“تعبت واستهلكت… مفيش فايدة… مفيش عدل… وأنا مدركة ده… مفيش نصر جاي… بس بنضحك على نفسنا علشان نعيش”، بهذه الحروف المنسوجة بدموع الحسرة والإحباط، ودعت الناشطة السياسية المصرية زينب مهدي حياتها، لتجعل من شهقتها اليائسة الأخيرة رسالة إنذار وغضب، لعلها توقظ من كان في رأسه عقل، ومن حوى بين جدران صدره قلب، ومن سكن جسده روح تحيا وضمير يئن.
شهقة زينت الأخيرة ومن قبلها روح عبد الحميد شتا، الأول على دفعته بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية 2003، والذي تم استبعاده من اختبارات الخارجية كونه “غير لائق اجتماعيًا” كانتا كابوسًا طالما أرق أحلام أصحاب الكروش المنتفخة، والأحاسيس المتبلدة، والضمائر الميتة، والنفوس الرخيصة، ممن أوصلوا شعبًا بعراقة المصريين إلى أن يكون الموت ملاذه الأخير، بعدما اغتالوا أحلامه الدنيا، وأمنياته المتواضعة في أن يكون مواطنًا شريفًا.
فما بين قمع سياسي، وتراجع اقتصادي، وانتهاك حقوقي، وتردي أمني، وتخاذل داخلي وخارجي، يقبع الشباب المصري ملتحفًا بثياب اليأس من غد أفضل، زاهدًا في الحياة، ململمًا ما تبقى لديه من أشلاء معلنًا الرحيل، فهل كتب على هذا الشعب الموت، إما فقرًا وإما قهرًا؟
إحصائيات صادمة
الأرقام الصادرة عن الجهات الرسمية – الأممية والمحلية – كانت بلا شك صادمة للجميع، فحين يطالعنا الجهاز المركزي المصري للتعبئة العامة والإحصاء بأن أعداد من أقدموا على الانتحار في مصر قفز من 1160 حالة في 2005، إلى 3700 حالة في 2007، وصولاً إلى 4200 حالة في 2008، فضلاً عن تجاوز أعداد من حاولوا الانتحار 500 ألف في 2015 فهذه كارثة بلا شك.
صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” الأمريكية، في تقرير لها نشر في 2010، تناول قضية الانتحار في مصر كـ “ظاهرة” لا بد من وضعها تحت مجهر العناية لدى القائمين على الشأن المصري حينها، إذ تعد مؤشرًا خطيرًا حول الخريطة المجتمعية في دولة دينها الرسمي يمنع مثل هذه الجريمة ويعدها “كفرًا وخروجًا عن الإسلام”.
الصحفي الأمريكي جيفري فليشمان، أشار في تقريره إلى إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء والتي أشارت إلى أن مصر شهدت 104 ألف محاولة انتحار في 2009 نجحت منها 5000 حالة (بزيادة 800 حالة عن العام السابق عليه)، بينما في 2010 فقد بلغت حالات الانتحار 5 من بين كل 1000 مواطن وذلك طبقًا لإحصائية أصدرها الجهاز عقب الثورة مباشرة، ثم تجاوز الرقم فاصل الـ 400 ألف محاولة انتحار 2011/ 2012، أي أربعة أضعاف من حاولوا الانتحار في العام السابق عليه.
وفي المقابل وفي ظل غياب الشفافية وتراجع منسوب حرية تداول المعلومات، فقد تعاملت الداخلية المصرية مع هذه الأرقام على أنها دربٌ من الخيال، حيث أشارت في تقاريرها الأمنية أن معدلات الانتحار الموثقة رسميًا في مصر لم تتجاوز حاجز 310 حالة سنويًا، وأن ما تم ذكره ليس لديها معلومات بشأنه، وهو ما كذبته بعض المنظمات الأخرى وفي مقدمتها جهاز التعبئة والإحصاء ومركز السموم التابع لجامعة القاهرة.
