ترجمة وتحرير نون بوست
عندما توفي هيروهيتو، الذي كان إمبراطور اليابان لمدة 63 سنة، في 7 يناير/ كانون الثاني سنة 1989، كان شقيقه الأصغر، الأمير ميكاسا البالغ من العمر 73 سنة، الشخص الوحيد على قيد الحياة الذي شاهد وشارك في طقوس تتويج الملك الجديد، على مدى سنتين، أي حتى مطلع ديسمبر/ كانون الأول سنة 1990، شارك سواء الإمبراطور الجديد، أكيهيتو، أو ممثلوه في ما لا يقل عن 30 حدثًا منفصلاً بمناسبة صعوده إلى العرش.
خلال التتويج الرسمي لأكيهيتو في القصر الإمبراطوري في نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1990، الذي شغل الرأي العام، برز احتفالان رمزيان ارتبطا بذكريات الأمة اليابانية، ففي المساء الذي توفي فيه هيروهيتو، آخذًا معه آخر قيادة مباشرة مرتبطة بالحرب العالمية الثانية والكارثية التي طالت اليابان، اعتلى ابنه البالغ من العمر 56 سنة العرش ووقف في القاعة المخصصة داخل القصر الإمبراطوري لاستقبال الشعارات الملكية، بما في ذلك الأختام السرية.
وتتألف هذه الرموز الدالة على الملكية، والمذكورة في أقدم سجلات اليابان، منذ بداية القرن الثامن خاصة في كوجيكي (“سجلات المسائل القديمة”) ونيهونجي (“من سجلات اليابان”) من سيف، وجوهرة، ومرآة، وقد تلقى الإمبراطور الجديد السيف والجوهرة، إلا أنه تم الاحتفاظ بالمرآة داخل الضريح الإمبراطوري في إيسا.
وبعد حوالي السنة، وبعد عشرة أيام من تتويجه رسميًا يوم 22 نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1990، شارك الإمبراطور في أكثر المهرجانات غموضًا وإثارة للجدل ويدعى دايجو – ساي، أو مهرجان عيد الشكر الكبير، وفي المساحة المسيّجة والتي شيدت حديثًا في القصر الإمبراطوري، قدّم أرزا تمّ حصاده خصيصًا لأسلافه ولآلهة العائلة الإمبراطورية، ثم، انزوى تمامًا مرتديًا ملابسه البيضاء النقية، على الأريكة المقدسة داخل الضريح الذي كان سقفه من القش، ووفقًا للتقاليد، فإنه كان طوال الليل يتواصل مع روح آلهة الشمس، أماتيراسو.
وتعود سلالة عشيرة الإمبراطورية اليابانية إلى القرن السابع، ما يجعلها أقدم سلالة في العالم، وعلى الرغم من تجريد المؤسسة بشكل كبير بعد الحرب العالمية الثانية من قبل قوات الاحتلال الأمريكية بقيادة الجنرال دوغلاس ماك آرثر، إلا أنها بقيت في الجوهر الروحي لليابان، لكن على الرغم من استمرار الجدل في فترة الأربعينات حول الحرب والشكوك التي أثيرت في بعض الأحيان حول مسألة الألوهية، إلا أن العقود من التاريخ السلمي بعد الحرب أدت إلى عدم ظهور أي معارضة جدية لاستمرار وجود العائلة الإمبراطورية في الحكم، لا توجد حركة جمهورية في اليابان، ولا حتى دعوات للحد من نفقات العائلة الإمبراطورية، وقد استمرت السلالة مع وجود الأباطرة الثلاثة في القرن الماضي، متجنبين الفضيحة ومتواجدين ضمن أكثر البيئات المعروفة بشدّة الرقابة فيها.
وفي الخطاب التلفزيوني الذي أصدره الإمبراطور اكيهيتو مؤخرًا، وهو الذي حكم اليابان منذ 28 سنة، لمّح أنه يفكر في التنازل عن الحكم لصالح ابنه ولي العهد الأمير ناروهيتو، بسبب كبر سنه (حيث يبلغ من العمر 82 سنة) وسوء حالته الصحة (حيث خضع لعملية جراحية في القلب وتعافى من سرطان البروستاتا)، لكن إعلانه لم يُثر أي أسئلة أو شكوك حول مستقبل النظام الإمبراطوري الذي يعدّ جزءًا لا يتجزّأ من تاريخ اليابان المعاصرة.
