يقبع الشعب الجزائري تحت حكم نظام الجنرالات منذ العشرية السوداء التي تورطت فيها الدولة في دماء مئات الآلاف من المدنيين بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث لعبت الدولة والجيش في تسعينيات القرن المنصرم دوراً هامّاً في تأجيج الصراع والصدام الذي أدّى إلى خلق الجماعات المتطرفة، أدّى ذلك إلى عمليات عسكرية واسعة في الأحياء التي تمركز بها المتطرفون مما خلّف مئات آلاف القتلى والجرحى والمفقودين الذين ما زالت قضايا الكثيرين منهم عالقة وتحتاج إلى حل بعد أكثر من عقد ونصف على نهاية هذه الأحداث الدموية.
الأزمة في الجزائر بدأت حين استفزّت الدولة عموم الشعب بقرارها إلغاء الانتخابات التشريعية عام ١٩٩١ التي فاز بها الإسلاميون، وبغض النظر عن صلاحية إسلاميي الجزائر للحكم من الأساس ولكن إلغاء الانتخابات بهذه الطريقة الفجّة كانت في الحقيقة السبب الأول الذي يترتب عليه كل أحداث العشرية السوداء، ولو كان هناك نظام محاسبة وقضاء مستقل وقوي في الجزائر لتمّ تحميل المسؤولية الأولى في كافة الأحداث على من اتخذ هذا القرار وهم الجنرالات الذين ما يزالون يتمتعون حتى اليوم بحصانة خاصة مع أن جميعهم قد فارقوا الحياة أو تقاعدوا أو أقيلوا ولكنهم يبقون وسيبقون خارج دائرة المحاسبة أو حتى النقد وهذا ما يؤسس لنظام سياسي طبقي بامتياز تعاني منه الجزائر منذ سنين.
النظام الجزائري متورطاً في الدم السوري بشكلٍ مباشر، وهذا ما سيدفع الشعب الجزائري يوماً ما لمحاسبة نظام بلاده
امتدّت فترة حكم الجنرالات بنفس الطريقة الطبقية والدكتاتورية على يد “عبدالعزيز بوتفليقة” صاحب الديمقراطية المعاقة والذي ظهر في الانتخابات الأخيرة بصور استهجنها العالم أجمع عبر اتصال الفيديو سكايب ليخاطب مؤيديه تارةً ثم خرج إلى الانتخابات بكرسيه المتحرك مرةً أخرى ليؤكد على أن الحاكم في بلادنا لا يترك حكمه إلا بانقلاب أو وفاة! وهذا ما ينبئ بخطر كبير على المستقبل السياسي في البلاد لأن الرجل لم يجعل له خلفاء وتنتشر تقارير كثيرة عن صراعات خفية بين أطراف الدولة القوية في الجزائر خصوصاً أن الجنرالات قد خرجوا من المشهد السياسي ولا يعرف الجزائريون من يحكم البلاد فعلاً اليوم ومن هو صاحب القرار الأهم فيها وهذا ما يعني أن البلاد ربما تصبح ضحية صراع سياسي في غضون السنوات القادمة.
وبعيداً عن صورة النظام الجزائري السوداوية والتي ابتدأت بها مقالي هذا فإن النظام السوري يتشابه كثيراً مع نظام الجزائر في سياسته وطريقة إدارته للأمور، فالحكم عسكري في كلا البلدين وإن كانت الجزائر حريصة على الظهور بواجهة حكم مدنية نوعاً ما بينما يبقى النظام السوري متطرفاً أكثر في تغوّل العسكر على الدولة، هذا ما خلق ردة الفعل التصادمية عند النظامين في الأزمات التي عايشاها، ففي الحالة السورية كانت ذلك واضحاً في أحداث الثمانينيات وفي أحداث الثورة السورية اليوم، كلا الحدثين شهدا ردة الفعل نفسها من قبل النظام، وكذلك الجزائر في العشرية السوداء، لا صوت يعلو فوق صوت الدبابات! بينما كان بالإمكان نزع فتيل الأزمات الثلاث بقليل من الحكمة والسياسة، ولتمّ تجنيب البلدين حينها مصائر مؤسفة ومفجعة يعرفها الجميع، السؤال الذي يُطرح اليوم هو: أن هذه الطريقة العسكرية في التعامل مع أحداث الثمانينات كانت من أهم أسباب قيام الثورة السورية اليوم فهل سنشهد ثورةً جزائريةً قريبةً تستمد شرعيتها من المطالبة بتحقيق العدالة في مصير مئات آلاف الضحايا في العشرية السوداء؟!
وفي تقديري فإن الجزائر مرشحةٌ جداً لقيام ثورة إذا لم تكن هناك عملية مصالحة حقيقية “وليست صورية” تقوم على محاكم تحقيق مستقلة تفتح كل القضايا العالقة منذ ما يزيد عن عقدين وتتخذ أحكاماً تدين السلطة فيها وهو ما يتجنبه النظام الجزائري تماماً لمعرفته بأن قيام محاكم من هذا النوع تهدد وجوده وبقائه.