50% من المنتحرين “شباب”
إذا كان الشيوخ والعلماء هم عقول الأمة التي تفكر، فإن الشباب هم سواعدها التي تبني، ولا يمكن لأمة أو حضارة أن تبنى دون سواعد شبابها، بينما في مصر فحدث ولا حرج، فشبابها إما خلف أسوار السجون والمعتقلات، أو غرقى على شواطئ الهجرة غير الشرعية، أو منتحرون على مشانق اليأس والإحباط، وهذا ما كشفت عنه تقارير مركز السموم التابع لجامعة القاهرة.
الأرقام الموجودة بسجلات المركز تفيد بوقوع 2335 حالة انتحار باستخدام العقاقير السامة سنويًا، كان النصيب الأعلى بينهم من الفئة العمرية التي تتراوح بين 22 و25 عامًا، بنسبة تجاوزت فاصل الـ 50%، وهو جسدته بعض الجرائم التي وقعت مؤخرًا بشأن إقدام عشرات الشباب على الانتحار هروبًا من الواقع المؤلم، في ظل الفشل في تلبية الحد الأدنى من متطلبات الحياة، وبحسب دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية فقد جاءت مصر في المرتبة الـ 96 عالميًا من حيث معدل حالات الانتحار بين الشباب.
الاضطراب النفسي
تباينت تفسيرات وتأويلات خبراء علم النفس والاجتماع حول أسباب تزايد جرائم الانتحار في مصر، حيث أرجع الدكتور أحمد فوزي استشار علم النفس بجامعة عين شمس، ظاهرة الانتحار إلى الاضطراب النفسي، الذي يأخذ صورًا متعددة أبرزها اضطراب الشخصية، الذي يصبح فيها المريض أكثر اندفاعية، وغير قادر على المعيشة وكاره للحياة بصورة كبيرة، فحين يفقد قدرته على جذب أنظار المحيطين به، يلجأ إلى الانتحار فورًا.
فوزي أشار في تصريحات له إلى أن ما يقرب من 34% من المصريين يعانون من الاضطراب النفسي، 15% منهم يخططون للانتحار، موضحا أن الاكتئاب أحد أسباب تلك الظاهرة، معددًا مسببات الانتحار الأخرى في بعض المسائل منها، سقوط الرمز الديني، وعدم وجود جهات خاصة بالنشر الصحيح للدين، بالإضافة إلى ما تعرض له المصريون من انتكاسة عقب فشل تحقيق الثورة أهدافها، إضافة إلى انتشار تعاطي المواد المخدرة وزيادة معدلات البطالة وغياب العدالة الاجتماعية وما إلى غير ذلك.
وفي السياق نفسه أكد أستاذ علم النفس بجامعة الإسكندرية محمد زويل في حديث له أن قضايا مثل العنف المنزلي والزواج المبكر والبطالة والتربية الخاطئة وعدم القدرة على تحمل المسؤولية، تسهم في انتشار ظاهرة الانتحار، مشددًا على أن أصحاب محاولات الانتحار “مرضى نفسيون أهملت الأسرة والمجتمع رعايتهم”.
فيما قال عمرو عادل عضو الهيئة العليا لحزب الوسط إن مصر تعاني من تمتع طبقة اجتماعية بحجم هائل من الثروة والسلطة، بينما يعاني أغلبية المصريين من الفقر والقهر لفترات طويلة، متهمًا من أطاحوا بمكتسبات ثورة 25 يناير بالمسؤولية عن تزايد حالات الانتحار، قائلاً: “عندما قامت ثورة يناير دخل الأمل في نفوس الشعب، وحتى بعد انقلاب 3 يوليو، شعر البؤساء بوجود من يمكن أن ينقذهم، ونسوا أن هذا الانقلاب من الطبقة التي أذلتهم وقتلتهم على مدى عقود طويلة، ومع ظهور الحقائق، فقد كثيرون الأمل في حياة كريمة ماليًا واجتماعيًا، فزادت حالات الانتحار”.