وتجدر الإشارة إلى أنه تم إنقاذ الأسرة الإمبراطورية من قرون من السجن الافتراضي بعدما شهدت البلاد فترة انتقالية سنة 1868 سميت بإصلاح مييجي لتصبح رمزًا للفترة المعاصرة التي أطاحت بحوالي 700 سنة من الحكم الإقطاعي، إن التداخل بين الماضي والحاضر، وبين التقاليد والعجز السياسي، يفسر مدى مثابرة العائلة الإمبراطورية وتقبّلها من قبل الشعب الياباني.
ربما يفسر الدور الملتبس للعائلة الإمبراطورة، استمرار التوتر في اليابان بين التقليد والحداثة، وخلافًا للملوك البريطانيين، الذين يشعرون بالتقليد القديم فقط عندما يتوّجون، فإن الأباطرة اليابانيين يشهدون بصفة شبه يومية على الاحتفالات التي تعيدهم إلى بدايات الأمة اليابانية، تواصل العائلة الإمبراطورة أكثر بكثير من النبلاء الآخرين، لعب دورها الذي يتمثّل في التوسط بين الناس والآلهة، مثل نظيراتهم من الأنظمة الأجنبية، تقوم العائلة الحاكمة في اليابان بقطع الأشرطة خلال أي حدث وبحضور المعارض، ولذلك لطالما أثار التوفيق بين المعتقدات الدينية والفلسفية للنظم المتباينة حيرة المراقبين الغربيين المتابعين للشأن الياباني.
وكما تعدّ اليابان إحدى الدول الأكثر تقدمًا، فهي تعدّ أيضًا من بين أكثر الدول المحافظة، على الأقل من وجهة نظر ما بعد الحداثة، أو الليبرالية الغربية، إن ما يعتبره الكثير من الغربيين أمرًا مفروغًا منه، خاصة فيما يتعلّق بالشعور بعدم انتهاك حرمة الاستقلالية الفردية، هو مسألة أكثر تعقيدًا في اليابان، السؤال الكبير الذي يطرح حول التاريخ الياباني الحديث بسيط: ما الذي يعنيه أن تكون يابانيًا؟
إذا كانت مظاهر ما قبل الحداثة في اليابان ما زالت قائمة في ثقافتها، أو مخفية في القرى الصغيرة والشوارع الجانبية للمدينة، فربما كان لذلك علاقة باستمرار وجود النظام الإمبراطوري، وللتذكير، فإنه خلال عصر ما قبل الحداثة، الذي يعتبره اليابانيون في كثير من الأحيان “الأنقى”، لعبت العائلة الإمبراطورة دورًا ثقافيًا وأخلاقيًا، وتجدر الإشارة إلى أنه من الصعب حتى تحديد ماهية الهوية الذاتية للعائلة الإمبراطورية نفسها، هل تعدّ الممثلة القديمة والمقدسة للشعب الياباني، أم الذراع التنفيذية للحكومة المركزية؟ يبدو أن الإجابة في كلتا الحالتين هي “نعم”.
أدى تزعم طبقات الساموراي الضعيفة والمتوسطة الإطاحة بتوكوغاوا شوغن، الذي بلغ من العمر آنذاك 265 سنة في سنة 1868، إلى قيامهم بجملة من الإصلاحات التي كانت من شأنها أن تؤدي إلى اختفاء الطبقة الاجتماعية الخاصة بهم، حتى إنهم اعترفوا أنهم سيقومون “بتجديد” القوة الإمبراطورية، وبهذه الطريقة كان وجود الإمبراطور سيكون رمزيًا حيث تم تسخير قوة الدين، شنتو، إلى نظام الدولة التي تسيطر عليها الحكومة العسكرية التي رفضت الحداثة، وكانت النتيجة ظهور القومية المتطرفة في الثلاثينات واتخاذ قرار مأساوي بشن حرب غير ضرورية ومدمرة لا باسم الإمبراطور.
على مدى عقود قبل ذلك، كافح اليابانيون مع مسألة الهوية في مرحلة ما بعد الفترة الإقطاعية، في البداية، حظي اليابانيون بهوية وطنية واهية إلى أن برزت إصلاحات فترة مييجي التي أدّت إلى القطع مع الفترة الإقطاعية وظهور العديد من الإصلاحات لعلّ أبرزها إلغاء الهياكل الطبقية الهرمية، وتحرير الأفراد وتمكينهم من اختيار مسار حياتهم الخاص.
