات النخبة في ذلك البلد أن تسجل أطفالها في تلك المدارس الخاصة، حيث تمنح الآلة الغولنية هؤلاء الأطفال فرصا من قطاعات مختلفة ومتعددة لا قبل لأي منظمة أخرى الوصول إليها.
ولكنها تقدم ما هو أكثر بكثير من ذلك لأولياء أمور هؤلاء الأطفال. فأي جنرال في جيش تلك البلاد، حيث يقل دخل الفرد عن ألف دولار، سيجد نفسه جالسا على الطاولة ذاتها يتناول طعام العشاء مع رجال أعمال وردوا من مختلف أرجاء الأرض، بينما يشاهد أطفاله وهم يتلقون تعليما جيدا في بلدهم.
ثم تبدأ النخب السياسية والتجارية في بلد ذلك الجنرال تتلقى الدعوات للقيام برحلات تجارية خاصة إلى عواصم العالم، وقد تبدأ حتى في الظهور ضمن البطانة الرسمية أثناء الزيارات التي تجري في تلك المدن. وبإمكان الشبكة الغولنية عمل مقاربات مختلفة في الدول المختلفة، على سبيل المثال من خلال ثلاثية التعليم والاستثمار ونشاطات الضغط (اللوبي) العالمية.
في الواقع لن يختلف الحال كثيرا في بلد قد يزيد معدل دخل الفرد فيه عن مستوى الثلاثين إلى الأربعين ألف دولار. فالغولنيون يضعون أعينهم على كل فرد يحتل منصبا منتخبا، ويتقربون من العمد في أصغر البلدات، وكذلك من الأعيان، كما من ممثلي الشعب ومن حكام الأقاليم والولايات. كل هؤلاء يمكن أن يتلقوا العرض ذاته، وهو ببساطة كالتالي: دعونا نعمل معكم تطوعا لصالح حملتكم، ونوفر لكم مجانا خدمات العلاقات العامة، وسنتبرع بمبالغ كبيرة لصالح حملتكم.
والشيء ذاته ينطبق على دعوات توجه للصحفيين والأكاديميين وأعضاء في المنظمات غير الحكومية للسفر إلى الخارج للمشاركة في مؤتمرات هنا وهناك. لا أحد يعبأ إذا كانت عناوين تلك المؤتمرات سخيفة ولا معنى لها، ولا أحد يعبأ بالاستفسار أو التساؤل عن هؤلاء “الغولنيين المهمين”، الذين يجري إنتاجهم جماعيا، ولا أحد يرغب في إفساد اللحظات السعيدة عليهم من خلال طرح أسئلة قذرة.
ولو سولت لهم أنفسهم طرح أي سؤال في زمن وصلت فيه السياحة الأكاديمية والصحفية الغولنية العالمية إلى ذروتها، لووجهوا بدرع لا يخترق من الخطاب الذي يتحدث عن “التسامح والحوار والانسجام والصداقات ما بين المذاهب والأديان، ومكافحة التطرف”، وما إلى ذلك.
العسكر: ذراع الغولنية السري
الحال في تركيا شبيه بالغولنية الكونية – إلا أن هناك فرقا واحدا مهما، وهو فرق قاتل. وذلك الفرق هو بالضبط المجال الذي تبرز فيه قدرة غولن “الخارقة للعادة”.
في تركيا، جميع المؤسسات والكيانات الغولنية، والتي تعد بعشرات الآلاف، سواء تلك التي تنشط في عالم التجارة، أو في مجال الرياضة والتعليم، وتلك التي تنشط في مجال الفنون، إضافة إلى المنظمات الطوعية غير الحكومية ووسائل الإعلام، كلها جرى تنظيمها لتشكل إطارا عازلا يتخفى من ورائها الجناح العسكري للحركة، والذي يتشكل من شبكة غولنية من الشرطة والجنود ووكلاء النيابة والقضاة.
يوجد للشبكة في جهاز الشرطة عشرات الآلاف من الأعضاء، عدد كبير جدا منهم في مخابرات الشرطة. بعد استيلائهم على الأكاديميات الشرطية قبل سنوات عديدة، بات كل الشرطة الذين يتخرجون سنويا تقريبا هم من أعضاء الشبكة. ومنذ نهايات ثمانينيات القرن الماضي بدأ الغولنيون يخترقون أجهزة الشرطة ومنظماتها، ليس بالمئات بل بالآلاف.
ولقد أعلنت وزارة الداخلية في مطلع عام 2014 أن من بين سبعة آلاف عنصر في جهاز مخابرات الشرطة ستة آلاف وخمسمائة هم من الغولنيين.
كما صرح وزير الداخلية إفكان علاء أنه في تلك الفترة ذاتها كان 74 من بين 81 من رؤساء مديريات الشرطة في الأقاليم أعضاء في الشبكة الغولنية. ولكنه أضاف: “جميع هؤلاء جرى تطهير الجهاز منهم أو عينوا في مواقع غير مؤثرة في عام 2014.” وهذا يفسر لماذا لم يدعم جهاز الشرطة المحاولة الانقلابية في يوليو (تموز).
إلا أن الجيش كان هو القطاع الأكثر سرية وتخفيا في المنظمة الغولنية. لقد بدأوا في اختراق القوات المسلحة بشكل سري منذ عام 1971، وزادت وتيرة الاختراق منذ عام 1984 بفضل الدعم الذي توفر لهم من داخل المؤسسة العسكرية.
