لازلت أبحث عن فيلم لا يخيب الظن في هذه الصائفة الجدباء، لا أزال أتعثر بأفلام الأبطال الخارقين، لقد أصبحوا في كل مكان، يطلون من الصحف اليومية، وفي محطات المترو، وخلف باب المطبخ، لقد تكاثروا إلى حد لا يصدق، قصصهم تتشابه، وصفاتهم تتشابه، ورداءة أفلاهم أيضًا تتشابه.
وسط هذا الزخم، صدر الفيلم الكوري “قطار بوسان” (أول القطار إلى بوسان) Busanhaeng، والذي عُرض في مهرجان كان السينمائي Cannes International Festival في بداية الصائفة، خارج المسابقة الرسمية.
تحدث الكثيرون عن الفيلم، على أنه بداية عصر سينما الميزانيات الضخمة في كوريا، وجعل الجميع يتحدث عنه في كان، وعن مشاهده المؤثرة، والحقيقة لم أعرف أن الأمر يتعلق بفيلم زومبي إلا وأنا أجلس في مقعدي في صالة السينما! كيف يمكن لفيلم زومبي آخر أن يكون مميزًا؟ إنهم أكثر تشابهًا فيما بينهم من أفلام الأبطال الخارقين، فماذا يجعل من قطار بوسان مميزًا؟
سيوك وو Seok-Woo وكيل مضاربات غارق في عمله حتى النخاع، منعه انشغاله الدائم بإقناع المضاربين وخداعهم والتصرف في أموالهم، من الاهتمام بشكل جدي بابنته الوحيدة، لكنه مع ذلك يصر على كفالتها حين يتِمُ طلاقُه من زوجته، لا يخفي سيوك وو حبه العميق لابنته، ولكن انغماسه في عالم المال يمنعه من التعبير بشكل حقيقي عن هذا الحب، تدرك ابنته ذلك، وتحاول أن تحتج بوسائلها حتى تثير اهتمامه، ها هي تصر على الذهاب إلى أمها في بوسان Busan صباح الغد ولم يجد سيوك وو بدًا من الإذعان.
لم يكن سيوك يعرف حينئذ أنه لم يذعن لمشيئة ابنته بقدر ما أذعن لمشيئة الموت المتسلل إلى القطار في شكل فتاة أشرف تحولها إلى زومبي على الاكتمال، وتحولت الرحلة الهادئة إلى صراع بقاء درامي بين فريق الأحياء من جهة، وفريق الزومبي المتكاثرين من جهة أخرى، وبدا أن مدينة بوسان المحمية، هي طوق النجاة التي يجب بلوغه بأي ثمن، فكيف سيتصرف ذلك المجتمع المصغر داخل القطار، للوصول سالمًا إلى بر النجاة؟
قطار بوسان، فيلم جدير بالموسم الصيفي، وعدا كونه فيلمًا مليئًا بمشاهد الحركة والدماء والمفاجآت المفزعة، فلقد احترم بشكل كبير عناصر فيلم الزومبي كما ظهرت في أغلب الأعمال الفنية الشعبية، الزومبي التي تطارد البشر بشكل جماعي مخيف، الزومبي التي تحولك إلى زومبي بمجرد أن تسبب لك جرحًا ما، الزومبي التي توقف مخها عن العمل لذلك هي حمقاء جدًا لا تستطيع فتح الباب، الزومبي التي لا ترى في أقل قدر من الظلمة.
كلها أشياء مألوفة لمن شاهد فيلما كلاسيكيُا عن الزومبي، خصوصُا أفلام المرحلة الثانية التي أسس لها جورج روميرو George A. Romero، بأفلام مثل ثلاثية “ليلة الميت الحي” (Night of the living dead)، “فجر الذي قد مات” (Dawn of the dead) ويوم الذي قد مات Day of the dead.
لقد عمل المخرج صانغ-هو يون Sang-ho Yeon على سينما الزومبي بشكل محافظ دقيق يثير لعاب أي ناقد أكاديمي، وحتى على المستوى الدرامي لم يجتهد الرجل كثيرًا خصوصًا على مستوى السيناريو، حسبه قصة بسيطة الأحداث ممتعة على قدر من التشويق. غير أنه عول كثيرًا على الجانب التقني لشد المتابعين وإعطاء بعدٍ أكثر إبهارًا لعمله، وهو ما وفق فيه إلى حد كبير، فالفيلم رُوج له في كان على أنه فاتحة السينما الكورية على الميزانيات الضخمة.