عايشت اليابان عصر “التنوير”، حيث تمّت ترجمة الروايات الغربية وبدأ العمل على السياسة والاقتصاد والفلسفة، وقد شبه المحدثون اليابانيون تلك الفترة بالنصف الأخير من العصر الفيكتوري، حيث اعتبروا أنفسهم في طليعة آسيا الجديدة.
حولت الحكومة اليابانية، خلال تلك العقود المشحونة، الصور والرسائل المتعلقة بالممارسات الثقافية القديمة وسبل العيش إلى وسيلة حديثة حيث أصبح الوجه الذي تسوقه لنفسها وللعالم يقوم على المزج بين الحداثة والتقاليد.
وبعثت مشاركة اليابان في مختلف المحافل في العالم وذلك خلال أواخر القرن 19 وأوائل القرن 20 بالرسالة نفسها، حيث تقبّل الحرفيون اليابانيون التقليديون أحدث المعدات الميكانيكية التي أنتجتها القوة الإمبراطورية الوليدة. إذا كان هناك لحظة كان فيها النظام الإمبراطوري معرضا للخطر، فكانت في أعقاب كارثة الحرب العالمية الثانية، المعروفة في اليابان باسم حرب المحيط الهادئ. فالتوتر الكبير الذي جمع بين الحداثة والتقاليد الذي أدى إلى ظهور اليابان كقوة عالمية، والذي ردّ بالمثل على استمرار الاستعمار الأوروبي في آسيا وقاوم نتائج الكساد العظيم، دمر في النهاية سيطرة الأقلية على الحكومة.
بلغ وفاة 4 ملايين شخص على الأقل في الحرب (مقابل عشرات الملايين من القتلى الذين لم يتم الإعلان عنهم في آسيا)، وتدمير معظم مدن البلاد فضلاً عن تدمير القدرة الصناعية، ذروته خلال الرعب النووي الذي هزّ كلا من هيروشيما وناغازاكي.
ومع ذلك، عندما حلّ الجنرال ماك آرثر في اليابان بعد أيام فقط من مراسم الاستسلام في خليج طوكيو، كانت كلمات الإمبراطور هيروهيتو، التي استمع إليها الشعب على قرص مسجل، كفيلة بجعل اليابانيين يلقون أسلحتهم، ويقبلون المحتلين، وتجدر الإشارة إلى أن ماك آرثر لم يجبر الإمبراطور على التنازل عن العرش ولا على نظام الإمبراطورية، وأدت وصمة العار التي لحقت هيروهيتو شخصيًا بسبب مواقفه المظللة خلال العقود اللاحقة لحكمه، إلى تلقيبه بمجرم حرب من قبل الآسيويين واليابانيين المنتمين إلى التيار اليساري الياباني وسط دعوات إلى حل النظام الإمبراطوري.
إذا مرّت اليابان بفترة تحول جذري فيما يتعلّق بالهوية الذاتية في صيف سنة 1945، فإن ذلك قد تلاشى أثناء الاحتلال الأمريكي، وقد كانت فترة حكم هيروهيتو وابنه اكيهيتو رمزًا لإعادة الإعمار في اليابان وظهورها كقوة اقتصادية عظمى، وتجدر الإشارة إلى أن الفضل في إحلال السلم بعد الحرب في البلاد، كان ثمرة تحالف بين كل من اليسار واليمين، ولكن الهياكل الاجتماعية والثقافية المحافظة في اليابان ضلّت سليمة، باستثناء امتلاكها للأراضي على نطاق واسع، وعلى الرغم من كل الصعاب، أصبحت العائلة الإمبراطورية بمثابة العنصر الأساسي للاستقرار في دولة تشهد بشكل متنام فترة تحديث سريع.
ويعتبر صعود اليابان بعد سنة 1945 إلى قوة اقتصادية عظمى بمثابة إنجاز وطني ساهمت فيه جميع عناصر المجتمع، بما في ذلك العائلة الإمبراطورية حيث ظلّت عنصرًا أساسيًا في هوية اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك تذكيرًا لا غنى عنه لتفرد التقليد التاريخي الياباني والشعب.
