اندلعت ثورة 17 ديسمبر/ 14 جانفي 2011 في تونس انطلاقا من مطالب قيمية بالأساس دارت حول الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
فالحرية بمدلولها الشامل هي المشاركة بأبعادها كافة خصوصًا السياسية والديموقراطية بوجوهها المتنوعة والاستقلال الوطني والكرامة الإنسانية للفرد والجماعية للوطن وتحقيق التنمية والتقدم على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وإنجاز العدالة على المستويات القانونية والمدنية والاجتماعية، وما يتصل بذلك من ضمان توفير الخدمات الاجتماعية الأساسية للمواطنين في حدود قدرتهم وبنوعية تناسب قدراتهم المعيشية، وكذلك ارتباطًا بمبدأ تكافؤ الفرص وسيادة القانون ومساواة المواطنين أمامه وإنفاذ هيبة الدولة خصوصًا لنصرة الضعفاء والضحايا من جهة وردع المتجاوزين والمستقويين بسلطة أو جاه من جهة أخرى مع ضرورة تحقيق التوازن بين ذلك كله وبين احترام حقوق المواطن وحرياته الأساسية.
إلا أن خصوصية المرحلة التأسيسية في الخمس السنوات التي تلت الثورة طغت عليها المطلبية السياسية بالتوازي مع مطالب اجتماعية لم تطرح بدائلاً ناجعة بقوة الطرح السياسي الذي تربع على عرش المطالب التي قامت لأجلها الثوة.
لقد قامت الثورة في تونس تضامنًا مع الشاب محمد البوعزيزي الذي قام بإضرام النار في جسده تعبيرًا عن غضبه على بطالته ومصادرة العربة التي يبيع عليها من قبل الشرطة البلدية، وانطلاقًا من هذه الحادثة يطرح علينا الحال تساؤلين ونحاول الإجابة عنهما:
أما التساؤل الأول فيتعلق بما إذا كانت تونس قد حققت تقدمًا في اتجاه تحقيق قيم العدالة الاجتماعية خلال السنوات القليلة الماضية وتحديدًا منذ بداية المرحلة التأسيسية؟ والإجابة عن هذا السؤال مركبة، فعلى المدى القصير الجزء الأول من الإجابة هو قطعًا بالنفي، أي أن هذا الهدف يقينًا لم يتحقق بعد بل في الكثير من الحالات لم يتم التقدم في اتجاهه أو حدث قدرًا من التقدم تلته انتكاسة أو حدث تقدم محدود.
إلا أن الجزء الثاني من الإجابة عن هذا السؤال هو أن أحداث تلك الأعوام القليلة تركت أثرًا قد لا يكون مرئيًا بوضوح من قبل البعض ولكنه بالتأكيد موجود ويتلخص في أنه على مستوى الوعي والإدراك صارت هذه المجموعة من القيم حيوية ومن الضروري توفرها، ولم تعد نوعًا من الترف الفكري أو السفسطة الفلسفية المقتصرة على صفوف النخبة المثقفة أو حتى جزء منها فقط لا غير، فقد كشف استطلاع للرأي جرى عام 2014 في بلدية متوسطة الحجم بالقرب من العاصمة تونس عن انقطاع الصلة بين التونسيين وحكومتهم المحلية فما بالك بالمناطق البعيدة عن العاصمة:
* وقد أفادت أن 4% فحسب من الأسر عبرت أنها تلقت اتصالاً من البلدية التي ينتمون إليها في الـ 12 شهرًا الماضية.
* ونحو 35% من الأسر لم تكن تعرف من هم أعضاء مجلس بلديتهم.
* وزهاء 64% من الأسر تعتقد أن أعضاء مجلس بلديتهم لا يعملون من أجل تلبية مصالحهم.
* وختامًا 38% من الأسر أفادت بأنها لا تدفع الضرائب المحلية.
