ترجمة وتحرير نون بوست
كنت منذ أسبوع في مدينة سراييفو أقضي وقتًا ممتعًا مع بعض الزملاء الجامعيين هناك، وقد سألني أحد الباحثين من بين أقراني عن الطريقة المثلى التي يمكن أن تنجح فيها في بحثك، مع الاهتمام بأطفالك، فتشاركت معه خلاصة التجارب التي تعلمتها: “الأطفال يحتاجون للنوم، وأنت تحتاج وقتًا للعمل، اعتمد طريقة فيبربر، أجّل أعمالك إلى الليل، في ذلك الوقت تصبح المقبلات لذيذة”.
عندما أعادني الأستاذ إلى مكان النزل بسيارته، سألته عن بعض التفاصيل حول الحياة السياسية في البوسنة، وقد قادنا الحوار مباشرة إلى الحديث عن المجزرة التي تعرض لها مسلمو البوسنة في سربرينيتشا التي قُتل فيها أكثر من 8 آلاف شخص من المسلمين بطريقة بشعة على أيدي القوات الصربية، ثم سألته عما إذا كان أحد أو بعض منفذي هذه الجرائم قد اعترفوا في وقت سابق، بما ارتكبوه، فأجابني الأستاذ أن البعض قاموا بتوثيق هذه الأحداث من خلال تسجيلات فيديو، وأضاف “يمكنك الذهاب إلى محل بيع الفيديوهات في بلغراد بصربيا، واقتناء كل الفيديوهات التي توثق هذه الجرائم”.
لم يكن لدي ما أضيفه حول هذا الموضوع في البداية، لذلك التزمت الصمت، لكن الأستاذ الصربي واصل قائلاً “في مدينتي التي توجد في الجزء الصربي من البوسنة، يمكنك التوجه إلى محل لبيع الفيديوهات، واختيار أي فيديو يروي قصة هذه الأحداث”، وقد دفعني ذلك إلى التساؤل عن السبب الذي يجعل بعض الأشخاص فخورين بقيامهم بمثل هذه الأفعال إلى درجة توثيقها في فيديوهات.
أضاف الأستاذ “عندما كنت في سنّ الثانية عشرة، شاهدت عائلتي: أمي وأبي وكل أعمامي يتعرضون للقتل أمام عيني، لقد تعرض جميعهم للقتل أمام بيتنا، وبينما لا زال الأشخاص الذين ارتكبوا هذه الجرائم يعيشون معنا في المدينة، وعندما أمر بشوارعها في طريقي إلى البيت ألتقي بهم”.
لقد تفاجأت حقًا، ولم أعد أدري ما يمكن قوله، بعدما أدركت أن ذلك الشخص الذي كان يسألني منذ قليل عن أفضل النصائح حول تربية الأطفال، عاش ماضيًا مماثلاً.
وواصل الأستاذ، “عندما عدت هددوني قائلين، ما الذي دفعك للعودة؟ ألا تعتقد أننا قادرون على إنهاء ما بدأنا به؟”، سألته حينها عما إذا كان يعرف جيدًا الأشخاص الذي قتلوا عائلته، فأجاب “هل تدرك جوناثون أن الرجل الذي قتل عمي، لم يكن سوى أحد أصدقائه المفضلين؟ لقد كان زميله في العمل لسنوات عديدة، وعرّاب ابنه”.
كيف يمكنك قتل أصدقائك؟
لقد بدا عاجزًا عن العثور على تفسيرات منطقية لما حدث، وقد خذلته اللغة عندما أراد وصف تلك المشاهد، فاللغة في نهاية المطاف سوى نظام ساذج يعجز غالبًا عن التعبير عن افتراضات محددة بطريقة جيدة، كيف توظف اللغة لوصف الأمور الباطنية التي تفسر طبيعة العلاقة التي وجدت نفسك في إطارها منذ ولادتك، وشكلت جزءًا من التركيبة المعقدة لعالمك الذاتي، في الحقيقة، أعتقد أنه حاول جاهدًا.
أضاف الأستاذ “كل ما أستطيع قوله أن القنوات التلفزيونية الصربية كانت تعد للحرب قبل سنوات من بدايتها، عندما كانت تردد بطريقة محمومة، أن المسلمين لا يتقنون سوى الاختباء، حتى أفضل أصدقائك قد يخفي حقيقته عنك، فعندما تدير له ظهرك، يقطع عنقك”.