القادة العسكريون الذين نظموا المحاولة الانقلابية في يوليو (تموز) يكونون في الأغلب قد انتسبوا إلى القوات المسلحة في منتصف الثمانينيات على أبعد تقدير: المرشح الذي يكون قد دخل المدرسة الثانوية العسكرية في عام 2000 يرتقي إلى رتبة ملازم في عام 2016 في أحسن الأحوال.
على الرغم من الإشاعات المتكررة، ليس من الممكن التحقق من مدى اختراق الغولنيين السري للقوات المسلحة: يمكن لذلك فقط أن يفسر السلوك غير المتوقع والتردد وعدم الرغبة من قبل المتورطين، على سبيل المثال فيما يتعلق بالإجراءات التي اتخذوها أثناء القتال ضد حزب العمال الكردستاني أو ضد الإرهاب الناجم عن الأزمة في سوريا.
بنهاية عام 2015، بدأ الكيان الغولني داخل القوات المسلحة يكشف نفسه، ولولا المحاولة الانقلابية لوقع تطهير القوات المسلحة من الأعضاء الغولنيين المنكشفين أثناء اجتماع المجلس العسكري الأعلى، الذي ينعقد عادة في شهر آب/ أغسطس؛ للبت في موضوع الترقيات والتعيينات والإحالات على التقاعد داخل القوات المسلحة.
كيف أصبح القضاء أداة غولنية
كان جهاز القضاء هو السلاح الآخر بالغ الأهمية في أيدي الإرهاب الغولني، وكان اختراق هذا الجهاز قد بدأ قبل أن تأتي حكومة أردوغان إلى السلطة.
بدأ الغولنيون، الذين شكلوا جيشا قضائيا قوامه الآلاف من وكلاء النيابة والقضاة، بممارسة إرهابهم قبل سنوات عديدة، إلا أن نشاطهم الإرهابي تكثف بعد عام 2008. بدأ الجنود والضباط والصحفيون والمدنيون والسياسيون من كافة الاتجاهات السياسية والقناعات الفكرية يجدون أنفسهم ماثلين أمام القضاة الغولنيين نتيجة للتهم الملفقة والمؤامرات التي حاكها ضدهم وكلاء النيابة الغولنيين.
كانت الآلية بسيطة للغاية: تقوم مخابرات الشرطة باختلاق الأدلة، فيبادر وكلاء النيابة إلى رفع القضايا أمام المحاكم بناء على سيناريوهات واتهامات لا تخطر على البال، ثم يصدر القضاة أحكامهم على أسس لم يسمع بها من قبل.
في هذه الأثناء يحصل رجال مخابرات الشرطة ووكلاء النيابة الغولنيون على تصاريح صادرة من القضاة الغولنيين -لا قبل لأحد بمعارضتها- تمكنهم من ممارسة التجسس والتنصت على المواطنين، في انتهاك صريح للقانون.
وبهذا الشكل سجلت محادثات مئات الآلاف من المواطنين، بما في ذلك رجال الأعمال والصحفيين والسياسيين، ثم هددوا وتعرضوا للابتزاز؛ حتى يقوموا بما يخدم مصالح الحركة الغولنية.
حتى المكالمات الهاتفية لكاتب هذا المقال سجلت لسنوات دون الحصول على ما يلزم من حكم قضائي يسمح بذلك.
منذ عام 2007، سجن مئات العسكريين من أصحاب الرتب العليا بما في ذلك رئيس هيئة الأركان.
وجرت محاولة لسجن رئيس وكالة المخابرات التركية (إم آي تي)
وأطيح بالرئيس السابق للحزب الرئيسي في المعارضة، سي إتش بيه، بسبب فضائح وقعت له إثر نشر أشرطة فيديو تمس حياته الشخصية، وذلك بالرغم من أنه كان من قبل قد رفض التنحي ولسنوات طويلة.
في السابع عشر من ديسمبر 2013 جرت محاولة للانقلاب على الحكومة من خلال مزاعم مفبركة بالكامل تتهم الحكومة بالفساد.
والآن، هناك إجماع وطني على أن منظمة فتح الله غولن كانت تقف وراء تلك الأحداث.
الفرق الوحيد الآن مقارنة بما كان عليه الوضع قبل انقلاب تموز/ يوليو هو أن الشبكة الغولنية أضافت الجيش إلى مثلثها الشيطاني المخترق لأجهزة الشرطة والادعاء العام والقضاء.
حان الوقت لكي تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بإعادة ذلك “الأجنبي الخارق للعادة” إلى تركيا بوصفه إرهابيا عاديا بمقتضى الاتفاقية التي وقعت بين الولايات المتحدة وتركيا في عام 1981، وكذلك بناء على ما ثبت بحقه من ارتكاب جرائم فظيعة.
هل يشكك الأمريكان في أن غولن كان يقف وراء المحاولة الانقلابية؟
إذن عليهم أن يفهموا التالي: ذلك العمل الإرهابي الدموي، الذي نفذ بمساندة آلاف المتعاطفين من عناصر الشرطة والجيش والأتباع العاملين في الجهاز الحكومي، كان بتدبير من غولن، الرجل الذي يقيم في بلدة صغيرة في أمريكا، تماما مثلما أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر ضد الولايات المتحدة ارتكبها أسامة بن لادن، والذي كان حينها يقيم في كهف بعيد جدا داخل أفغانستان.
المصدر: ميدل إيست آي