حزب العدالة والتنمية
ليست كتلة حزب العدالة والتنمية هي أعضائه وفقط بالقطع. فالحزب على مدار سنوات ضخ دماءًا جديدة، ورسّخ مشروعه ورؤيته، في أركان الدولة المختلفة، مثلًا “خلق بنك” الذي استهدفته القضايا المُثارة مؤخرًا هو بنك الدولة، وهو الذي تتاجر تركيا مع إيران عبره. مؤسسات الدولة التنفيذية لم يعد التعيين فيها انتقائيًا كما كان في السابق، حيث كانت أي بوادر “دينية” تعني ضياع الفرصة في وظيفة رسمية لا سيما أيام أتاترُك، ورفع الحظر عن الحجاب في المؤسسات الحكومية التركية هو أحد الخطوات في هذا الاتجاه. الوزارات المختلفة والتي تدير ملفات مهمة باعتبار تركيا مركزية -نسبةً إلى ماضيها العثماني الذي لم يشهد دولة بهذا النفاذ الاجتماعي، ونسبةً إلى طبيعتها الجغرافية التي قد تسمح لها بقدرٍ عالٍ من اللامركزية- تم “كنسها” من الوجوه القديمة بشكل كبير.
فيما يخص التعليم، هناك تغيّرات عدة قام بها البرلمان وأصدرتها السلطة التنفيذية لفك القيود التي وضعها انقلاب 1997 على مدارس “الإمام خطيب” التركية، وهي تُعَد “كنز” الحركات الإسلامية، وهي مدارس ثانوية وإعدادية موازية للتعليم الأساسي تهتم بالدين، وكانت الدولة قد وحَّدتها بعد تأسيس الجمهورية لتخريج أئمة وخطباء المساجد، ووضعت فيها مناهج محكومة بسياساتها “التنويرية”، إلا أنها ظلت بمجرد وجود محتوى ديني فيها تخرّج خريجين في عداء مع الطبيعة العلمانية للدولة، ناهيك عن أن معظم من يدخلوها يكونون أصلًا من خلفيات أقل ما يُقال عنها أنها غير علمانية. أردوغان هو أحد خريجي تلك المدارس، ويُرفض قبولهم في الكليات العسكرية رغم أن البرلمان تقدم بطلب عام 2012 يطالب فيه القوات المسلحة بقبولهم.
بجانب الإمام خطيب، ومنذ تولي عبد الله كول رئاسة الجمهورية، أصبح المجلس الأعلى للتعليم في متناول الحزب أو مشروعه –إذ أن الرئيس يستقيل من أي حزب بتوليه المنصب-، وكذلك مؤسسات قضائية أخرى له الحق في أن يعيّن جزءًا منها. في الحقيقة دخول عبد الله كول قصر الرئاسة لا يقل أهمية عن وصول الحزب للحُكم عام 2002، إذ أن سلطات الرئيس هي الوحيدة التي فتحت الباب أمام مشروع الحزب للدخول إلى المؤسسات غير التنفيذية. فمن سلطات الرئيس، والتي يباشرها كول منذ عام 2007 حين أصبح رئيسًا، تعيين أعضاء المجلس الأعلى للتعليم كما ذكرنا، وأعضاء مجلس الدولة للمراقبة، والذي ينظر بطلب من الرئيس في شفافية وأداء أي مؤسسة عامة باستثناء الجيش والقضاء، وأعضاء المحكمة الدستورية، ورُبع أعضاء مجلس الدولة، والنائب العام، ونائبه لمحكمة الاستئناف، وأعضاء محكمة الاستئناف العسكرية، وأعضاء المحكمة العسكرية الإدارية العُليا، وأعضاء المجلس الأعلى للقضاه والنواب. وكول ليس بالضرورة أن يكون قد عيّن مقربين له أو للحزب، إلا أنه يمكننا أن نقول أنه عيّن أشخاصًا يثق في “ليبراليتهم” وحياديتهم، أو عدم تطرف علمانيتهم تجاه المحافظين. على سبيل المثال، قام كول في 2010 بتعيين الأستاذ هارون جانسِز للمجلس الأعلى للتعليم، وهو ممن وقعوا على بيان المطالبة برفع الحظر عن الحجاب.