لقد استغرق الأمر سنوات طويلة من الإعداد، وقد شاهد الصرب طيلة هذه السنوات تقارير إخبارية وأفلامًا تدور كلها حول محور واحد: “كيف تطعم أسود حدائق الحيوانات في صربيا رؤوس المواطنين الصرب” (ولم يكن هناك أسود في حدائق حيوانات صربيا)، أو كانت تتحدث عن المذابح التي يقوم بها “الأتراك” (في إشارة إلى التسمية التي يطلقها الصرب على مسلمي البوسنة)، في حق الصرب ورغبتهم في انتزاع أرضهم منهم، وفي أواخر القرن العشرين، لم تتوقف وسائل الإعلام الصربية عن بث هذه الرسائل، وقد ازدادت حدتها خلال الثمانينات والتسعينات.
لقد تحول الصرب إلى ضحايا العنف الممنهج والمجازر، وخلال الحرب العالمية الثانية تعرض مئات الآلاف من الصرب للقتل بشكل جماعي، وقد قادت ميليشيات يوستاشي الفاشية هذه العمليات، بهدف إقامة دولة كرواتية مستقلة في يوغسلافيا، وأدت عمليات القتل الجماعي، والعنف التي تبنتها ميليشيات يوستاشي إلى ظهور ميليشيات شيتنيك التي كانت تهدف إلى حماية المملكة الصربية في مواجهة الخطر المزدوج من المسلمين والكرواتيين، ومن بين التناقضات الغريبة في ذلك الوقت، أن مسلمي البوسنة كانوا من بين أبرز المجموعات الدينية التي لم تتحول إلى ميليشيات مسلحة، ولم تنخرط في أعمال العنف والقتل التي شهدتها نهاية القرن العشرين.
لقد تحولت مشاهد العنف والخوف التي شهدتها صربيا في الماضي، سواء كانت وهمية أو حقيقية، واقعية أو مضخمة، إلى مواد إخبارية تتداولها القنوات الصربية بطريقة أصبحت من خلالها هذه المشاهد تشكل جزءًا من الحياة اليومية لكل مواطن في صربيا.
أخبر أحد المقاتلين السابقين في مليشيات يوستاشي صديقه الصربي أنّ “كل الصرب مذنبون بسبب تورطهم في أحداث يوغسلافيا سابقًا، وأن الصرب جميعهم سيدفعون ثمنها باهظًا إلى آخر رجل منهم”، أما اليوم فإن مشاعر الكراهية والانتقام أصبحت موجهة نحو المسلمين، العدو الأبدي للصرب.
عندما كان صديقي الجديد يروي دون انقطاع قصته، أدركت أن هناك رابط مشترك بين كل هذه المآسي التي تحكم عصرنا، إن جرائم القتل أمر فظيع، لكن قتل الأبرياء والمدنيين أمر أكثر فظاعة، إن البشر لا يمكن أن يقتلوا الأطفال والنساء بهذه السهولة، ولا يمكن أن يكونوا قادرين على قتل أصدقائهم بينما يحدقون إلى السلاح مصوبًا إلى رؤوسهم، وهم يدركون أنهم على وشك ملاقاة مصيرهم المأساوي.
ما الذي قد يدفع شخصًا ما لقتل طفل بريء أو أصدقائهم؟ في الحقيقة إن التفسير الوحيد لهذه النزعة الغريبة التي تدفعهم لارتكاب مثل هذه الجرائم الفظيعة، هي الكراهية التي تعمل على تجريد البشر من كل مقومات إنسانيتهم، من خلال العمل على تكريس فكرة أن الإنسان الآخر لم يعد إنسانًا.
إن الأمر يتعلق أساسًا بفكرة مجردة، أكثر مما يتعلق بأشخاص معينين، ولذلك فإن إزالتهم من الوجود لا تعني شيئًا، فإذا كانوا تجسيدًا سطحيًا لطبيعتنا، فإن العنف لن يجدي معهم، أما إذا كانوا وحوشًا، فإن الرد عليهم بالعنف سيؤدي إلى نتائج وخيمة، إن مثل هذه الاستنتاجات يمكن ملاحظتها في الحروب.