قد يتساءل الزائر إلى مدينة شينجوكو، في طوكيو، في ليلة السبت عما تبقى من تاريخ اليابان، وعلى الرغم من اختفائها بشكل متزايد، أمام مباني المكاتب والمباني الزجاجية والصلبة، إلا أن الزائر يمكن أن يلاحظ وجود المباني الآيلة للسقوط والمساكن الخشبية التقليدية، وعلى بعد مئات الأميال إلى الغرب من طوكيو، بالقرب من المنطقة الصناعية في مدينة ناغويا، تقع حديقة معمارية في الهواء الطلق مليئة بنحو 70 مبنى شيّد خلال عصر مييجي (1868-1912) حيث تم حفظها من الهدم، فأغلبها كانت نموذجًا للعمارة الغربية، التي قامت بدورها باستبدال المباني ما قبل الحداثة خلال القرن 19.
وتجدر الإشارة إلى أن النقاشات تعدّدت حول العائلة الإمبراطورية وقد استمرّت حتى ولادة طفل ذكر، حفيد الإمبراطور، سنة 2006 (أول ذكر يولد في العائلة الإمبراطورية منذ 41 عامًا)، خاصة وأن إمكانية تغيير القانون الإمبراطوري بهدف السماح للنساء بوراثة العرش أثارت جدلاً واسعًا حول دور ومكانة المرأة في اليابان، إن الحجة القائلة بأن اليابان كان لها عدّة أباطرة إناث (كان آخرها في أواخر القرن 18) استخدمت في الماضي في كثير من الأحيان بهدف الطعن في تقليد الخلافة الإمبراطورية الذي يفيد بأن الذكور فقط لهم الحق في اعتلاء العرش، وقد انتهى هذا النقاش بالتزامن مع الضغوطات التي مارسها رئيس الوزراء الحالي شينزو آبي والتي تهدف إلى مزيد من تشريك المرأة في الحياة السياسة وإتاحة المزيد من الفرص لهن.
حافظ الإمبراطور الياباني البالغ من العمر 82 سنة على جدول زمني مثقل بالاحتفالات والمناسبات، حيث ركزت أغلبها في العام الماضي على الذكرى السبعين لنهاية الحرب العالمية الثانية، ومع وجود وريث اكيهيتو، الذي يبلغ الآن نفس العمر الذي كان عليه والده عند اعتلائه العرش، ستكون هناك رؤية جديدة للعهد الجديد على أمل أن تقطع مع أشباح الماضي.
ربما الأمر يتجاوز مجرّد رغبة اكيهيتو بأخذ استراحة مُستحقّة؛ قد يكون الإمبراطور مراقبًا فذًا لحالة اليابان التي لا تزال تكافح مع الركود الاقتصادي منذ ربع قرن، ومع انخفاض عدد السكان، خاصة بعدما تفوقت عليها الصين، على الرغم من أن البلاد لا تزال مستقرة اجتماعيًا ولا تزال تفتخر بمستوى عال من المعيشة، إلا أن العديد من المواطنين أعربوا عن تخوفهم بشأن مستقبل اليابان، كما أن البنية الاجتماعية التقليدية التي توفر لليابان الكثير من الثبات هي نفسها التي تمنع المخاطرة، والديناميكية الاجتماعية والاقتصادية المبتكرة التي لا تزال تميّز بريطانيا وأمريكا، قد يمثّل الخلود المنبثق عن النظام الإمبراطوري، مبررًا فعليًا للصرامة الاجتماعية والثقافية التي تحظى بها البلاد، فتحرير الطاقات الفردية مع ضمان بقاء المجتمع متماسكًا يمثّل التحدي الأكبر الذي يواجه اليابانيين.
كما أن تنازل اكيهيتو عن الحكم قد يكون مجرد إشارة أنه من الممكن لنظام اليابان القديم في بعض الأحيان إفساح المجال للأجيال الشابة، وبالتالي، فإن الإمبراطور الذي يترك عرشه وهو لا يزال في صحة جيدة إلى حد ما، لصالح خليفة آخر، يمكن أن يؤدي إلى قبول من الرأي العام خاصة وأنه في بعض الأحيان يجب أن يكون هناك تغيير، وتجدر الإشارة إلى أن اليابان يمكن أن تستفيد إلى حد كبير من هذا التغيير، إذا ما حافظت على الاستقرار الاجتماعي، وعلى شعور التضامن.
وإذا كانت الإمبراطورية في حاجة إلى أي مساعدة في التخطيط لمراسم اعتلاء العرش المعقدة، فيمكنها أن تدعو الأمير ميكاسا، الأخ الأصغر لهيروهيتو، الذي بلغ من العمر 100 سنة حيث يعدّ الشخص الوحيد الحي الذي شارك مرتين في هذه المراسم.
المصدر:أميركان إنتربرايز إنستيتيوت