لكن قطار بوسان مر عبر محطة أخرى أبعد من أفلام الزومبي، ومن أفلام البقاء عمومًا، وكما حدث مع الفيلم الياباني الشهير “معركة مَلَكية” Battle Royal، اِعتنى صانغ-هو كثيرًا بالمقاربة التي أنشأها بين مجتمع البشر الصغير المحشور في قاطرة الهاربين من الزومبي، وبين المجتمع الكوري الجنوبي الذي تحيط به الأخطار من كل جانب، ليس خطر الجار-الأخ إلا أحدها.
الشخصيات الرئيسية للفيلم، هي شخصيات نمطية جدًا في أفلام البقاء، ولكنها أيضًا مشحونة برمزية كبيرة من خلال علاقاتها البينية، أهم تلك العلاقات البينية، هو ذلك الصراع الفرعي بين الشخصية الرئيسية “سيوك وو” والرجل الظريف الطيب صانهوا Sang-hwa، فبينما كان الأول يحاول النجاة بابنته غير عابئ بأي شخص آخر، كان الثاني يحاول إنقاذ زوجته الحامل في جملة من يحاول إنقاذهم، منهجان مختلفان في التعامل مع الحياة ومع المجتمع، بالنسبة للرأسماليِ وكيل المضاربين، سيوك هو، المجتمع ليس إلا أداة نتسلقها لنكون في الأعلى، أما بالنسبة للرجل البسيط صانهوا، فنحن جزء من المجتمع ولا نكون إلا به، ونحن في النهاية أداتُه.
مثلت العائلة مسألة جوهرية في الفيلم، خصوصًا في العلاقة البينية الثانية، بين سيوك هو، ورجل الأعمال الأناني يون-سوك Yon-Suk، فرغم مرجعيتهما الرأسمالية المشتركة، امتاز الأول بابنته التي مثلت آخر أشكال انتمائه للمجتمع، بل وأثرت في فكرته عن هذا الانتماء، في حين مثل وجود الثاني وحيدًا، رمزًا للمد الرأسمالي الخانق للمجتمع الكوري، وخطرًا محدقًا من الداخل، حينما يواجه الأخطار الخارجية.
هل يمثل الزومبي، الجار الكوري الشمالي؟ إن الاحتمال أكثر من وارد، المؤكد أن الزومبي بمعنى الموتى الأحياء، كان دومًا مشحونًا بالرمزية في مثل هذه الأفلام، يمكن أن نتذكر المشهد الشهير في فيلم “الحرب العالمية زي” World War Z، حينما تهافت على حائط الصهاينة العنصري أمواجٌ من الزومبي من الجهة الفلسطينية، ليهجموا على الجانب “المتحضر” و”المسالم”، دلالة هذا المشهد البغيض لا تخفى على أحد، خصوصًا في وقت عرف انتقادًا واسعًا لسياسة الميز العنصري الإسرائيلية، وفكرة الجدار العازل.
الزومبي عند صانغ-هو يون، هم أولئك الذين كانوا يومًا منا، وفجأة أصبحوا يهاجموننا بعد أن تخلوا عن عقولهم، ولكن الحضارة يجب أن تستمر، هناك في بوسان، ولا شك أن مشهد العجوز التي فجعت بأختها وهي تراها من ضمن الموتى الأحياء في القاطرة الملاصقة، يدعم هذه الصورة بشكل جلي.
قطار بوسان هو في النهاية رحلة المجتمع الكوري نحو الخلاص، إما فرادى عبر منهج رأسمالي متوحش لا يترك للخلاص نفسه معنى، وإما جماعة عبر منهج اجتماعي اشتراكي يقدم البُعد الإنساني على الربح المادي، ويقدم مبادئ التضحية والمحبة والمساواة على مبدأ الفردانية والليبرالية الخالصة، وهو بذلك لوحة فنية جميلة للمجتمع الكوري، أدعوكم لاكتشافها.