بالإضافة إلى السلطة التنفيذية والمشروع التركي الجديد الذي دشنه الحزب وأصبح أكثر تجذرًا في بيروقراطية الدولة التنفيذية، فهناك مجموعات اقتصادية تقف خلف الحزب، وإن لم تكن بنفس حجم حركة كولن. فالموصياد، وهو تجمع رجال الأعمال المحسوبين على الحزب وعلى الإسلاميين بشكل عام، نصيبه من الدخل القومي التُركي 15%. ورجال الأعمال من الموصياد هم أيضًا ممن بدأوا رحلتهم مع انفتاح أوزال، والذي رحّب فيه بالكثير من الإسلاميين أو ذوي الجذور الإسلامية اجتماعيًا واقتصاديًا، أولًا، لأنه لم تكن هناك قوة سوى النخبة العلمانية القديمة، وكان حزبه المحافظ نسبيًا في حاجة إلى موازنة هذه الهيمنة الاقتصادية للعلمانيين، وثانيًا، لأن القوات المسلحة نفسها انفتحت نسبيًا بعد انقلاب 1980 على الإسلاميين باعتبارهم عامل موازن لليساريين الذين وصل حراكهم لأوْجِه في السبعينيات، وكانت مواجهاتهم مع اليمين القومي المتطرف في الشوارع أحد الأسباب الرئيسية للانقلاب. بسقوط الاتحاد السوفيتي لم يعد هناك مجال للعودة للخلف، وأصبح الاقتصاد التُركي أكثر انفتاحًا على العالم، حتى تولى حزب العدالة والتنمية الحُكم وشرع في عمليات خصخصة كبيرة نال فيها رجال الأعمال المحافظون القادمون من قلب الأناضول نصيبًا كبيرًا، ومنهم من هو محسوب على حركة كولن أيضًا. ليس مجرد الخصخصة، ولكن منح عقود استثمارات في الخارج، وتولي صفقات كبرى مع شركات حكومية في دول أخرى تشمل ثروات طبيعية كالغاز أو البترول مثلًا، كان لهؤلاء منها نصيب الأسد.
التكتل المساند للحزب يملك عددًا من المنابر الإعلامية: جريدة يَني شفق وقناة مملوكة لمجموعة البايراق، والتي تملك أعمالًا أخرى في مجالات السياحة والطاقة والصناعة والإنشاء. مجموعة جالِق، ويديرها زوج ابنة أردوغان، تملك أربع صُحف، منها “صباح” ثالث أكبر جريدة تركية، وأربع قنوات ومحطتي راديو، بالإضافة إلى أعمال في مجال الأقمشة والاتصالات والإنشاء والطاقة. وللمجموعة أنشطة كثيرة في دول أخرى، فـ”جالِق” للطاقة ناشطة في حقول بترول العراق وأفغانستان وآذربيجان وتركمنستان، كما تملك المجموعة شركة اتصالات “ألب تليكوم” في ألبانيا. مجموعة إخلاص هي الأخرى من المقربين للحكومة وتملك جريدة ومحطة راديو وخمس قنوات، بالإضافة لأعمال في صناعات خفيفة. مجموعة يلْدِز (Yıldız) من أكبر الشركات الغذائية ورأسمالها يتجاوز عشرة مليار دولار (صاحبة حلويات “أولكر” المعروفة)، وهي مقربة من أردوغان. مجموعة بويداق برأس مال يتجاوز 4 مليار دولار، وباستثمارات في أكثر من مائة بلد، والتي بدأت بالأثاث ثم توسعت لقطاعات أخرى (صاحبة محل استقبال للموبيليا)، هي أحد “النمور الأناضولية” المرموقة التي صعدت مع أوزال، ودعمت الحزب من خلال الموصياد العقد الماضي. رُغم هذا الدعم لمشروع الحزب والخلفية الاجتماعية المحافظة المشتركة التي تجمع هؤلاء النمور مع كوادر الحزب، إلا أن اتخاذ خطوات سياسية راديكالية دون حساب اقتصادي دقيق يمكن أن يضر بعلاقة تركيا مع بعض الدول وبالتالي استثمارات هؤلاء فيها، وهو ما حدث هذا العام في العديد من المناسبات من قبل أردوغان، ولاقى انتقادًا من مصطفى بويداق، رئيس مجموعة بويداق، والذي طالب أردوغان بالعمل على تحسين العلاقات بمختلف الدول.