وهذه الأرقام وغيرها من الإحصائيات المنشورة في الكثير من المراكز والمراصد الوطنية تعبر بشدة عن عدم ثقة المواطن في حكومته المحلية والذي زاد سوءًا وتدهورًا بصفة ملحوظة بعد الثورة، ومن ناحية أخرى لازالت الحكومة المركزية تسيطر سيطرة محكمة على القرارات الاقتصادية والسياسية، الأمر الذي جعل كثيرًا من التونسيين يشعرون بالإقصاء والحرمان من الحقوق، وأضعف ذلك أيضًا الحكومات المحلية وترك المناطق البعيدة عن مراكز السلطة السياسية والاقتصادية تعاني سوء الخدمات وقلة الفرص المتاحة.
وإذا انتقلنا إلى التساؤل الثاني وهو شديد الارتباط بالتساؤل الأول، نجد أنه معني بكيفية إحداث اختراق في اتجاه الوصول إلى مرحلة ترجمة قيم الكرامة والعدالة إلى واقع معاش وملموس، والإجابة عن هذا السؤال قد ترجمته المرحلة التأسيسية في الباب السابع من الدستور التونسي الذي يحتوي على اثنى عشرة فصلاً حيث شرع لمبدأ اللامركزية في الدولة وتفصيل طرق انتخاب السلطة المحلية وكيفية تدبير مصالحها وفقًا لمبدأ التدبير الحر.
كما مكن الدستور السلطة المحلية من القوة القانونية والمعنوية اللازمة كباقي السلطات الثلاث الأخرى على غرار السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية مع تدعيم الجماعات المحليّة بصلاحيات نص عليها في الدّستور.
ويعتبر الباب السابع هاجس وكابوس الأحزاب السياسية في تونس لمدى أهميته في المرحلة القادمة، فهو مصيري بالنسبة لهم، فمن لديه الزاد البشري الأقرب من المواطنين والأكفأ سوف يفتك الساحة السياسية لعقود وأقرب مثال يمكن الرجوع إليه هو نجاح حزب العدالة والتنمية التركي في افتكاك المشهد السياسي لسنوات بقيادة رجب طيب أردوغان الذي قاد بلدية إسطنبول بنجاح في مرحلة اقتصادية قاسية.
وفي نفس السياق رغم غموض الباب السابع من الدستور من ناحية تنزيله على الواقع، فحيث وقع تأجيل تفعيله لعدة مرات إلا أن استطلاع الرأي نفسه الذي أجري عام 2014 يُظهِر أن المواطنين حريصين على بناء علاقة جديدة مع حكوماتهم المحلية، وسيكونون شركاء في تحالف من أجل التغيير، فقد أفاد نحو ثلاثة أرباع الأسر بأنها تريد تلقِّي مزيد من المعلومات من البلدية، وتعرُّف المزيد عن عملية التخطيط ووضع الموازنة، وقال 67% إنهم سيكونون مستعدين لدفع ضرائب محلية أعلى إذا تأكَّدوا أنها ستؤدي إلى تحسين الخدمات المقدمة إليهم.
ومع ذلك فإن تنزيل الباب السابع من الدستور يعتبر أكبر تحدٍ ينتظره التونسيون نظرًا لما أتى به من ترسانة من مبادئ ومفاهيم حديثة تؤسس لتوجه مبني على التشارك والوفاق في ظل حكم محلي يعتمد المقاربة التشاركية ومبادئ الحوكمة والشفافية.
فهل يستطيع الاستحقاق السياسي الذي انتهج منهجًا توافقيًا وتشاركيًا في الحكم، حيث وقع ترجمته في دعم حكومة يوسف الشاهد من قبل مجلس الشعب، أن يحقق ما عجزت عنه جميع الحكومات السابقة؟
المواطن التونسي سوف يعطي ثقته لآخر مرة، حتى يثبت السياسي قدرته على تجاوز المرحلة التأسيسية نحو البناء الذي يمر وجوبًا عن طريق السلطة المحلية وتفعيل جميع الفصول المتعلقة به.