أمّا الدكتور أمجد سامي، استشاري الطب النفسي، فأشار إلى أن الأسباب الاجتماعية للانتحار في مصر تأتي في المرتبة الأولى، متنوعة ما بين خلافات ونزاعات أسرية، وشجارات ونزاعات زوجية، ويرتبط الكثير منها بالشعور بالضيق لأسباب مالية، مضيفًا أن الأسباب المالية المباشرة تعد السبب الثاني والأهم في زيادة حالات الانتحار بمصر، في ظل تدني الرواتب، وتراجع فرص العمل، والارتفاع اليومي في أسعار السلع والخدمات، مما أصاب المواطن بالاكتئاب والاضطراب النفسي.
الانتحار الاحتجاجي
لم تكن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وحدها من تدفع الشباب إلى التخلص من حياتهم، فهناك أسباب أخرى قادرة على أن تجعل من الموت الملاذ الوحيد أمام الإنسان، وذلك حسبما أشار الدكتور عمرو أبو خليل، مدير مركز الاستشارات النفسية والاجتماعية بجامعة الإسكندرية، والذي حذر من موجة انتحار قادمة احتجاجًا على الأوضاع المتردية التي يعيشها المواطن.
أبو خليل أشار في تصريحاته إلى أن ظاهرة الانتحار في مصر لها شقين مميزين لها، مقارنة بنظيراتها في دول العالم، الأول هو تراجع المستوى المعيشي جراء الفشل في إدارة الأمور اقتصاديًا وسياسيًا، فلم يجد الإنسان سوى روحه ليحتج بها، وهي صورة احتجاج إنسانية معروفة في كل العالم تكررت كثيرًا أمام السفارات ومبنى الأمم المتحدة، وكأن المنتحر يأبى إلا أن يرسل بموته رسالة احتجاجية لشعبه وحكومته، ملفتًا أن من أبرز ما يجسد هذه الحالة موجة الانتحار حرقًا والتي تفشت في مصر أواخر عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، وذلك في أعقاب عقب إحرق التونسي محمد البوعزيزي نفسه في 2011 احتجاجًا على الأوضاع المعيشية وتضييق الخناق عليه، مما دفع المصريون آنذاك للشعور بأن الحياة المهينة التي ارتضوها منذ سنوات ضاقت بهم ولم تعد ترتضيهم، فما كان أمامهم إلا الاحتجاج بمحاولات الانتحار.
أما السمة الثانية لظاهرة الانتحار في مصر فهي كما تم ذكره آنفًا أن غالبية المنتحرين من الشباب، مرجعًا ذلك لأن هذه المرحلة العمرية مرتبطة بتحقيق الإنجازات والأمل والتفاؤل لتحقيق الذات، فإذا ما عجز الشاب عن تحقيق كل ذلك أصبح عمره دافعًا مثاليًا للانتحار.
واختتم تصريحاته بالتأكيد على أنه كطبيب نفسي لمس بنفسه كيف تفشى مرض الاكتئاب بين حالاته مؤخرًا وأنه بفحص الحالات يتبين أن المكتئب بات يعاني من أسباب عامة تتعلق بالوضع الحالي في مصر، تمامًا كما يعاني من أسباب تتعلق بحياته الخاصة على عكس ما حدث إبان ثورة 25 يناير 2011، حينما انحسرت أعداد مرضى الاكتئاب وباتت مهمته كطبيب في علاج الاكتئاب أسهل لأن روح التغيير التي دبت في العروق بفضل الثورة كانت تقنع الناس بأنه لا داعي للاكتئاب فالقادم أفضل.
القهر السياسي
العالم الفرنسي الشهير إيميل دوركايم – مؤسس علم الاجتماع الحديث – يعد من أفضل ما كتبوا عن علاقة الفرد بالمجتمع المحيط به، ففي كتابه الصادر عام 1897م، والذي اختار له عنوان “الانتحار” أشار دوركايم إلى أن ما يدفع الأفراد للانتحار هو ضعف التنظيم الفردي والجمعي، أي أن المجتمع فقد القدرة على حفظ أفراده وتنظيم شؤونهم بشكل يجعلهم راغبين في مواصلة الحياة.
