في هذا الزمن الذي أصبح فيه الضرير مبصرًا، والجاهل معلمًا، وهجر فيه الناس أعماق الحقيقة بإرادتهم إلى عالم السطحيات، هنا يجب أن ندق ناقوس الخطر عن ظاهرة جديدة تغزو مجتمعاتنا وهي أمية المثقفين.
قديمًا كانت جدتي لا تجيد القراءة والكتابة ولكنها كانت مدركة ومتيقظة بما يدور حولها، تعمل أعمالها المنزلية على صوت راديو البي بي سي وتسمع آخر الأخبار والمنوعات وربما برامج الثقافة، كنت عندما أكلمها أحس من خلال مفهومي الطفولي كم هي متعلمة وتعرف الكثير، وكانت تختلط علي الأمور عندما تطلب مني أن أقرأ لها عناوين الجريدة، وإذا استوقفها أسماء بعض السياسيين أو المشاهير خلال قراءتي، تقاطعني وتقص علي قصصهم أو حقيقتهم التي لا يظهرها الإعلام، وكم كانت تسعد وتستطيل ابتسامتها عندما أقرأ لها عن شخصية نسوية نشيطة وتقول لي “أهم شيء التعليم يا ستي”، أترك الجريدة وأعود لألعابي وهي تعود إلى المطبخ وعالمها المعرفي في صندوق الراديو الصغير.
ومثل جدتي الكثيرات من النساء اللواتي لم يحالفهن الحظ بالتعليم، ولكن خبرتهن وعلمهن في الحياة تفوق الكثيرين من حاملي أعلى الشهادات، ففي أي موضوع أستشيرها فيه كانت جدتي تغور في أعماق الموضوع ولا تحكم عليه من عنوان سطحي سمعته هنا وهناك، ربما كانت تركز على الزمن القادم أكثر من تركيزها على ماضي فات ولن يعود.
ما يشهده عالمنا الحالي هو إعصار قادم من جهل المثقفين والمتعلمين، فبرغم العلم الذي يحمله أحدهم متمثلًا بشهادة جامعية من أرقى الجامعات يزين بها شكله الاجتماعي تكتشف أنه لا يجيد أبسط أبجديات الحوار ويفتقر للمعرفة
ما يشهده عالمنا الحالي هو إعصار قادم من جهل المثقفين والمتعلمين، فبرغم العلم الذي يحمله أحدهم متمثلًا بشهادة جامعية من أرقى الجامعات يزين بها شكله الاجتماعي، تكتشف أنه لا يجيد أبسط أبجديات الحوار ويفتقر للمعرفة، والأنكى من ذلك أنك تجده متمسكًا بأفكاره الوثنية التي يعبدها ويقدسها ويهاجم مخالفها بشراسة فاقت والد سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما أمر بإحراق ولده الذي حطم الأوثان.
وهنا عندما أتكلم عن وثنية الأفكار أتذكر أبي جهل القرشي، الشاعر وبليغ اللسان في عصره، التاجر الذي كان يطوف البلدان، عندما كان مُصرًا على عبادة هُبل الأخرس والأصم المعجون من الطين رافضًا أن يبصر إشراقة الفكرة الأخرى القادمة من سيدنا محمد عليه السلام، وهذا هو حال تمسكنا بفكرة ما أو توارثنا أفكار شخصيات لديهم هواية حشو الرؤوس الفارغة بأفكاراهم ومعتقداتهم، صانعين بذلك أوثان جديدة من آخرين لديهم استعداد كامل بأن يكونوا اللات والعزى وُسواع وهُبل .
إن هؤلاء الأميون المثقفون أشد خطرًا على مجتمعاتنا من الأمي الخام الذي لا يفك الحرف والذي يعتبر ضمن المؤسسات العالمية جاهلًا، فهم يأخذون من العلم مقدارًا ضئيلاً لتعزيز وثنية أفكارهم، رافضين نداء العقل والتطور وتسارع الزمن وثورة التكنولوجيا، فمن ضمن هؤلاء الذين يقتطعون من الآيات القرآنية ما يوثق فكرتهم المغالطة لمنهج معين ويغالطون ما حدثنا به رسولنا الكريم، وإذا واجهتهم بما صدر عن الرسول من معاملات يردون عليك إن هذا كان في زمن الرسول وزمننا الآن قد تغير ونحن في زمن التكنولوجيا.
هؤلاء الأميون المثقفون يتمتعون بقدرة عجيبة على تحجيم الآخرين ضمن قوالبهم الخاصة، وإذا شذ أحدهم عن القالب اعتبروه من الخوارج ويعدمونه فكريًا واجتماعيًا وربما شخصيًا.
وحرب هؤلاء الجهلة طويلة ضد أهل العلم والعقل تشبه في كينونتها حرب داحس والغبراء التي امتدت أربعين عامًا بسبب ناقة، بل وتمتد حروبهم لتصل إلى المرأة؛ فيضعونها في قالب من أربعة أضلاع، فهي ضمن عقيدة وثنيتهم خُلقت لذلك ولا يحق لها أن تفكر خارج هذا الإطار وإن خرجت وتعلمت وتثقفت أصبحت بالنسبة لهم كمن كفر بربوبية هُبل بل تمشي في أسواقهم تعلن على الملأ صغر عقولهم المتعلقة بعبادة ما لا يضر ولا ينفع، وتبدأ التصفية لمثل هؤلاء النساء بما يتوافق مع سطحنة أفكارهم بأنصاف الآيات القرآنية وتلفيقات تنسب إلى رسولنا الكريم.
ولكنني أتعجب ألم يسمع هؤلاء بما قاله حافظ إبراهيم إن “الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق”، ألم يقرأ هؤلاء عن أم المؤمنين خديجة – رضي الله عنها – التي كانت سيدة أعمال ولها تجارة تجوب البلدان وربت أمهات المؤمنين فاطمة ورقية وأم كلثوم – رضي الله عنهن -، ألم يسمعوا عن أول طبيبة في الإسلام وعن خولة بنت الأزور وعن أم سلمة ومريم الإسطرلابي وعن أم الدرداء التي قالت يومًا “عبدت الله بكل الوسائل، ولكني لم أجد أفضل من وسيلة في عبادته أفضل من مناقشة العلم مع العلماء الآخرين”، وتمتد القائمة.
لذلك لا بد لنا من مواجهة هذه الظاهرة ولا نخشى أن نحمل فوؤسنا المعرفية ونهدم هذه الأوثان ومثلنا لن يخاف نار حربهم لأنها حتمًا ستكون بردًا وسلامًا علينا.