أنهت موقعة مرج دابق دولة المماليك الجراكسة عمليًا، ولم يبق سوى إعلان وفاتها بدخول مصر وإعلان تابعيتها للدولة العثمانية المنتصرة، وعلى الرغم من أن السلطان سليم بعد أن استتب له الأمر في الشام وحلب أراد الرجوع إلى بلاده، لكن الخونة خاير بك وقنبردي الغزالي وناصر الدين بن الحنش أغروه بأخذ مصر، مؤكدين له أن عسكر المماليك قد تفرقوا واختلفوا، ومن السهل الاستيلاء على مصر وثرواتها الوافرة.
تقديرات خاطئة
أرسل سليم رسله لطومان باي الذي اختاره المماليك سلطانًا، عارضًا عليه أن يثبته سلطانًا على مصر مقابل تبعيته له، قائلاً “إني أريد أن تكون السكة والخطبة باسمي، وأنت نائب عني، وأبقيك على ما أنت عليه”، وكاد طومان باي أن يوافق، لكن الأمير علان، قتل رسل سليم، ورفض أن يعطي المماليك سليمًا الطاعة والتبعية، ومازال بالسلطان طومان باي، حتى نزل على رأيه، وبدأوا في الاستعداد لقتال العثمانيين وهم في شر حال من الضعف والاختلاف، وكل واحد منهم قصده هلاك الآخر، مع استهانتهم بقوة العثمانيين واجتماع شملهم.
سليم في مصر
لما بلغ سليم ما حدث لرسله، استشاط غيظًا وصمم على دخول مصر، ولم يخرج الجيش المملوكي لملاقاة العثمانيين، لكن واجهوهم على أبواب القاهرة بسبب ضعفهم وفوضاهم، ووصل سليم إلى مشارف القاهرة في العام التالي 923م، فما استطاعت بقية الجيش المملوكي الصمود في وجهه، لأنهم كانوا في وضع عسكري واقتصادي سيء، وكان الاختلاف بينهم سيد الموقف.
الخائن باشا للعسكر
وكان أول مظاهر فشلهم، وسوء تقديرهم، اتفاق رأيهم على أن يكون باشا العسكر هو جانبردي الغزالي الذي كان ملاحيًا عليهم في الباطن (خائنًا لهم)، وهو الذي أخبر سليمًا بكل ما يدور في معسكر طومان باي، وهو الذي أشار على طومان باي بدفن المدافع في الرمل، مما أسهم في الهزيمة المنكرة للمماليك عند الريدانية.
ما إن بدأت المعركة، حتى أدرك طومان باي أن غالب عسكره خائن له، وأن إشارة قنبردي الغزالي بدفن المدافع في الرمال مكيدة دبرها مع سليم، وقاتل طومان باي ومن معه قتال الشجعان، لكن تفوق العثمانيين بالمدفعية والبنادق حسم المعركة، وهرب طومان باي إلى قناطر بني وائل، وتفرق سائر المماليك الذين نجوا من المدافع والبندق، وباتت مصر وليس فيها أحد من المماليك.
كثرت هزائم المماليك، وكثرت خيانات العربان لهم، وصاروا كلهم لهم أعداء، وعونا لعدوهم العثماني بسبب ما لاقوه من ظلم المماليك فما منهم من أحد إلا – كما قال الأمير قيت الرحبي – “من قتلنا إما أباه، وإما أخاه، وإما ابنه، وإما ابن عمه، وإما واحد من أقاربه، وهو اليوم كل واحد منهم يطالبنا بثأره القديم” في حين أن العثمانيين كما ذكر هذا الأمير” فإنهه قد جاءوهم جديدًا، وليس بينه وبينهم شيء من العداوة، ولا نالهم منهم إلا الخير، فإنه تذهب إليه أكابرهم فيعطيهم ويرضيهم ويعلق آمالهم بجزيل المطامع”.
محاولة أخيرة
حاول المماليك الجراكسة أن يعقدوا اتفاقًا مع قبيلة غزالة التي هي أشد القبائل حنقًا عليهم وأكثرها رغبة في الانتقام من ظلمهم، ووعدوهم بكل خير، فكتب طومان باي إلى شيخهم حماد بن خبير يطلب محالفتهم، أو على الأقل يكفوا عنهم ولا يعارضوهم في قتال كما كانوا يفعلون في كل معاركهم مع العثمانيين، مما تسبب في هلاك وهزيمة المماليك.
ولما وصل كتاب طومان باي لحماد بن خبير تشاور هو وأخاه سلام الذي قال له: أنت تعرف ما جرى بيننا وبين الجراكسة وما قتلوا منا وكم يعطوننا الأمان ثم يغدرون، وبعد نقاش طويل جمع أعيان عرب غزالة، أجمعوا على أنه لا سمع ولا طاعة للمماليك، فإن هذه الطائفة دولتهم قد زالت وولت، وأوقاتهم مالت وأيامهم ولت، وأعزاؤها ذلت، ولو قمنا معه ونصرناه لا يفيده ذلك بعد أن ولت دولته.
وظلت المعارك بين الطرفين تدور وتحسمها المدافع والبنادق لصالح العثمانيين بجانب الخيانات المتكررة من العربان وأمراء المماليك، لما أيقن طومان باي بالهلاك، جمع أغوات جيشه وقال لهم “اعلموا يا أغوات أن دولتنا قد زالت، وآجالنا قد مالت، وما بقي لنا في هذه الديار نصيب، ولكن لنا أسوة بمن كان قبلنا” وتعاهدوا على القتال: إما النصر وإما الموت.
الفصل الأخير
ركب طومان باي ومن بقي معه من أمراء المماليك بعد هزائمهم المتوالية من العثمانيين وتفرق الناس عنهم، إلى شيوخ عرب محارب وشيخهم، الذي أحسن إليه سابقًا، “حسن بن مرعي” في البحيرة، يحتمون من العثمانيين حتى يدبروا أمرهم، فأدخلهم في واد كبير واسع يقال له الغابة، ثم تركهم مدعيًا أنه يأت لهم بأخبار العثمانيين، ويرسل لهم يعلمهم بما يقع بالتفصيل، وأضمر في نفسه خيانتهم وتسليمهم للعثمانيين.
وكان طومان باي قد بلغ به اليأس مبلغه، فأحل مماليكه من عهودهم معه وقال لهم: “كل واحد منكم يذهب حيث أراد، وهذا آخر اجتماعنا في الدنيا، والقيامة يجمعنا في الآخرة”، وبينما هم كذلك إذ بخيل سليم تهجم عليهم، فقتل من قتل وهرب من هرب.
وبقي السلطان طومان باي وحيدًا فريدًا، وقد رمى بجميع عدته وسلاحه وملبوسه في البحر المالح حتى المصفح الفولاذ الذي ليس له نظير في الدنيا، فأخذه جنود سليم أسيرًا للسلطان سليم حتى صلبوه على باب زويلة، وكان هذا آخر مدة الجراكسة، وهو يوم الأحد الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول سنة اثنين وعشرين وتسعمائة.
فما الذي يبقى من عبر؟ نتابع في المقالين القادمين إن شاء الله
يمكنكم قراءة جميع مقالات السلسلة عبر هذا الرابط