تشابه النظامين الجزائري والسوري خلق نوعاً خاصّاً من العلاقة بينهما، فمنذ القرار العربي المشترك بقطع العلاقات مع النظام السوري منذ سنة ٢٠١١ حرصت الجزائر على إبقاء خط العلاقة بين النظامين قائماً مخالفةً للإجماع العربي مما يجعل موقفها مما يحدث في سوريا لا أخلاقي، ومع تسليمنا بأن كثيراً من الدول التي تدعم الثورة السورية تكيد لها في الخفاء ولكن هذا لا يعطي الحق للجزائر التي تدّعي الحياد السياسي في قضايا الخلاف العربية أن تدعم النظام السوري سياسياً وربما عسكرياً باسم محاربة “داعش” والإرهاب.
الرئيس الجزائري “بوتفليقة” كان لاجئاً سياسياً يوماً ما عند “حافظ الأسد” الذي أسكنه شقةً في حيٍ فاخرٍ من أحياء العاصمة “دمشق” وأجرى له راتباً شهرياً مجزياً بالدولار
ولكن يبدو أن من الأسباب القوية التي تدعو الجزائر لدعم الأسد هو أن الرئيس الجزائري “بوتفليقة” كان لاجئاً سياسياً يوماً ما عند “حافظ الأسد” الذي أسكنه شقةً في حيٍ فاخرٍ من أحياء العاصمة “دمشق” وأجرى له راتباً شهرياً مجزياً بالدولار، تعود هذه القصة إلى ثمانينيات القرن المنصرم حين اضطر “بوتفليقة” إلى مغادرة الجزائر بعد إبعاده من وزارة الخارجية التي كان يتولّى حقيبتها واتهامه بالاختلاس وسوء استغلال المنصب ليبقى خارج البلاد منذ عام ١٩٨١ وحتى ١٩٨٦ حين عفا عنه الرئيس الجزائري السابق “الشاذلي بن جديد” ليعود إلى الجزائر مرة أخرى، ويبدو أن “بوتفليقة” يقوم اليوم بردّ جميل “الأسد” الأب وذلك بدعم نظام ابنه المتورط في إبادة جماعية للسوريين وجرائم حرب أخرى لا حصر لها.
في ظني أننا سنشهد بعد سقوط النظام السوري فضح الكثير من فصول هذه العلاقة القذرة التي جمعت النظامين السوري والجزائري والتي لا أستبعد أبداً قيام الجزائر بتقديم بعض أنواع الدعم العسكري للنظام السوري، ومن ذلك تسريب بعض التقارير الاستخبارية التي تفيد بوجود عدداً من الطيارين الجزائريين الذين يقومون بتقديم المساعدة لسلاح الجو السوري خلال الثورة بعد تناقص أعداد الطيارين السوريين بشكل كبير واضطرار النظام للاستعانة بطيارين من جنسيات أخرى مثل: إيران وكوريا الشمالية وغيرها.
الدعم العلني الجزائري لنظام الأسد هو زيارة وزير الخارجية السوري “وليد المعلم” للجزائر في شهر آذار/مارس المنصرم مما يجعل هذه الزيارة أول زيارة رسمية لدولة قام بها “المعلم” منذ بداية الثورة في عام ٢٠١١
وبعيداً عن التقارير التي ما زالت غير مؤكدة تماماً فإن من فصول الدعم العلني الجزائري لنظام الأسد هو زيارة وزير الخارجية السوري “وليد المعلم” للجزائر في شهر آذار/مارس المنصرم مما يجعل هذه الزيارة أول زيارة رسمية لدولة قام بها “المعلم” منذ بداية الثورة في عام ٢٠١١، وكذا من صور هذا الدعم زيارة وفد برلماني جزائري عام ٢٠١٣ التقى بالرئيس “الأسد” وأبدى مواقف داعمة له، ثم زيارة وزير الشؤون المغاربية في الحكومة الجزائرية “عبد القادر مساهل” على رأس وفد إلى دمشق كذلك في شهر نيسان/أبريل الماضي ولقائه بـ “الأسد” أيضاً وتصريحه بأن الجزائر تقف إلى جانب سوريا في محاربتها للإرهاب.
كل هذا وغيره يجعل من النظام الجزائري متورطاً في الدم السوري بشكلٍ مباشر، وهذا ما سيدفع الشعب الجزائري يوماً ما لمحاسبة نظام بلاده ومن يصفق له من السياسيين والإعلاميين حساباً عسيراً، فلقد وضع هذا النظام الجزائر في مواجهة رغبات وتطلعات الشعب السوري بالحرية، ولقد كان من الأجدى أن تبقى الجزائر حيادية “كما تدعي”، سيذكر التاريخ هذا الموقف الجبان للنظام الجزائري وسيكون من الأسباب والدوافع للشعب الجزائري بالتخلص منه، ولا شك أن وحدة الدين والتاريخ والثقافة بين الشعبين السوري والجزائري أقوى من أن يعكر صفوها تصرفات سياسية لأنظمة حكم رعناء.