دوركايم أشار إلى أن ارتفاع معدلات الانتحار مؤشر لوجود “خطأ ما” في النظام الاجتماعي، رافضًا أن يكون الانتحار ناتجًا عن مرض عقلي يسبب نقصًا في الوعي بالنتائج، كما يقول علماء الاجتماع، مؤكدًا أن الانتحار عمل واعٍ يدرك من يقدم عليه نتائجه.
وتخلص نظرية مؤسس علم الاجتماع إلى أن الانتحار تتسبب فيه قوة متجاوزة لقدرة الفرد، وأن الانتحار في صيغته المجردة هو: “إعلان موقف يتخذه الفرد ضد وضع اجتماعي بعينه”، حيث أثبت أن القوى الاجتماعية هي الفاعل الرئيس لإقدام الفرد على الانتحار، وأن المجتمعات القامعة هي التي تدفع أفرادها للانتحار بشكل متزايد، وأن ارتفاع معدلات الانتحار هي “إشارة دالة على التفسخ الاجتماعي”.
ومن ثم فإن القهر السياسي، وسياسات القمع وتضييق الخناق على الحريات، والظلم وغياب العدالة، والتي تعاني منها مصر في السنوات الأخيرة كانت وحدها كفيلة بأن تدفع الشباب دفعًا وبقوة إلى اختيار الموت سبيلاً للحياة الأبدية، لاسيما بعد حالة اليأس والإحباط التي خيمت على وجوه جميع المصريين بلا استثناء، حتى باتت سمة مميزة للوجه المصري أينما حل أو ارتحل.
وحين ينظر إلى العلاقة بين زيادة جرائم الانتحار وقضية حقوق الإنسان، نجد أن الدول الأكثر انتهاكًا لحريات الإنسان هي الأكثر في معدلات الانتحار، وهو ما كشفته المذكرة الأساسية لبرنامج الحد من الانتحار، الذي أطلقته منظمة الصحة العالمية في 2014، والتي أشارت إلى أن 75% من حالات الانتحار تقع في الدولة الفقيرة والمتوسطة الدخل وذلك على عكس ما كان يعتقد الكثيرون.
المذكرة أشارت ووفقًا لتقارير المنظمات الحقوقية أن الدول التي يتراجع ترتيبها على قائمة مؤشرات الحريات واحترام حقوق الإنسان، هي نفسها الدول التي تحتل موقعًا متقدمًا في قائمة أعلى معدلات الانتحار، ففي 2012 احتلت روسيا المركز الرابع عشر على مستوى العالم في الدول الأعلى في معدلات الانتحار، وسجلت الدولة هناك 29 ألف و735 حالة انتحار ناجحة، وبلغ المعدل 23.2% أقدموا على الانتحار من بين كل 100 ألف مواطن، في حين تسجل الصين بين 250 ألف إلى 300 ألف حالة انتحار سنويًا، بينما تتصدر دول مثل مصر وغينيا والسودان وزيمبابوي وبيلاروسيا والمجر وأوغندا قائمة الدول الأعلى في معدلات الانتحار، وجميعها تحتل مراكز متراجعة على مؤشر الشفافية الدولية، وهي دول تتلقى انتقادات واسعة لملفاتها في مجال حقوق الإنسان ومحاربة الفساد.
ويبقى السؤال: إلى متى يدفع الشباب المصري ضريبة الفشل الذريع في إدارة الملفات الاقتصادية والحقوقية والسياسية؟ ومتى تتوقف مصر عن فقد خيرة شبابها، ففي بلادنا: إن لم يمت الشباب جوعًا وعطشًا ماتوا قهرًا وظلمًا وانتحارًا، فما أقسى أن يكون الموت هو خيار الحياة الوحيد.