إن الأعمال الدرامية والأفلام في الولايات المتحدة الأمريكية على عكس صربيا، تعمل على تذكيرنا بالتأثير المدمر لهذا السم الذي يحطمنا من الداخل، بينما تشفينا مقاومته من أمراضنا الداخلية، لكننا أهملنا حقيقة أن الصراعات نادرًا ما تكشف عن نفسها بطريقة واضحة، فهي نتيجة محتملة لقرارات سياسية خاطئة، عندما يعتقد البشر أن الحروب يمكن أن تبرر كل شيء من أجل الحفاظ على الرفاهية ونمط الحياة العصرية.
مصر ومجزرة رابعة في سنة 2013
عندما كنت مستلقيا الليلة الماضية في سراييفو، استحضرت مشاهد القتل والعنف في المجزرة التي قامت بها قوات الأمن المصرية في ميدان رابعة العدوية سنة 2013، عندما قام الجيش المصري بقتل 1150 شخصًا في القاهرة، وقد اعتبرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” أن هذه المجزرة ترتقي إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية. وخلال الأشهر والسنوات القليلة التي تلت مجرزة رابعة، اعتقلت القوات المصرية، أكثر من 14 ألف شخص، بينما تشير بعض المصادر الأخرى الموثوقة إلى أن العدد يمكن أن يصل إلى 53 ألف، يخضعون يوميًا لمعاملة قاسية من الاغتصاب والتعذيب.
إن الأحداث التي شهدتها مصر في صيف سنة 2013 كانت صادمة، لكن الصدمة كانت أكبر بسبب مواقف شريحة واسعة من المجتمع المصري، التي ابتهجت بهذه الأحداث المؤسفة، احتفل الإعلامي المصري الساخر، باسم يوسف بالانقلاب الدموي، من خلال أدائه لأغنية ورقصة ابتهاجًا بسقوط حكم مرسي، وقد ذكر يوسف في أغنيته أنّ مرسي وحكومته هددوا المصريين بالإرهاب.
إن مشاهدة هذه الأغنية والاستماع لها بعد سنوات من الانقلاب العسكري في مصر، يجعلني أشعر بالأسف لما آل إليه مصير الشعب المصري، والانتقال الديمقراطي في البلاد، بعد قرابة ثلاثة سنوات من هذه مجزرة رابعة، يبدو أن مشاهد عمليات الاعتقال، والقتل الجماعي، والتعذيب التي طالت آلاف المصريين بعد الانقلاب قد محيت نهائيًا من أذهانهم، ومن المؤسف حقًا أن بعض المصريين أصبحوا يعتقدون أن العنف المسلط على رقابهم أمر مبرر، بسبب “الإرهاب” الذي ارتكبه الإخوان المسلمون في مصر.
إن تناقضات المشهد السياسي والإعلامي المصري أصبحت واضحة، فالإعلامي المصري باسم يوسف الذي نصّب نفسه مدافعًا عن حرية التعبير في مصر، كان يتحدث دائمًا عن “إرهاب” مرسي، ويكيل الانتقادات والشتائم لنظامه، لكن برنامجه الساخر كان يبث رغم ذلك بطريقة عادية إلى حين وصول عبد الفتاح السيسي للسلطة، فاضطر باسم يوسف بعد ذلك إلى مغادرة البلاد، ولم يكن “إرهاب مرسي” السبب في ذلك.
لم يدفع مرسي حكومته إلى تمرير قوانين تجبر النساء على ارتداء الحجاب كما زعموا، أو إجبار غير المسلمين على دفع الجزية، ولم يكن مرسي من ضمن بقائه في السلطة ونصب نفسه دكتاتورًا على المصريين، كما ادعى محمد البرادعي الذي قال “إن الفراعنة أنفسهم لم تكن لديهم مثل هذه السلطة التي يمتلكها مرسي”.
هل كان مرسي الذي أطاح به السيسي بسهولة، حقًا فرعون مصر؟ أم أن التشبيه كان أقرب إلى البرادعي الذي كان يكيل الشتائم لوطنه، مما دفعه إلى الاستقالة من الحكومة ومغادرة البلاد؟
إن القوى التي تجرد البشر من إنسانيتهم ثم تقوم بسجنهم وقتلهم، هم نفس الأشخاص الذين يعملون لاحقًا على محو كل هذه الذكريات المؤلمة من ذاكرتنا.
المصدر: مؤسسة المدينة