مُنيت الأنظمة العربية القمعية بهزائم متتالية إبان اندلاع الربيع العربي في عدة بلدان محورية عام 2011، انطلاقًا من تونس التي كسرت نظام بن علي الأمني مرورًا بالثورة المصرية التي أزاحت الطاغية حسني مبارك، ثم الثورة الليبية التي أسقطت الديكتاتور معمر القذافي، واندلاع شرارة الثورة السورية المستمرة حتى اللحظة في سجال مسلح مع نظام بشار الأسد وآلته العسكرية المدعومة خارجيًا، وكذا الثورة اليمنية التي تم ابتلعتها اتفاقات سياسية تدفع ثمنها الآن.
وما أن استفاق حلف الثورات المضادة من صدمة الربيع العربي في كل بلد على حدة، حتى انطلقت موجة من الاضطرابات في هذه البلدان كل حسب طبيعته بدعم إقليمي، لمنع تمدد هذه الثورات واشتعالها بالبلدان المجاورة كالبحرين والأردن والمغرب وغيرها، وبدء حلف الثورة المضادة في التنسيق المباشر لوأد هذه الثورات.
الحقيقة أن تنسيق الأنظمة الديكتاتورية في الإقليم كان أسبق من الوحدة العضوية لثورات الربيع العربي، وطريقة المواجهات التي تمت بعد ذلك بين الثوار وبقايا الأنظمة الأمنية في كل دولة من بلدان الربيع العربي كانت متشابهة، وتحمل بصمات هذا التنسيق.
استراتيجيات متشابهة
جاء أكثر من عشرة علماء إلى هامبورغ، في ألمانيا، في ورشة عمل نظمها مشروع في العلوم السياسية في الشرق الأوسط، و المعهد الألماني للدراسات العالمية، ورشة عمل تدرس عن كثب طرق ومظاهر التعلم بين الأنظمة الاستبدادية العربية خلال الثورة المضادة، وقد خلصت ورشة العمل هذه إلى الطرق المكتسبة بين هذه الأنظمة.
البدايات كانت واحدة بداية من المستوى المجتمعي إلى المستوى السلطوي، وإن كانت في بعض الأحيان أخذت أشكالًا مختلفة مما كانت عليه في أيام ذروة الحماس الثوري.
فقد تم تسليم حزب النهضة الإسلامي في تونس السلطة، وكذلك كان الإخوان المسلمين في مصر على رأس السلطة، دخلت سوريا في اقتتال أهلي بفعل النظام، وباتت نموذجًا يتم التحذير منه على جميع المستويات.
الصور والأخبار المروعة القادمة من سوريا مع مرور الوقت والعرض استخدمت لردع التغيير، وأقدمت موجات الإعلام التي تمتلكها الثورة المضادة للتحذير من الاستمرار في الحالة الثورية، واستخدمت ألفاظ الحرب الأهلية وغيرها من الأساليب التي تترك أثر ترهيب في نفوس الشعوب.
في نفس التوقيت الذي قضى الانقلاب العسكري على التجربة الديمقراطية في مصر، انطلقت حركة انقلابية على الثورة في ليبيا بقيادة لواء متقاعد، وهُددت حركة النهضة في تونس بأن يكون مصيرها مشابه، لذا فضلت التراجع للخلف، دخلت اليمن في دوامات من الاتفاقات السياسية ومخالفاتها في غرف مغلقة، حتى قضى انقلاب حوثي على آمال التغيير لتتحول إلى حرب أهلية تقودها الرياض، أما سوريا فلا تزال النموذج الذي يتم الترهيب منه.
استثمرت دول الخليج في هذه الحالة إعلاميًا وسياسيًا لمنع حدوث أي تسرب لآثار الربيع العربي إلى داخل مجتمعاتها، وتكون رأي عام داخلي بأن استقرار دولهم أفضل من اضطراب هذه الثورات التي آلت إلى دماء وأشلاء في النهاية.
لعدم تكرار التجربة
التشابه بين الأنظمة الاستبدادية العربية لم يكن في إفشال الثورات فقط، بل على مستوى المناعة من تكرارها أيضًا، فحينما كان الإعلام هو السلاح الفعال ضد الثورات العربية، كان حلف الثورة المضادة يستثمر في الإعلام بكل ثقله.
وحينما أصبحت الحاجة ملحة إلى الدماء والمواجهات العنيفة بعد إحراز التقدم في عملية إخماد جذوة الثورات في نفوس الشعوب، ظهرت الانقلابات العسكرية، والمليشيات، والاعتقالات، والدماء، والتحذير من “الإرهاب المحتمل”، وظهرت عبارات “أحسن ما نكون زي سوريا والعراق”.
هذه المناعة التي أخذتها الأنظمة الاستبدادية العربية الحالية، لم تظهر نتاج الصدفة، بل هي استراتيجية متبعة فيما بينهم، أظهرت نتائج ملموسة في القضاء على الثورات، والآن نشهد تشابهًا في خطابات مواجهة أي موجات احتمالية كتوابع لفشل هذه الأنظمة.
الحشد الحالي خلف حروب وهمية بزعم “محاربة الإرهاب”، أسلوب لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، السخرية من المطالبين بتحسين أوضاع حقوق الإنسان، قمع حرية الرأي والتعبير، تكميم أفواه الصحافة والإعلام، التعذيب في المعتقلات، مواجهة الثورة بتغييب الشعب عبر جهاز إعلامي يصرخ في آذانهم محذرًا من النموذج السوري، جميعها استراتيجيات حالية لكافة الأنظمة لوأد إحياء فكرة التغيير مرة أخرى.
تلك الأنظمة أدركت أن الوقاية خير من العلاج، فلم تعد تسمح بفرصة إطلاق تظاهرة عابرة للتنفيس عن غضب الشعب، بل اعتمدت على الصدمة في كل شئ اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا، ما دامت هناك معركة مفتعلة تقضي على كل صوت عاقل داخل البلاد، لذا ترى غالبية الميادين التي انطلقت منها شرارة الثورات في السابق محاطة بالمتاريس والقوى الأمنية لمنع تكرار تلك التجربة، فقد تعلمت أنظمة الاستبداد العربية كيف تهزم معارضيها.