بالإضافة إلى وجود تكتل اقتصادي يقف خلف الحزب، فالحزب يستند إلى شرائح شعبية واسعة قد لا تكون منظمة كما الحال في حركة كولن، إلا أنها أوسع كثيرًا من مجرد “حركة”. فهو في النهاية يستند إلى الشرعية التي تعطيه إياها ويحتاج أصواتها كشرائح مليونية في دولة ديمقراطية، لا أن ينظم مجموعة من بضع ملايين كحركة كولن. فأردوغان، يمثل، ولا يزال، التيار الرئيسي المسلم الذي لم يجد لحزبه بديلًا حتى الآن.
الحركات الإسلامية التقليدية معظمها من الكتل التي يمثلها الحزب، فبعض أعضاء حركة النورجي التي قامت على نسخ ونشر رسائل النور لسعيد نورسي، والتي تختلف كثيرًا مع حركة كولن رُغم أن كليهما يدَّعي أنه من تلامذته، مؤيدون للحزب، والكثير من أتباع الطرق الصوفية التقليدية كذلك مثل النقشبندية. ويُستثَنى فقط من يصوتون لحزب السعادة، وهم ليسوا كُثُر نظرًا لفشل مدرسة أربكان ونجاح أردوغان في العقد الماضي سياسيًا، أضف إلى ذلك أن نعمان قورتلمش رئيس حزب السعادة، الناجح في أواخر العقد الماضي، انضم لحزب العدالة والتنمية عام 2012. التيار الرئيسي في محافظات الأناضول مُحافِظ، وكثير منهم لا يستسيغ الاعتدال الزائد في حركة كولن، ويعَد أيضًا من أنصار الحزب، وإن كان للحركة وجود في تلك المناطق. فالمعرفة الدينية بشكل كبير تنتقل عبر الأسرة، وهي معرفة لم تتأثر بعلمنة الدولة التي نجحت نسبيًا في إقصاء الدين من المجال العام فقط في عقودها الأولى، ونجاحاتها في الأناضول لم تكن بنفس نجاحاتها في المدن الكبيرة.
أضف إلى ذلك ما لا يقل عن نصف الأكراد ممن وجودوا كمواطنين خدمات على مدار العامَين الماضيين، وممن وجودوا تحسنًا كبيرًا في أوضاعهم كأقلية عرقية، لا سيما خطوات مثل تدشين قناة رسمية بالكُردية والسماح للمدارس غير الحكومية بتدريس الكُردية والتعامل مع كردستان العراق والتكامل الجاري بين المنطقتين وزيارة برزاني الأخيرة لديار بكر وسماعهم لكلمة كردستان لأول مرة من رأس الدولة التركية. ورغم ذلك يظل الكثيرون، وخصوصًا من الأجيال الكردية القديمة الأكثر ابتعادًا عن “العاطفة الإسلامية” التي تشجع الكثير من الشباب على التصويت للحزب، أكثر ميلًا إلى حزب السلم والديمقراطية الكردي. كما أن المنتسبين لحزب العمال الكردستاني والقوميين من الشباب يرفضون خطوات أردوغان ويعتبرونها غير كافية.
غياب أي بديل لحزب العدالة والتنمية، من حيث الكوادر والرؤية لإدارة البلاد بشكل يومي، هو أحد أرصدته الأساسية لدى الناس، فأحزاب مثل الشعب الجمهوري والحركة القومية رغم أنها ليست أحزابًا صغيرة، إلا أنها لا تملك مشروعًا سياسيًا سوى الدفاع بين الحين الآخر عن مبادئ الجمهورية وإرث أتاتُرك والهوية التركية، إلخ، والناخب التركي يعلم أن رحيل الحزب سيعني تدهورًا بشكل ما. لماذا لا توجد بدائل إذن؟ وأين هم العلمانيون الذين هيمنوا على تركيا ثمانين عامًا؟